كنت في الصف الرابع الابتدائي, حين أعاد مدرس الحساب كراستي بعد تصحيحها, فوجدت دائرة كبيرة بالقلم الأحمر, عشرة علي عشرة, وجنبها كلمة غشاش أكبر من الدائرة نفسها. كنت تلميذا ريفيا محولا من مدرسة قريتي, بعد بدء الدراسة بثلاثة أسابيع ربما أربعة, كنت جديدا وغريبا وخجولا, لم استطع صد الصفة اللعينة عن نفسي, وعشت مع الدرجات النهائية وغشاشا ما لا يقل عن شهر, ونادني المدرس ذات مرة وصرخ في أمام كل الفصل: يعني لازم تغش من اللي جنبك, عيب واعتمد علي نفسك. كانت درجاتي دائما هي نفس درجات التلميذ الجالس بجانبي علي الدكة. قلت منكسرا: أنا لا أغش. شخط قائلا: روح اترزع ياغشاش. بعد أيام دخل الفصل متنمرا: فيه امتحان وتعالي هنا, أقعد علي الدكة المكسورة في نهاية الفصل وحدك. كتب مسائل الحساب علي السبورة, وانزويت وحيدا أحلها, ثم رفعت يدي بعد أقل من نصف الوقت المسموح به: خلصت. رد وهو قادم ناحيتي: طبعا لم تحل شيئا وخلصت بسرعة. أخذ ورقة إجابتي متأففا.. وتوالت كلمة: خلصت من الفصل تباعا. دخل في اليوم التالي ونادي علي اسمي دون تكشيرة ولا غضب وقال: انا ظلمت زميلكم وهو شاطر فعلا وجاب أزيد من دسوقي بثلاثه درجات, دسوقي جاري علي نفس الدكة, وفي الشارع الذي اسكن فيه بشبرا خلف كنيسة سانت تريزا وقسم الساحل. ولم أحب هذا المدرس قط, ولا أذكر اسمه الآن.. لكن أحببت المدرس سمير ومازلت مدينا له دينا يستحيل رده.. انتقلنا إلي مدرسة الإمام محمد عبده الابتدائية, خلف جراج الاتوبيسات بالترعة البولاقية, بعد أن آلت مدرسة شيبان للسقوط, كان سمير شابا في حدود الثلاثين من عمره, مخلصا متفانيا, ومحبوبا منا جميعا بالرغم من استخدامه المفرط للعصي في العقاب وبسن المسطرة علي ظهر اليد, ويتابعنا تلميذا تلميذا بدقة, ويناديني بلقب الحساباتي: قم ياحساباتي حل المسألة دي علي السبورة. كان نظام التدريس أيامنا يخصص أول عشر دقائق من حصة الحساب للتدريبات الشفاهية, أي يقرأ المدرس المسألة علينا ولا يكتبها علي السبورة ونحلها شفاهة, كنوع من التدريب العقلي علي التفكير العلمي المنظم. وفجأة اكتشف الأستاذ سمير غيابي عن المدرسة لثلاثة أيام متتالية, ثم طالت إلي ما يقرب من سبعة وعشرين يوما متصلة. كانت أمي قد عانت الأمرين, إذ مضي أبي علي درب جدي, وتزوج للمرة الرابعة, وحين يفعلها يختفي من حياتنا في الأسابيع الاولي, فتحل بنا ظروف صعبة, كانت تتفنن أمي في عبورها بعبقرية مدهشة بعيدا عن عائلته المقتدرة التي لا تعجبها تصرفاته فتعاقبنا نحن عليها بالابتعاد عنها, فكنا نهجر القاهرة ونعود إلي بلدة أمي نعيش في دار عائلتها مع جدتي وخالتي, وفي مدارس الأرياف أمضيت السنوات الثلاث الأولي من تعليمي. وفجأة ضاقت السبل بأميفي الزيجة الرابعة وقررت أنها لن تعود بنا إلي بلدتها, وكنا في الستينيات من القرن الماضي, ونادتني فجلست بجوارها: فقالت لي وهي تبكي: لم يعد بمقدوري التحمل, فهل يمكن أن تأخذ أخوتك وتذهب لتعيش مع أبيك وزوجته فترة وهي لن تتحملكم وسوف تعودون بعد أيام نكون اتقفنا معه علي انتظام مصروفات البيت, كنا أربعة صبيان, وفعلا ذهبت وأخواتي, وعشنا هناك ما يقرب من ثلاثين يوما فقط, كانت شديدة الوطأة علي أنفسنا, كنت مجتهدا في الدراسة, ولم يحدث أن ذهبت إلي المدرسة دون عمل الواجب, لكن مع زوجة أبي كان الأمر صعبا للغاية, من تصرفات تقليدية ترتكبها زوجات الأب دوما مع أولاد زوجها, ولها تراث شعبي مسجل في ثقافة كل الشعوب تقريبا و أسطورة سندريلا ليست حالة فردية.. لم أقدر علي مواجهة الأستاذ سمير مهملا في واجباتي بسبب ما تفعله بي زوجة أبي, فتغيبت عن المدرسة, أخرج من البيت في الصباح وأدخل أي سينما درجة ثانية في شبرا, وكانت شبرا بها سبع سينمات, غير ست أخري صيفية, كل سينما تعرض ثلاثة أفلام عرض مستمر, تتبدل كل يوم اثنين. وسأل الأستاذ سمير تلاميذ الفصل عني, حتي عثر علي جاري دسوقي, فاصطحبه وجاء به إلي أمي..وسألها عني, فقصت عليه حكاية ذهابي إلي زوجة أبي لأعيش هناك, فقال لها: هو متغيب عن المدرسة من شهر, ولازم يرجع خسارة أن يضيع, إبنك ممكن يبقي حاجة كويسة. وراح يقنعها لأكثر من ساعة أن تتنازل عن موقفها.. بعدها بيوم دخل أبي غاضبا, وتصورت أنه عرف بأمر هروبي من المدرسة, ولم يكن ذلك صحيحا, وقال لي: لموا هدومكم وتعالي انت واخوتك سوف تعودون إلي أمك. في سرعة البرق نزلنا وعرفت أن أمي عملت قعدة رجالة لأبي, وتعهد أمامهم بالحفاظ علي دفع مصروفات البيت شهريا علاوة علي شراء اللحم مرتين في الأسبوع. وبمجرد أن دخلت علي أمي, استقبلتتي تلطيشا وضربا وهي تصرخ في: حرام عليك أنا شربت الذل عشانكم, وبعدين تهرب من المدرسة. فشرحت لها ما كانت تفعله زوجة أبي.. ولم تقتنع بأسبابي. وصاحبتني أمي إلي المدرسة, وقابلت الأستاذ سمير واتفقت معه علي نوتة صغيرة يوقع فيها كل يوم أذهب فيه إلي المدرسة, حتي تتأكد من عدم زوغاني. وفعلا ذهبت ووقع لي الأستاذ سمير علي أول ورقة في النوتة, وأخذتها إلي أمي, فمزقت الورقة. ذهلت وسألتها: لماذا يا ست عزيزة؟! فقالت: حتي لا تضحك علي, مع الأيام سوف يزداد عدد الأوراق الموقع عليها الأستاذ سمير في النوتة, ولن أعرف التوقيع الجديد من القديم, أما كده فكل يوم ورقة لوحدها. وانتظمت ثلاثة أسابيع, حتي اعفتني من النوتة وقالت: اثق فيك فلا تخذلني. ولم أخذلها ولم اخن ثقة الأستاذ سمير ولا توقعاته, وعشت مراحل تعليمي كله بعد انتقالي من المدرسة الابتدائية وهو معي, اشعر بوجوده ونظراته ولومه وتشجيعه وتحذيره واسمع كلماته ونصائحه تتردد في أذني كلما تسلل الملل أو التمرد إلي نفسي, أو وقعت في صحبة سيئة محرضة علي الانحراف. وقد قابلت بعضا منه فيالأستاذ بديع مدرس الإنجليزي في الهاشمية الأعدادية, وفي الأستاذ فتحي مدرس العربي, وفي الأستاذ عبد العزيز صقر مدير مدرسة شبرا الثانوية التي كانت علي وشك أن ينفرط عقدها وينفلت عيار طلابها وجاء بصرامته وجديته وخرزانته وصوته الجهوري الشامخ وجعلها تمشي كالساعة.. وغيرهم كثيرون. وحين عملت بالصحافة ونشرت روزا اليوسف أول تحقيقاتي, عدت إلي مدرسة محمد عبده, أري الأستاذ سمير بعضا من عمله الرائع, لم يكن هناك, فقد انتقل من المدرسة منذ سنوات ولا يعرف احد مكانه, وإن ظل في مكانه من نفسي وعقلي ووجداني.