فؤاد بدراوى: الوفد تراجع في عهد عبد السند يمامة    سعر جرام الذهب مساء اليوم الأربعاء، عيار 21 وصل لهذا المستوى    دولة الاحتلال تحظر 37 منظمة إنسانية بغزة، وأوروبا تحذر    نجم الزمالك: النادي ضم لاعبين من «أبو قرشين» والقميص «تقيل عليهم»    القبض على عامل أطلق أعيرة نارية ابتهاجا بفوز مرشح بانتخابات النواب بقنا    تعليق مفاجئ من اليسا عن فيلم الست لمنى زكي    خالد الجندي: الله يُكلم كل عبد بلغته يوم القيامة.. فيديو    الإفتاء: إن التهنئة بالعام الجديد جائزة شرعًا    استشارى: مناعة طفلك فى وجبة الإفطار صباحا    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة وأعياد الميلاد المجيد    خروج 69 ألفا من إسرائيل خلال 2025.. إحصاء للاحتلال يكشف التفاصيل    وزير الصحة يتابع تنفيذ خطة التأمين الطبي لاحتفالات رأس السنة    تشكيل أمم إفريقيا - 9 تبديلات على الجزائر.. ونسوي يقود هجوم غينيا الاستوائية    بشرى سارة لأهالي أبو المطامير: بدء تنفيذ مستشفي مركزي على مساحة 5 أفدنة    جامعة العاصمة تنظم الاحتفالية السابعة للبحث العلمي لعام 2025    محافظ القليوبية يبحث إجراءات تحويل قرية القلج وتوابعها بمركز الخانكة إلى مدينة مستقلة    المحكمة العربية للتحكيم تطلق ملتقى الوعي الوطني لشباب الصعيد    حملات مستمرة لإعادة الإنضباط للشارع الشرقاوي    رئيس جامعة المنوفية يتابع امتحانات الفصل الدراسي الأول بكلية العلوم    «التضامن»: تسليم 567 طفلًا لأسر بديلة وتطبيق حوكمة صارمة لإجراءات الكفالة    رئيس جامعة بنها يوجه بتطوير الوحدات الإنتاجية    محافظ المنيا يتابع تقرير قطاع مديرية الطرق والنقل لعام 2025    بيت الزكاة والصدقات يعلن دخول القافلة الإغاثية 13 لغزة عبر منفذ رفح فجر اليوم    إنجازات التجديف في 2025، ميدالية عالمية ومناصب دولية وإنجازات قارية    الحكم على 60 معلمًا بمدرسة بالقليوبية بتهمة ارتكاب مخالفات مالية وإدارية    محافظ المنيا يوجه برفع درجة الاستعداد لاستقبال أعياد رأس السنة وعيد الميلاد المجيد    تعرف على سعر الدولار مقابل الجنيه فى البنوك    عاجل- مجلس الوزراء يوافق على تخصيص قطع أراضٍ للبيع بالدولار لشركات محلية وأجنبية    ذات يوم 31 ديسمبر 1915.. السلطان حسين كامل يستقبل الطالب طه حسين.. اتهامات لخطيب الجمعة بالكفر لإساءة استخدامه سورة "عبس وتولى" نفاقا للسلطان الذى قابل "الأعمى"    أبرز إيرادات دور العرض السينمائية أمس الثلاثاء    حصاد 2025| منتخب مصر يتأهل للمونديال ويتألق في أمم أفريقيا.. ووداع كأس العرب النقطة السلبية    حصاد 2025| ألعاب صالات الزمالك تخرج بخفي حنين.. والطائرة تحفظ ماء الوجه    تصعيد إسرائيلي شمال غزة يدفع العائلات الفلسطينية للنزوح من الحي الشعبي    اجتماع مفاجئ بين الرئيس السيسي والقائد العام للقوات المسلحة    مدبولي يوجه بسرعة الانتهاء من الأعمال المتبقية بمشروعات «حياة كريمة»    محمود عباس: الدولة الفلسطينية المستقلة حقيقة حتمية وغزة ستعود إلى حضن الشرعية الوطنية    بنهاية 2025.. الاحتلال يسيطر على نحو 55% من مساحة غزة ويدمر 90% من البنية العمرانية في القطاع    وزارة الصحة: صرف الألبان العلاجية للمصابين بأمراض التمثيل الغذائى بالمجان    عضو اتحاد الكرة: هاني أبوريدة أخرج أفضل نسخة من حسام حسن في أمم إفريقيا بالمغرب    استهدف أمريكيين أصليين وخط مياه.. تفاصيل فيتو ترامب الأول بالولاية الثانية    برلمانى: قرار المتحدة للإعلام خطوة شجاعة تضع حدا لفوضى التريند    نور النبوى ضيف برنامج فضفضت أوى مع معتز التونى على Watch it اليوم    المركز القومي للمسرح يطلق مبادرة.. 2026 عام الاحتفال بالفنانين المعاصرين    الإثنين.. مؤتمر صحفي للكشف عن تفاصيل مهرجان المسرح العربي    إوعى تقول: مابصدقش الأبراج؟!    القنوات المجانية الناقلة لمباراة الجزائر وغينيا الاستوائية في أمم أفريقيا    الرقابة المالية تقر تجديد وقيد 4 وكلاء مؤسسين بالأنشطة المالية غير المصرفية    الأرصاد: طقس شديد البرودة صباحًا ومائل للدفء نهارًا    إصابة 8 عاملات في حادث انقلاب ميكروباص بالطريق الصحراوي القاهرة–الإسكندرية بالبحيرة    ضبط 393 متهمًا وكمية ضخمة من المخدرات والأسلحة في حملات أمنية    رابط التقديم للطلاب في المدارس المصرية اليابانية للعام الدراسي 2026/2027.. يبدأ غدا    ضبط 150 كيلو لحوم وأحشاء غير صالحة للاستهلاك الآدمي ببنها    محافظ الجيزة يهنئ الرئيس السيسي بحلول العام الميلادي الجديد    محافظ أسيوط: عام 2025 شهد تقديم أكثر من 14 مليون خدمة طبية للمواطنين بالمحافظة    "هتعمل إيه في رأس السنة"؟.. هادعي ربنا يجيب العواقب سليمة ويرضي كل انسان بمعيشته    السودان يواجه بوركينا فاسو في مباراة حاسمة بأمم أفريقيا 2025    الحكومة تصدر قرارًا جديدًا بشأن الإجازات الدينية للأخوة المسيحيين| تفاصيل    نتنياهو: عواقب إعادة إيران بناء قدراتها وخيمة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



يخرج مرتجفاً من أعماقه : أغنيات آلاء حسانين الجارحة
نشر في أخبار السيارات يوم 14 - 07 - 2018

تهدي الشاعرة المصرية آلاء حسانين، ديوانها الأول »يخرج مرتجفاً من أعماقه»‬، الصادر أخيراً عن »‬منشورات المتوسط» إلي طبيبها النفسي (الذي كان بلا فائدة معظم الوقت)، والذي يحضر كذلك بشخصه في قصائد الديوان. وإذا اعتبرنا هذا مفتاحاً يصلح لقراءة الديوان، فإننا يمكن أن نكتشف مع وصولنا إلي الصفحة الأخيرة منه أن الكتابة باعتبارها فعلاً خارقاً ومُنقذاً هي الطبيب النفسي الحقيقي الذي ساعد الذات الشاعرة علي مصارعة ومحاورة وتجاوز الموت وهواجس الانتحار.
الموت مفتاح آخر، وربما لهذا تأتي العلاقة معه في الديوان مركبة ومعقدة، فرغم التجارب المبكرة معه في حياة الشاعرة، خاصة مع فقدان أحد أصدقائها، وهي التجربة الفارقة التي يبدو أنها غيرت نظرتها للحياة وكل ما حولها، إلا أن تناولها له في الديوان يتجاوز فكرة العداء التقليدي المتوقع، إلي استعارة التراث المصري القديم في العلاقة مع الموت من »‬متون الأهرام» و»‬الخروج إلي النهار»، إلي العدودات الاحتفالية بالموت في الجنازات، حيث يبدو الموت بعداً آخر نصله ونكتشفه وقد نصادقه بالغناء والكتابة.
ويمكن أن نعتبر هذا سبباً لاتسام قصائد الديوان بالغنائية الجارحة، ولا أقصد هنا الغنائية المتأثرة بالإرث الأرسطي، أو السنتمنتالية الزاعقة، لكنها الغنائية التي تجعل القصيدة أشبه بعدودة قديمة في رثاء الحياة وما فيها، وبوابة لفهم أسئلتها الإنسانية الكبيرة، وبمبضع يفتح جراحها فتنطلق قصائدها مثل فراشات تدور حول النار وهي تعرف ماحدث من قبل وما سيحدث من بعد.
يرتبط بهذا »‬أيمن ساعي» أحد أكثر الشخصيات وروداً في الديوان، والذي يحضر في الإهداء الثاني مع آخرين، بالإضافة إلي ثلاث قصائد، تتحول فيهما الشاعرة من مجرد »‬الرثاء» كغرض شعري تقليدي، إلي مساءلة الموت وتحليله، واعتباره مجرد رحلة سنعود منها يوماً، أو الدخول مع الفقيد في محاورة طويلة، حتي لو كانت من طرف واحد، وكأنها بذلك ستنجح في استدعائه، وإقناعه بالعودة:
»‬يوماً ما
حين تضجر من موتك
وتقرر أن تعود،
حين تفتقد قصائدك،
حربك الشرسة،
ببنادقها وخنادقها
بألغامها، التي كانت لا تنفجر
إلا في قلبك..»
الموت عند آلاء، يأتي كما وصفه الشاعر اليوناني يانيس ريتسوس: »‬الموت جمعٌ، وليس طرحاً. فلا شيء يضيع»، فأيمن ساعي باقٍ مع الذات الشاعرة كأنه لم يرحل، تتذكره في الطرقات بينما تسير مع أصدقائها، وفي مراثيها المتعددة له، وحتي في ذلك يبقي الموت -رغم وحشيته- مرآة أخري للعالم، أو حائطاً شفافاً بين عالمين، ليس لأحدهما أفضلية علي الآخر، بل تتفتح معه أبواب كثيرة، بل وربما تتحقق أمانٍ لم تستطع تحقيقها لنفسها في حياتها:
»‬عندما أموت
أريد أن أصير قارباً
وأبحر في الزرقة...»
وتجربة »‬الفقد» كما يقدمها الديوان شديدة الألم والقسوة، رغم أن الذات الشاعرة تحاول أن تتعايش معها، بعد مرور فترة طويلة علي الرحيل كما نري في »‬عامان تقريباً يكفيان للحداد علي شخص ما»، لكنها لا تنجح في ذلك ألبتة:
»‬لم تعد الحياة تملك ما تعطيه أكثر
وقد أخذ الموتي كل شيء قبل رحيلهم
وفي بلدة كهذه
لا يجد الناس شيئاً يتحدثون عنه
والعودة بعد الموت لم تعد أمراً مهماً..»
تفقد آلاء هنا الأمل، وتعتبره »‬تفاهة»، لكنها لا تفتأ تواصل حزنها، وتذكّر الراحلين، والخوف علي من يحيطون بها من أن يصيبهم الأذي، مثلما فعلت في قصيدتها البديعة »‬حلقٌ مكتظٌ برثاء طويل»، بل ومحاولة بث الصبر في قلوب من حولها، كما تفعل مع حبيبة الصديق الراحل:
»‬ثم نسير ونحن نربت بأكفنا الباردة
علي قلوب بعضنا
ثم نعاود النفخ فيها من جديد
ونحن نقول بشيء من المواساة
لحبيبته ريتا
التي لا تقول شيئاً غير الصمت
وتهز رأسها بشكل حزين بعد كلامنا
الذي تعرفه مسبقاً..»
هنا تفتح آلاء جرحها إلي نهايته في مواجهة المرآة، فكلامها ليس موجهاً للحبيبة، بقدر ما هو موجه لذاتها، هذه المواساة التي تعرف حروفها مسبقاً لكنها تقولها في كل قصيدة رثاء تكتبها كي تعالج نفسها، وهكذا تتنقل الشاعرة ما بين الأمل واليأس والرجاء والخيبة، حتي تصل إلي إدراك حقيقتها الخاصة، بعدم جدوي الحياة، وتساويها مع الموت:
»‬لم يحب أحد الحديث عن الرفاق الطيبين
وغالباً فضلنا لو أنكرنا وجودهم
لم يعد الموت بطولة ولا الحياة أيضاً
وامتلكنا أقداراً متساوية من اليأس والحزن والضجر»
هنا تتحول الذات الشاعرة إلي متفرجة علي العالم، فتبدو القصائد كأنها نزف، وتأتي الكتابة علي حد السكين، وتظهر ثاني شخصيات الديوان أهمية »‬ريتا غراهام»، لتقودها من محاورة الموت إلي انتظار نهاية العالم بعد أن »‬قالا كل ما يجب أن يقال سابقاً، أو لم يقولا شيئاً، لأنهما يعرفان مسبقاً، كل ما يريد الآخر أن يقوله»، وهو الوصف الذي يتقاطع مع ما كَتبته مسبقاً عن »‬التربيت» بالحديث مع ريتا، ورغم اختلاف الحالتين إلا أنها تدرك فيهما تساوي الصمت والكلام، كما نري في »‬شخصان يدليان أقدامهما علي حافة العالم»، وهي واحدة من أجمل قصائد الديوان:
»‬ها نحن أخيراً نجلس علي حافة العالم، مشبكي الأيدي
بسعادة طفل وطفلة قبلا بعضهما
للمرة الأولي
ونحن نقول في سرنا
هكذا إذن تكون النهايات
ها هي النهاية أخيراً»
تستقبل الذات الشاعرة النهاية بسعادة وثقة من جرب كل شيء، من ذاق الموت والحياة، من خبِر كل شيء فوصل إلي مبتغاه مطمئناً.
لكن لا يمكن تجاوز ما مضي، من حديث عن »‬الموت» و»‬انتظار النهاية»، دون الحديث عن »‬الحرب» التي تلقي بظلالها علي الديوان، ليس فقط كونها سبب رحيل »‬أيمن ساعي»، لكن لأنها أحد الهواجس الرئيسية لدي الشاعرة، التي تري حروباً تدور حولها دون سبب، وتري نفسها وأصدقاءها في قلبها ضحايا لها دون مبرر »‬نحن الذين لطالما عشنا دائما، كأكياس الرمل بين فصيلين متحاربين»، ثم تكشف مأساوية الأمر كله بقولها:
»‬وحين كان يفض الرصاص قلوبنا
لم يكن أي من الفصيلين
يبكي علينا»
والألم هنا وفي الديوان عامة ليس بالضرورة ألمها هي، بل ألم الآخر، فها هي ترثي ذاتها، وكل أصدقائها مبكراً، لأنها تعرف أن هذه الحرب غير المفهومة وغير المبررة لن تبقي علي أحد ليدبج قصائد الرثاء:
»‬ها نحن الذين بكينا من أجلنا طويلا
لأنه ويا للأسف
ما من أحد خلفته هذه الحرب
ليبكي علينا»
والقصيدة عند آلاء رغم أجواء الموت متمردة فتذكرنا بآرتور رامبو، وثائرة فتذكرنا بلوركا، متشردة تزحف في الشوارع فتذكرنا بالماغوط. لا أقول إنها تشبههم، لكنها تأخذ منهم جنونهم وعصيانهم ورفضهم وتمردهم، وهذا التمرد ليس مرتبطاً فقط برفض سياسي، بل برفض الواقع ذاته، واقعها، أحزانها، أتراحها، موت الأصدقاء، المجتمع المُكبِّل:
»‬خذ معولاً
واضرب عميقاً في قلبي
اقطع جذر هذا الحزن
خذ معولاً أكبر
واضرب جذر رب البيت
شرد هذه العصافير الحزينة
دع هذه الأغصان تتهاوي..»
فالذات شاعرة هنا تري الحزن جاثماً حتي علي العصافير التي ترمز للحرية والبهجة، لكنها لا تستسلم له، بل تضحي بكل شيء من أجل الانعتاق، والخروج من هذه البوتقة المغلقة، من أجل تجربة جديدة، تجرب فيها كل ما نتحاشاه، من دفن الأم والحياة دون أب في الصورة، وموت أمام المداخل أو في المداخن، وبرد الأصابع والعيش بهويات مسروقة وتبديد الحياة في الحانات ومحطات المترو، فكل هذه اللاحياة قد تغدو حياة مناسبة، إذا غادرت حياتها المزيفة التي تعيشها:
»‬دعني أغادر هذا الزيف
دعني أتشرد..»
والتشرد هنا ثورة، ورفض للواقع، وللإنسانية المنهارة ذاتها، لذا هي تحرض عليها طول الوقت:
»‬انقذوا العالم
وفكروا كيف تخيطون ثقب الأوزون
انجبوا أبناء
وراقبوهم كيف يكبرون
ثم ابكوا لأجلهم حين يتخرجون
أو يموتون صغارا
في حوادث السير».
ولذا فهي أيضاً تحلم بموت أسطوري، ليس علي طريقة الثائر لوركا فتنطفئ كنجمة في منتصف عمرها أوتختفي جثتها كصافرة، لكن علي طريقتها الخاصة كما يليق بمتشرد:
»‬سأموت أمام الجميع
عارية ووحيدة، جافة كغصن
أو ملقاة علي شاطئ كسمكة صغيرة
سأموت أمام الجميع
ولن يلقي علي أحد حبة رمل واحدة
سيجف جسدي
وينكمش أمام الجميع
وأبداً أبداً
لن يهبط أحد علي وجهي ويغمض عيني»
والموت بهذه الطريقة الأسطورية ثورة في حد ذاتها، كأن التشرد والتمرد وجهان لعملة واحدة، فمفارقة الواقع والإتيان بفعل غير متوقع في كليهما هو ما تسعي إليه، كما تقول في قصيدتها »‬أيتها الثورة»:
»‬سأصير شبحاً، أو طائراً
سأصير أي شئ»
والثورة أيضاً هي مساءلة كل المسلمات: الطمأنينة التي غادرت، القصص التي صدقتها صغيرة، ثم اكتشفت عندما كبرت كذبها، انعدام الأمان والصراع المذهبي والطائفي.ديوان آلاء مشحون بالقلق الوجودي، ربما بسبب تجارب الموت والغربة والمرض وأجواء المجتمع المغلق، التي تطغي علي الديوان، ومن أجل هذا تبرز الأسئلة الوجودية حول العلاقة بالله، بل إن أحد الأقسام الستة للديوان، تذخر بعشرات الأسئلة، وكأنها تتمثل ما ذكره رامبو في »‬فصل في الجحيم»: »‬كنت أكتب فراغات الصمت، والليالي، كنت أسجل ما لا يُسجل، كنت أثبت الدخان». هذا ما تفعله الشاعرة في هذا القسم من مساءلة المأزق الإنساني وعبثية الحياة والموقف الجمالي تجاه مأساوية الحياة.
ولعل هذا يحيل إلي أحد مفاتيح الديوان المتمثلة في عنوانه ما بين »‬الخروج»، و»الأعماق»، فالارتجاف المصاحب للخروج هنا، هو ارتجاف نفسي ناجم عن قلق الاكتشاف وحيرة الوصول، كأنها تتحرر في خروجها من كل ما علق بها صغيرة من أكاذيب ومسلّمات، قبل أن تدرك مع الوقت أن الحياة لا تعمل هكذا:
»‬الذي يدفع إنساناً
لأن يصير نبياً
أو شاعرا مثلاً
أو حتي قاتلاً مأجوراً
هو القلق
القلق من ألا يتذكره أحد»
هنا يحضر الشعر كعلاج نفسي، بديل للطبيب عديم النفع، يصبح هو الحبل الذي تتعلق فيه الذات المرتجفة إلي خارج أعماقها، حتي تقف فوق أعلي تبةٍ وتري العالم كله خواء، شديد الاتساع، لكن تستطيع قصيدة شعر أن تسعه.
ولأن الشعر هو الطبيب البديل، تستعير آلاء في قصائدها لعبة الأقنعة والأصوات المستعارة، والذوات المختلفة عبر الشاعر/ الرائي الذي يقدم نصاَ ذا طبيعة تخييلية ليست مرتبطة به بالضرورة. فالذات الشاعرة في الديوان وعبر هذا التحرر الجمالي لا تعود إلي الشاعرة في كثير من القصائد، بل بعضها مذكر يخاطب حبيبته وبعضها مؤنث لا يشبه الشاعرة، وبعضها يتحدث بصيغة الجمع، بعضها غارق في مونولوج ذاتي وبعضها يتحدث في ديالوج مع العالم، في بعضها نجد الأب أكثر قرباً من أي شيء، وفي بعضها يكون الآباء هم سبب التعاسة والسأم المتزايد والصباحات الغائمة، في بعضها نحن إزاء أمهات منكسرات وفي بعضها الآخر عكس ذلك. تتخفي الشاعرة خلف هذه الذوات المتعددة، لتفتش عن إجابات أخري للحياة، ولتقدم شعراً خالصاً يتخلص من اتهامه بأنه نسوي أو ذكوري، شعراً إنسانياً ينشغل لا سيما في القصائد الأخيرة من الديوان بالحديث عن الإنسانية الضائعة. ولا أظن أن آلاء قصدت أن تتخلص بهذا التعدد من إشكالية الذات الكاشفة في شعر المرأة العربية التي اعتاد البعض الحديث عنها، بقدر ما أن الأمر مرتبط بلحظة الكتابة الملتبسة، حيث أرادت أن تفتح باب الشعر علي مصراعيه، مازجة بين الواقعين الخاص والعام، والذاتي والكوني و »‬الأنا» الشعرية والكاتب الضمني.
وإذا كان الإدهاش في ظني هو أحد وظائف الشعر الأساسية، فإننا نري ذلك بجلاء في ديوان آلاء حسانين، فهي تتخلي عن الصور التقليدية في الشعر، بل وحتي عن طرق كتابة قصيدة النثر المعتادة التي صارت أشبه بالكلاشيهات، وتترك القصيدة تختار طريقها، ويمكن القول إن القصيدة في هذا الديوان، تأتي كما وصفها بيلي كولينز »‬رحلة تخيلية إلي هدف لا أستطيع التنبؤ به، ولكنني أعرفه فوراً عندما تجد القصيدة طريقة لإنهاء نفسها»، وهو الأمر الذي ينطبق علي الصورة الشعرية منفردة أيضاً:
»‬يسقط الدمع من عيني ريتا
كأنه قطعة نرد تتدحرج
فتتهدل معاطفنا عن ظهورنا»
نحن هنا أمام مشهد سيريالي، تسقط فيه الدموع، فيحدث انعكاس ذلك في شكل البشر، وهذا البناء التراكمي للصورة الشعرية يبدو إحدي سمات قصيدة آلاء، تقول أيضاً:
»‬وحين كنا نحدق معاً نحو شيء بعيد
كنت ألمح غرقي كثيرين
يرسون علي شطآن قلبه»
تتمثل هنا الرؤية الجمالية في بناء الصورة لدي الشاعرة، التي تعتمد علي المشهدية من جهة، والإدهاش من جهة أخري والذي يعمل كمحرض جمالي تتضافر فيه المفردة والبنية النصية محققاً المعادلة الشعرية الخاصة بها، فتضحي الصورة وكأنها نص شعري مستقل:
»‬إنني هوة سحيقة
يرمي الناس فيها الحجارة»
في ديوان آلاء حسانين، كل ما يمكن أن تضمه الدواوين الأولي للشعراء، من طزاجة وبكارة وروح ثورية وكشف للموهبة، إلا أنه يتميز بأنه تخلص من جلّ ما يعيب الدواوين الأولي أيضاً، بل يمكن القول إن الشاعرة في هذا الديوان استطاعت أن تقدم تجربة تبدو وكأنها مبنية علي تجارب سابقة لها، رغم أننا بنظرة سريعة علي تاريخ كتابة الديوان كما حددته الشاعرة (بين عامي 2014 2017 )، نكتشف أن عدداً من قصائده قد كتبتها وهي في الثامنة عشرة من عمرها، وهي سن مبكرة إذا نظرنا إلي المستوي المتميز للديوان.
استطاعت آلاء حسانين منذ ديوانها الأول أن تجد صوتها الخاص، ولغتها المميزة، وأن تخطو خطوة واسعة في مشروعها الشعري المبشر، أن تحفر مبكراً نبعها الشعري الذي لا يشبه أحداً، أن تصحب القارئ في رحلة شعرية خالصة من صفحة ديوانها الأول فلا يتركه إلا مع الصفحة الأخيرة.
آلاء حسانين صوت شعري حقيقي، يستحق المراهنة عليه، وعلينا أن نترقب دواوينها القادمة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.