ربما كان هذا التصدير الذي وضعه الشاعر محمد حبيبي في مقدمة ديوان (جالسا مع وحدك) مهما، لأن هذا التصدير يضعنا وجها لوجه أمام شعرية تجيد النسج بمفردها، صانعة عالمها الخاص، ومقدرتها الخاصة في مقاربة الوجود بشكل عام ، وفي مقاربة الذات. ففي قصائد محمد حبيبي الأخيرة تتحول الذات إلى ذرة في كون كبير، ورصد الذرة يتجاوب ويتكامل مع رصد هذا الكون الكبير، بالدافعية ذاتها، وبالحميمية ذاتها. فحبيبي في هذا الديوان يفجؤنا برؤية كلية للوجود، رؤية من نوع خاص، لو وصفت بالتأمل ينقص بهاؤها، ولكنها أشبه بسيمفونية موسيقية طويلة من البداية إلى النهاية، والعناوين التي توضع في صدر القصائد – والحال تلك- أشبه بصمت أو خروج مؤقت عن النسق الموسيقي، ليشعرك بوجود نسق شبه ثابت، وثباته لا يرتبط بثبات إيقاعي محدود، وإنما هو ثبات أشبه إلى حد بعيد برهافة شعرة دقيقة ظلت على سموقها ورهافتها من بداية الديوان إلى نهايته. إن هذا الصوت الشعري –في هذا الديوان- يمثل تصفية بالغة الدقة، لصوت شعري مصفى أساسا من قبل.فمحمد حبيبي – في دواوينه السابقة- لم تشده الموضوعات الكبرى بتجلياتها المعروفة وبأنماطها في الشعر المعاصر، وليس معنى هذا أن شعره لا يرتبط بهذه التجليات، وإنما يرتبط بها ويلتحم بها، على طريقته الفنية، فهي شعرية ذات قطاع طولي بنسجها ورهافتها الخاصة. محمد حبيبي في نصوصه في هذا الديوان يجيد فن الإصغاء للكون، فن التقاط اللقطة الكاشفة، المبنية على المفارقة، التي تطهر نظرتنا للحياة، وتجعلنا قادرين على أن نلم شتات هذا الكون المتجانس والمتناقض في آن. أثناء القراءة للديوان، تولد لديّ سؤال ظل مؤرقا لي لفترة طويلة: هل تقف شعرية محمد حبيبي عند حدود المفارقة؟ أم أنها أكبر من حدود عقد المشابهة أو المقارنة بين نسقين متقابلين؟ وقد أكدت قصائد الديوان أن شعرية محمد حبيبي أكبر من حدود المفارقة، لأنها تختلف عن الشعريات الأخرى، التي تحاول الاشتغال على تلك الآلية الفنية، في كونها تبتعد عن الفائض اللغوي، وهي آلية مرتبطة بالاشتغال على النص الشعري، والتحبيك لحذف أي زيادة، قد تكون كاشفة عن التردي في غنائية مفرطة. يبدو لي هذا الديوان تتويجا لشعرية شديدة الخصوصية، مشيرا لأهم سماتها، ومنطلقاتها الفنية الأساسية، المشدودة إلى جذور تكوينية فاعلة، ويمكن أن تشكل – فوق ذلك- أفق توقع للقارئ المتابع لشعر محمد حبيبي، فالقارئ للديوان بداية من عنوانه مرورا بالجزئيات التكوينية، التي تتضمن نصوصا صغرى سابحة في فضاء المجال الفكري، يدرك أنه اختيار مقصود. التوحد في مواجهة العالم ربما يكون عنوان الديوان كاشفا عن هذا المنطلق الفكري، فالشعر في ديوان حبيبي،شبيه إلى حد بعيد بالخلوة، التي يتوحد فيها الشاعر مع ذاته، مع الكون، يجيد الإصغاء إليه، ويقارب تناقضاته الكاشفة عن الانسجام، الذي يعطي للحياة تمددا وديمومة، ينتقي في هذه الخلوة ، ويكيف الجزئيات الفاعلة من ذاكرته، يسائلها، يتوقف عند البراءة الهشة للطفولة في ضعفها وقوتها. التذكر- أو فعل الذاكرة- ليس مقابلا للنسيان، فالتذكر- وإن كان يحاول تثبيت الماضي وإنعاشه من خلال الالتفات إليه- فعل من أفعال المجابهة مع الماضي، وإذا كان الماضي لا يمكن استعادته إلا من خلال فعل التذكر كأنه خطاب، فإن الصورة- وهي المثير هنا، وهذا يشير هنا إلى أن فعل التذكر في قصيدة صورة غير عفوي بتعبير هيجل- تنتمي إلى عالم سابق، ومقاربة اللحظة تنتمي إلى لحظة آنية، ففي اللحظة الماضية تتعدد جزئيات التوحد ضد العالم ومواجهته: كانوا خمسة مخلوقات لا أبهج... والغرفة كانت تتسع لكل العالم (بابلونيرودا، غيفارا، غاندي...) خمدت ثورات سقطت دول وانهدمت غرفةْ. العدد هنا كاشف عن أن الذات الشاعرة لا تواجه العالم بمفردها، وإنما تواجهه متدثرة بمجموع بشري، وبسلطة نموذج متخيل، يخرج حتى الغرفة من وجودها المادي المعهود، لكي يجعلها إطارا للحظة يتسع فيها الانتماء للإنسانية بمفهومها الواسع.إن شعرية محمد حبيبي لا وجود فيها للفائض اللغوي، وفي مقابل ذلك، نجد أن لكل كلمة إيحاءاتها، التي تشد الدلالة إلى منعطفات زلقة، ولكنها متجاوبة لقياس الزمن بين اللحظتين. فخمود الثورات أو سقوط الدول، الذي يعطي مؤشرا دلاليا للمدى الزمني، يعطي ارتباطا بالخارج والشعور بها في اللحظة ذاتها، التي تتهدم فيها الغرفة المتخيلة، التي ربما كانت إطارا يتسع للأفكار الجديدة. هذه اللحظة المتوحدة بالآخرين، وبالنماذج المتخيلة، التي تبنيها الذات متدثرة بالقادم، لا تلبث أن تكشف بالتدريج عن اللحظة الآنية: مات اثنان هاجر اثنان وبقيت أنا. فعل الموت أو الهجرة في إطار سطوة النماذج المتخيلة للمجموع، يشير إلى تخل عن هذه النماذج، بغض النظر عن كونهما فعلين غير مباشرين للدلالة على هذا التخلي. ومن هنا تبقى الذات بمفردها في مواجهة العالم، مؤمنة بنماذجها المتخيلة، بالرغم من تعدد اللحظات التاريخية والأزمنة، وبالرغم من فقدان الإيمان بها في تجليها المباشر، فالعودة إليها لم تكن إلا فعلا من أفعال التحول أو التبدل، بين مواجهة الكون، في إطار متدثر بمجموع ومواجهة الكون وحيدا بذاتك. التنافر والانسجام إن إدراج نسق كبير من شعر محمد حبيبي داخل إطار التأمل، بوصفه شعرا قائما على تأمل الإنسان وعلاقاته، ربما لا يكون بالغ الدلالة على هذه الشعرية، لأن شعرية محمد حبيبي، يمكن أن تدرج في سياق أكبر من فعل التأمل ذاته، فالنص الشعري (كف)يوهمنا بالربط بين صورة الأعمى الذي يخمش زجاج السيارة، وصورة الشخص بعماه الجزئي واللحظي تحت صنبور مقطوع الماء، في حين أن النص مهموم بمقاربة العالم وفق منظور لا يكتفي بجمع الأشياء المتشابهة ظاهريا، لتوليد المفارقة، وإنما لتكديس صور قد يمر بها الفرد العادي، ولا تلفت انتباهه، وتكمن قدرة الشاعر في إدخالها في إطار نصي، يجعلنا نعاينها وفق تركيب جديد، ينطلق من المنظور، الذي أوجده النص كيانا كاملا. يتجلى هذا النسق الإبداعي في قصيدة (كفان)، فالرؤية الأولى التي يلتقطها متلقي النص متسرعا، سوف ترتبط بالمفارقة المصنوعة بين كف وكف، ولكن التأمل الدقيق في النص الشعري- الديوان كاملا- يثبت أننا أمام شاعر مهموم بتكديس صور يختزنها لمدى طويل، قد تكون متنافرة على المستوى السطحي المباشر، قبل أن يخلق- أو يُخلق- لها الإطار النصي المناسب لوجودها، وتسهم هذه الصور برهافتها، في خلق إطار منسجم، يكشف عن طبيعة العالم، الذي ينوء بالتناقضات. إن ما يقوم به النص الشعري هنا أكبر من خلق المفارقة، التي تطل بوصفها إدراكا أوليا للنص.إنه يعمل على تثبيت تلك الصور داخل المتلقي، كأنها طبقة إدراكية لها فرادتها، تجعلنا نصغي إلى الصورة بكل تناقضاتها، ومفارقتها، ويبدو ذلك جليا في قصيدة (فاصل). تُبنى هذه القصائد (كف)،و(كفان)،و(فاصل) داخل إطار أكبر،هو (طباقات الرصيف)، لأنها جميعا تلتزم بعرض صورتين متقابلتين، لتشكيل طباق على مستوى نصي، لا يكتفي بعرض الطباق، وإنما تنبع قيمته الأساسية في توجيه وتوليد الشعرية المشدودة إلى خصوصية المقاربة. فكأن محمد حبيبي بهذه النصوص، يشير إلى أن جانبا مهما من شعريته، يكمن في هذا الملمح الخاص، المرتبط برصد المتناقضات والمفارقات. فالشاعرية- لكونها في معرض دائم للتغيير- لا تثبت في مكان واحد أو جزئية فكرية محددة، يؤيد هذا التوجه، أن قصيدة (طقوس الخلوة) جاءت منضوية تحت هذا النسق الأكبر(طباقات الرصيف)، وهي قصيدة تشير إلى أن الخلوة وثيقة الصلة بالشاعر، ومهمومة بنفي الشاعر بصورته القديمة بهالته المقدسة، وتحبيك صورة مغايرة تماما: مازال القمر يطلٌّ فلم يقف المطر ولم تحترق الغابات الأطفال كذلك! لم يكتهلوا!!! لا الأوراق ولا الزهرات بكت، أو حتى همت... ... لم يهبط ملك أو تسقط من نيزكها أدنى صخرةْ فالصورة المقدمة في هذا الجزء من النص، تمثل نفيا للمتعارف عليه أو المعهود، أو المقرر في نظريات شعرية، مهمومة في الأساس بإسدال قداسة وفاعلية لهذا القادم نصا أو جسدا في الكون، ومن ثم يأتي هذا النص الشعري في بدايته لينفي هذه القداسة، وكل سطر من هذه السطور الشعرية المنفية يعيدنا إلى لمس صورة ناجزة عن تشكلات أنماط سابقة، فأفعال مثل (وقوف المطر-اكتهال الأطفال-بكاء الزهرات- هبوط الملاك- سقوط النيزك) كلها أفعال تثبت في حد ذاتها الفاعلية، ونفيها في هذا السياق، لا ينفي الفاعلية، وإنما يثبتها بطريقة مغايرة، تتشكل في إطارها شعرية خافتة، تتوسل التوحد بجزئيات الكون، بدلا من التعالي عليه، تتشكل ملامح الفاعلية الخاصة في: انتعشت أعشاب، جفت من زمن بحديقته أكسل عصفورين اضطرهما الجو العاصف للمكث لديه صارا أسرابا أطفال الجيران( ما كانوا يدنون لأسوار حديقته) صاروا يأتون برفقتهم أطفال الحارةْ وكأن العالم كل الأشياء: إن هناك فرقا واضحا بين فاعلية النسق الأول، الذي كان فيه النص الشعري مهتما بنفيها، وفاعلية النسق الثاني التي تهتم بإثبات وجود جديد، فالفاعلية الأولى مرتبطة بتحريك جزئيات كونية، بينما الفاعلية الأخرى، تأتي كأنها الوجه المقابل، فهي فاعلية مرتبطة بجزئيات محيطة بالفرد، في محيطه الإنساني المحدود، وارتباطها بجزئيات مثل (أعشاب الحديقة- أكسل عصفورين- أطفال الجيران- أطفال الحارة) ارتباط يثبت الفاعلية في إطار ضيق- قد يكون الخصوصية- يتسع بالتدريج، لمعاينة المغايرة الفنية المقدمة في تلك الشعرية. ثمة فارق آخر يمكن أن نلمحه من المغايرة بين المنفي والمثبت، يتمثل في طبيعة كل شعرية، فالأولى المنفية- من خلال فاعلية كبرى- قد تكون أقرب إلى نمطية سائدة مملوءة بالتقليد والصراخ، والأخرى المثبتة، تشكل شاعرية جديدة مملوءة بالإصغاء للعالم، وفق إدراك بكر لم يمس من قبل: لحظة خط عبارته،ورمى بالقلم إلى الأبد... الشا.. الشاع..، الشاعر.. الشاعر صمت يصغي لقصيدةْ.. قد تكون المغايرة ماثلة – أيضا- بين شاعر يكتب القصيدة، وشاعر تكتبه القصيدة، بحيث يطل بوصفه جزئية من نسق كامل متعدد الأجزاء، ليشكل في النهاية وحدة وجودية، منفتحة على أسئلة إبداعية لها تمدد وديمومة. فاعلية الماضي فاعلية الماضي في شعر محمد حبيبي، من ديوانه الأول إلى الديوان موضوع الدراسة، حاضرة بقوة على مستويات عديدة، منها ارتباطه برصد الهشاشة البريئة، التي تطل بوصفها موسيقى ناعمة في كل قصائد الديوان، مشكلة المساحة ، التي يتحرك فيها الكيان الآني، فكأن هذه الهشاشة البريئة والقوية- في الوقت ذاته- المملوءة بعدم الإدراك التام، لها فاعلية قوية. منها كذلك- أي من مستويات فاعلية الماضي- الحنين إلى لحظات ماضية، مازال لها حضور فاعل في ذهن وتكوّن المبدع، فتتجلى هذه الشعرية، وكأنها انحياز للماضي. والشاعر هنا- الشاعر الحقيقي- هو الذي يستطيع أن يحفظ لهذه اللحظات وجودها، فكأنه يثبتها بالكتابة، بدلا من تركها للذاكرة، مصرا على تكديسها في إطار طبقة معرفية، لا تشبه الوجود الماضي بكل تفاصيله، ولكنها صورة موازية، نابعة من تشكيل الخطاب الشعري، الذي يحذف ويحرف في تشكيل الماضي، ليعيد ترتيبه وفق مخزون الذاكرة، وقدرة الخطاب في تشكيل الانسجام، فالمتلقي حين يقرأ قصيدة (بلل): ذاك البلل - نصحو غرقى منه ملتمين على المسفيدةْ بعيون لا تكترث مؤخرة تتكشف تنتظر جفاف سراويل منداة منذ الليل مشرعة غبشا حول النار المشتعلةْ من دفء الجيران وأبواب لبيوت تتثاءب بقبالة بعض- صار يجف ككل الأشياء الملفوفة في كيس النايلون.. لا يستطيع أن يمنع نفسه من التأمل في التركيب اللغوي للنص، والتمدد التركيبي، بداية من المبتدأ (ذاك البلل) إلى الخبر (صار يجف)، وبينهما يتشكل الاعتراض، كأنه انفتاح على ذاكرة تنتظر مثيرا، كي تطل برأسها، ولكنها في ذلك الظهور لا تخلو من تحريف وحذف ومحو، من خلال فعل الانتقاء، لكي تشكل في النهاية اتساقا يخفي التعب المبذول والاجتهاد في بناء النص الشعري، الذي يخفي البياضات والفجوات، التي يشعر القارئ بوجودها، فالنص يختار صورا محددة لإثبات بؤر دلالية، تدخل في نطاق الخطاب الشعري، لكي يصور تلك الهشاشة البريئة، التي لا تأتي منفصلة عن إطار عام يكيفها، بداية من المسفيدة، وغبش النار المشتعلة، وتثاؤب الأبواب المتقابلة. إننا هنا نستطيع أن نفهم البلل وفق توجه جديد- وإن كان لا ينفي المعنى المباشر الذي يتولد من النص- فهو- في ذلك السياق- أشبه بنمط حياة، أو طريقة مقاربة وجودية للناس والأشياء، والنص الشعري يشير في نهايته إلى ذلك الجفاف، الذي يدل على هذا الفهم المشروع( المتولد من دفء الجيران- أبواب البيوت التي تتثاءب قبالة بعض) إلى بداية تولد نسق مغاير، يستطيع فقط أن يسترجع تلك الهشاشة الماضية، ولكنه لا يستطيع- وفق السياق الجديد- الاستمرار والانزواء تحت مظلته بشكل كامل. إن هذه الهشاشة، التي بدأت تتفصد بالتدريج، بفعل النمو المعرفي والإدراك، تتشكل في إطار قصيدة (كبريت) في نسق آخر، من خلال فعل المقارنة بين الماضي والحاضر، الذي يطل فاعلا من خلال فاعلية الغياب في الجزء الأول، وفاعلية الخطاب في الجزء الثاني، فالجزء الأول المرتبط بالغياب، لا يخلو من إضفاء هالة من القداسة، لا تأتي من إضفاء سمات أسطورية على ذلك الطفل الذي كان، وإنما من خلال إضفاء العادية أو المشابهة مع آخرين، لأنها صورة يمر بها كل إنسان في هذه السن، وتتنازع مشاعره بين الخوف، ومحاولة إسدال الشجاعة. صورة ذلك الطفل المعبر عن الهشاشة، التي بدأت في الانزواء، ما كان لها أن تحقق هذا الوجود اللافت في اللحظة الآنية، في ظل النمو الزمني والمعرفي، لو لم ترتبط بندوب تقاوم الزمن ضد فعل النسيان، خاصة في ظل وجود مغايرة بين الماضي والآني. ففي قصيدة ندوب، لا يؤسس الخطاب الشعري استراتيجياته من خلال التدثر بالماضي فقط، أو صورة ذلك الطفل، وإنما يضعها في إطار مقابل لسطر شعري وحيد( الرأس المنتظرة مكوى شعر). فهذا السطر الشعري يشدنا إلى المغايرة أو إلى الاختلاف الآني، ليس لمعاينة تلك الرأس أو ذلك الطفل، في لحظات زمنية سابقة، وإنما لتثبيت سياق عام ماض للانزواء والتلاشي، ولهذا كان هذا التكديس لأدوات ممعنة في الانتهاء والذوبان، مثل(ماء المغراق)، وشفرة (موس التمساح)، والإشارة إلى تاريخ الحارة الذاهب للنسيان، بعد وجود طبقة معرفية مغايرة. فاعلية النسق في قصائد (ه م ط ا ف) (فاطمة) يتجلى الخطاب الشعري، في إطار قصائد هي على الترتيب( منصة- صدفة- نافذة- تواطؤ- رائحة – مسرات) والخطاب الشعري في هذه القصائد لا يخلو من ارتباط بالماضي، وارتداد إليه، ولا يخلو من مقاربة وتأمل فاعلية النسق الاجتماعي في تشكيل نزوع البشر، نحو آمالهم، وإحباطاتهم، وتشكيل المغايرة التي يسدلونها على الأشياء المادية انطلاقا من ذلك النسق. ففي قصيدة (منصة) نجد هذا النسق لا يعطي الطفولة براحها الممتد، لكي تدرك أو تصل إلى المعرفة بذاتها، وإنما تحدث حالة ابتسار معرفي للوعي الممتد في مرحلة التكوين، ومن هنا كان وجود الأسئلة طبيعيا، فكلمة (العيب) التي تنطلق من سلطة النسق، تسلب وتبتسر النمو المعرفي التدريجي، الخاص بالاختلاف النوعي، وتمارس هذه السلطة- على النقيض من ذلك بعد مرحلة زمنية من العزل- قوانينها، فيتم القبول بالنسق المختار سابقا طواعية من الصبي والصبية. إن ترتيب القصائد على هذا النحو داخل الإطار العام لا يخلو من قصدية بنائية، فالمتأمل لترتيب القصائد داخل العنوان الأكبر، يدرك أنها تشكل نسقا داخل بناء معرفي يبدأ بشكل تدريجي. فالقارئ من البداية يدرك فاعلية ذلك النسق وفاعليته في كسر إرادة الصبي والصبية، اللذين لم يكتمل بعد وعيهما المعرفي بالحدود الفاصلة القائمة للنسق الاجتماعي الفاعل، وعلى النقيض من ذلك في عرض سيطرة النسق المقابل، كأنه الوجه المقابل، لتشكيل الإرادة الفاعلة لهذا النسق، من خلال عودتهما للمنصة بوصفهما زوجين. هيمنة هذا النسق يجعل رؤية البشر المنضوين في إطاره للأشياء المحيطة، مملوءة بهالات قد لا تكون لها في الواقع، لأن هذه الأشياء بما تتيحه من خروقات جزئية لهذا النسق الفاعل، تكتسب وجودا غير مادي، لأنها في ذلك تسهم في هدهدة الروح المشدودة إلى رمل الشوارع والأرصفة، وإلى وجود جزئي ونوعي للاكتمال المفقود. يتجلى ذلك واضحا حين نعاين بعض القصائد التالية المنضوية تحت العنوان ذاته، فبسبب سيطرة هذا النسق، أصبح الباب الذي يفتح لإشعال صدفة اللقاء( نحت كمان)، تلك الصدفة، التي تحولت في النهاية إلى تواطؤ مقترح للتجدد والإعادة.ويتحول النمو المعرفي لهذا النسق إلى تصوير خاص للنافذة، التي أصبحت - بما تتيحه من هواء كاشف-أداة فاعلة للذات للتغلب على تشظيها، باحثة عن الاكتمال: الفتاة التي هي من خلف قضبان شباكها نافذة..ْ علمتني: الحياة نوافذ بيت حياة البيوت النوافذ نافذة البيت فاصلة من هواء وحنجرة لكلام الرصيف تمرره النافذةْ.. النافذة في الجزء السابق ليست أداة مادية فقط، وإنما اكتسبت بفعل المراودة البصرية المستمرة وجودا مغايرا، بحيث أصبحت براح هواء، يكيف هذه الذات، ويعطيها مدى للاكتمال، وفرصة ممتدة لصنع التماثيل المتخيلة في إطار المعرفة المفقودة أو شبه المفقودة، التي تبنى على بساط التوقع أو فاعلية الوهم والخيال. فعدم المعرفة أو عدم اليقين، هو الذي يعطي الشعر مهادا للوجود، فيكون الشعر في ذلك الإطار محاولة من محاولات التعاظم ، التي تحاول هذه الذات من خلالها أن تصنع من النافذة معراجا للوصول. خدوش الذات الموت حين يكون بعيدا عنا له طعم، ولكنه ليس ذلك الطعم الذي نشعر به حين يخترم إنسانا نعرفه، وبالضرورة ليس ذلك الطعم الذي نتجرع مرارته حين يرتبط ذلك الموت بشخص من لحمنا ودمنا، ويشكل- في الأعم الأغلب- امتدادا لنا. ولهذا فقصائد محمد حبيبي (نجوى الملائك) تضعنا وجها لوجه مع ما أشرنا إليه سالفا، وتجعل الفكرة التي أشرنا إليها في تناول جزئيات من الديوان لها مشروعية. فالقصائد تبدأ بقصيدة (مناسبة)، حيث يتحول الموت إلى مناسبة تستدعي وجودا مغايرا، ورصدا مختلفا، فيكون السؤال الاستفهامي المرتبط بالماهية- الذي يشير إلى بداية التعرف- (إيش يعني ميت؟) له مشروعية، بحيث يشكل هذا النص المعرفي االتقديمي، وكأنه أرضية للبناء عليها، لبناء الوعي المعرفي بهذا الحدث الجلل. كلنا يؤمن بالموت، وجلاله، ويمكن لأي فرد أن يتخيله على غيره من البشر، ولكن إذا ارتبط بالذات، فإن الذات- بالرغم من الإيمان بحتمية الموت- تبعده إلى مكان قصي. مع القصائد التالية تتعالى طريقة المقاربة، باقتراب الموت من شخصيات نعرفها، تشكل امتدادا لنا، كما في قصيدة (عنا)، وقصيدة (حياة)، التي تشكل واحدة من أهم قصائد الرثاء في الشعر العربي، بل أكاد أخشى من التعرض لها نقديا، حتى لا يقل بهاؤها أو يجرح شموخها، فالنقد تقل قيمته إن لم يصنع خطابا موازيا يكون في مستوى مساوٍ للنص الشعري، وهذا النص فيما أعتقد يحتاج لدراسة مستقلة منفصلة، لأنها يرتبط بالسؤال الوجودي في معناه العميق، بوجودنا الهش والمحتمل، الذي يفقد – تحت تأثير ذلك الفقد- أي أرضية مستقرة: كأنا: خلقنا رعاة فراغ ولم ننتبه: لما بين دمغة ختمين ينكر أسماءنا دمغتين: وبينهما العمر فاصلة من حياةْ الوجود الموازي ربما كان من سمات محمد حبيبي الشعرية الاتكاء على الارتباط بجزئيات الكون، وكأنها عوالم تحس وتشعر وتتألم، يؤيد ذلك المنحى أنه استخدم كلمة (مخلوقات) بوصفها عنوانا لكيان خاص في مقاربته لكل من(جندب- مراوح- نجمة)، وهي الكلمة ذاتها التي استخدمها في نصه الأول في الديوان(صورة) لمقاربة البشر(كانوا خمسة مخلوقات لا أجمل). هذا التوجه ينفي فكرة الهيمنة الوجودية، التي يشعر بها البعض في مقاربة الوجود الإنساني، بوصفه الوجود الفاعل والوحيد، فوجود هذه الكيانات الموازي للوجود الإنساني، يكشف عن الاتصال بين هذه الكيانات، ويكشف- أيضا - عن الارتباط بينها، وهذا يكشف عن أن الوجود الإنساني وجود ذري سابح في سديم كون أعلى، يشتمل على كيانات عديدة. إن نزوع شعرية محمد حبيبي في الارتباط بالجزئيات المحيطة من مخلوقات أو نبات، ليس نزوعا رومانسيا، يهتم بإسدال التوحد بين الشاعر وهذه المخلوقات، وإنما بوصفه إدراكا وجوديا، يدخل هذه المخلوقات بعالمها الخاص داخل العالم التكويني الإدراكي للشاعر. ففي قصيدة (جندب)- وهو نوع من الخنافس يرتبط بسقوط المطر- نشعر أنه ليس هناك قصدية لتقديم رؤية تجريدية، كما يفعل بعض شعراء قصيدة النثر في العقود الأخيرة، وإنما هناك- كما تجلى في النص الشعري-اهتمام بمعاينة وعيه، وتشكيل عالمه الشعري، فجندب كانت جزءا من عالمه، وعالم المجايلين له. لا يستطيع المتلقي أن يفصل بين العنوانين( مخلوقات)، و(أعشاش)، فهما يمثلان توجها واحدا في إبداع محمد حبيبي، فالشاعر في شعريته القائمة على المغايرة في إدراك الذات، ينطلق في حدود ذلك الإدراك إلى مغايرة ترتبط بجزئيات محيطة، ويقوم في سبيل ذلك بتشكيل السياقات المنفتحة أو الكيانات الجزئية، التي تتحرك وفق خطة أشمل، لتكوّن الوجود في شكله العميق في النهاية، فالشاعر يتعامل مع هذه الجزئيات- التي قد تكون أقرب إلى الماديات في المنطق البشري- بوصفها جزئيات تكوّن كلا كاملا مترابطا، فهي تحس وتشعر وتتألم، كما في قصيدتي (غصن) و(شجرة)، حيث تتم المقاربة في الخطاب الشعري على نحو يشعرك بالتعاطف أو التوحد مع هذا الغصن الجاف، أو مع الشجرة، التي تتحول إلى جزئيات مادية عديدة، ولكن غصنا واحدا- وكأن هناك فاعلية للتناسخ- يستطيع أن يعيد تشكيلها في وجود مواز من خلال الفن. وتلح الفكرة ذاتها في قصيدة (بيوت) حيث يلح الخطاب الشعري- مع التأكيد على الخوف المتأصل لفقد المأوى- على فكرة الكيانات المنفتحة، والمتصلة ببعضها البعض، وإن سيادة كيان يتم على أنقاض كيان آخر، بحيث يشكل طبقة معرفية ووجودية في لحظة زمنية محددة.إن شعرية محمد حبيبي هي شعرية الوجود الذري، الذي لا يكتمل، إلا في ظل تأمل ومعاينة الكيانات الأخرى المنفتحة للاكتمال، وكأنها ذرات في حركة دائبة بحثا عن الحب والاكتمال.