رمزية ولا وصف آخر.. هذا هو كل ما يمكن أن نصف به زيارة الخمسة أيام للأمير البريطاني ويليام، التي بدأها يوم الرابع والعشرين من يونيو الماضي للأردن وإسرائيل وللأراضي الفلسطينيةالمحتلة.. زيارة أطلق عليها قصر كينجستون وصف "تاريخية". الحدث يكمن في كونها واحدة من الزيارات البروتوكولية المدرجة علي جدول دوق كمبريدج، أكثر من كونه يكمن في حضوره إلي أرض فلسطين القديمة التي كانت تحت الوصاية البريطانية في الفترة من 1920-1948، ومنذ الإعلان عن إنشاء الدولة العبرية في 1948، لم يقم أي من العائلة البريطانية بزيارتها أو زيارة الأراضي الفلسطينية، علماً بأن الأمير ويليام البالغ من العمر 36 عاماً، هو الثاني في ترتيب تولي العرش بعد جدته الملكة إليزايث الثانية. زيارة الأمير وليام التي جاءت بطلب من الحكومة البريطانية تعد أول زيارة رسمية يقوم بها عضو بارز في العائلة المالكة البريطانية لإسرائيل والأراضي الفلسطينية، وكانت السياسة البريطانية تقضي بعدم قيام أي فرد من العائلة المالكة بزيارة رسمية من هذا النوع قبل حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولم تقدم بريطانيا تفسيرا لتغيير نهجها الذي يتزامن مع الذكري السبعين لقيام إسرائيل. الأمير ويليام وصل إلي الأردن أولاً، بدون زوجته كيت ميدلتون، وتوجه إلي زيارة معبد جرش الروماني الأثري بصحبة ولي العهد الأمير حسين بن عبد الله، وأشاد ويليام بمجتمع أردني »منفتح ومستقر وله تاريخ طويل من الالتزام تجاه اللاجئين الفلسطينيين»، وبعد تلك الزيارة مباشرة، توجه في نفس اليوم إلي تل أبيب، وأقام في فندق الملك داوود، الذي كان مقراً للحكم العسكري البريطاني قبل إنشاء إسرائيل. في إسرائيل، بدأ الأمير ويليام زيارته بنصب ياد فاشيم، الذي يخلد به اليهود ما يزعمون أنه محارق النازية، ثم عقد ويليام مباحثات لم يُفصح عن فحواها مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وذلك في مقره الرسمي بشارع بلفور.. اسم يُذكر علي الفور بآرثر بلفور وزير الخارجية البريطاني، صاحب الوعد الشهير، في عام 1917، بمنح اليهود وطنا قوميا في فلسطين.. وعد لم يكن فقط مجسداً لعبارة »منح من لا يملك لمن لا يستحق»، ولكنه كان أيضاً بمثابة خيانة وعد آخر للعرب بمساندتهم في مساعيهم للاستقلال عن الخلافة العثمانية. وفي عام 1947، كانت بريطانيا واحدة من الدول الغربية القلائل التي امتنعت عن التصويت لقرار الأممالمتحدة بتقسيم أرض فلسطين التاريخية بين العرب واليهود، بواقع 42٪، و47 علي الترتيب، مع إبقاء القدس وبيت لحم والأراضي المجاورة تحت الوصاية الدولية. وبعد إنشاء الدولة العبرية في 1948، فترت العلاقة، بشكل يصل إلي القطيعة، بين لندن وتل أبيب بشكل أو بآخر. وعلي مدار 70 عاماً، كانت لندن حريصة علي عدم التدخل في النزاع بأي شكل، وهو ما كان دوماً دافعاً للإنجليز لعدم قبول الدعوات الرسمية للزيارة، التي كانت تصدر بشكل دوري عن الدولة العبرية. وفي عام 1986، كانت أول زيارة لمسؤول إنجليزي رفيع المستوي لإسرائيل، والحديث هنا عن رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر، وحينما سألها أحدهم » ألا تجد الملكة إليزابيث وقتاً لزيارة إسرائيل؟»، أجابت المرأة الحديدية: » ولكن أنا هنا». مكتب العلاقات الخارجية بالقصر الملكي هو المعني بتحديد التحركات الدبلوماسية خارج بريطانيا لأفراد العائلة المالكة، ويبدو الهدف من هذه الزيارة »السريالية»، علي حد وصف صحيفة لوموند الفرنسية اليومية، هو تجنب عزلة بريطانية متوقعة بعد خروجها الرسمي من منظومة الاتحاد الأوروبي، وكذلك كسب ود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي سيزور لندن خلال الفترة المقبلة، بعد فترة من الشد والجذب بين الطرفين، وفي نفس الوقت كان القصر الملكي حريصاً في عدم إغضاب الفلسطينيين، وهو ما تجلي في التصريحات التي أُمليت علي الأمير ويليام. وتبدو الزيارة سيريالية تعج بالمتناقضات فعلاً، وذلك من خلال لقاء الأمير البريطاني بعدد من الشباب الأردني والإسرائيلي والفلسطيني، وجميعهم في نفس مرحلته العمرية، وذلك بهدف »إنشاء علاقات مستدامة وحقيقية مع شعوب المنطقة، ومعرفة طموحاتهم وما يتطلعون له في المستقبل». الصحفي الإسرائيلي أنشيل بفيفر، كتب بصحيفة هاآرتس ساخراً: »شاب يبلغ من العمر 36 عاماً، لا عمل له سوي انتظار موت جدته وأبيه لكي يتولي شؤون أسرة ملكية، هبط علينا بطائرة هليكوبتر.. إنها حقاً زيارة تاريخية!». عكس التاريخ وفي تصريح يسير عكس تاريخ بلاده، أكد وليام للفلسطينيين خلال الزيارة أنهم »لم يذهبوا طي النسيان»، وفي الوقت نفسه لم يجد من ينبهه إلي أنه أنهي ما كان يراه الإسرائيليون مقاطعة غير معلنة للزيارات الرسمية من جانب أفراد العائلة المالكة البريطانية. والتزم وليام بمسار جولته الذي تم رسمه بعناية لتحقيق ما يعتقده توازنا. الجولة الملكية وصفت بأنها غير سياسية. ومثلت فرصة لإبداء نوايا طيبة والتعبير عن الآمال في تحقيق السلام في مناطق حكمتها بريطانيا منذ عام 1917 حتي عام 1948 وهو العام الذي شهد قيام دولة إسرائيل. وفي بداية الزيارة لمواقع مقدسة في القدس، صافح وليام عددا من رجال الدين ثم دخل إلي مسجد قبة الصخرة ثم إلي المسجد الأقصي. وبعد ذلك بدقائق توجه برفقة حاخامات إلي الحائط الغربي عبر ممر شكلته حواجز الشرطة التي أبقت حشداً من المتابعين بعيداً. ورغم وصف الجولة بأنها غير سياسية، وضع الأمير؛ الذي كان يرتدي القلنسوة التقليدية اليهودية، ورقة بين أحجار الحائط الغربي وبسط راحة يده علي الحائط وانحني للأمام في لحظات تأمل صامت.. وكتب ويليام في دفتر زوار الحائط الغربي »أدعو الله رب السلام أن يمن بالسلام علي هذه المنطقة والعالم بأسره». وزار بعد ذلك كنيسة القيامة التي يعتقد كثير من المسيحيين أن المسيح صُلب ودُفن فيها». وتقع الأماكن المقدسة التي زارها وليام في القدسالشرقية التي احتلتها إسرائيل في حرب عام 1967 وضمتها في خطوة لم تحظ باعتراف دولي. جدته الكبري وقبل أن يتجول الأمير وليام، حفيد ملكة بريطانيا والثاني في ترتيب ولاية العرش، في الأماكن المقدسة زار قبر جدته الكبري الأميرة أليس في القدس، وهي أميرة كرمتها إسرائيل لإيوائها يهودا في اليونان عندما كانت تحت الاحتلال النازي أثناء المحرقة. والأميرة أليس، أميرة باتنبرج واليونان، هي حماة الملكة إليزابيث، ودفنت في سرداب في كنيسة مريم المجدلية الروسية الأرثوذكسية والتي تقع علي جبل الزيتون خارج جدران البلدة القديمة في القدس، وتوفيت في لندن في 1969 بعد أن طلبت أن تُدفن في القدس. الأمير ويليام زار أيضاً الضفة الغربيةالمحتلة حيث التقي الرئيس الفلسطيني محمود عباس وتجول في مخيم للاجئين في يوم مر فيه أيضاً بمدينة تل أبيب الساحلية. وقال الأمير وليام أمام تجمع لعدد من منظمات المجتمع المدني ورجال الأعمال ورجال الدين الفلسطينيين في القدس »لقد كانت تجربة ثرية أن ألتقي بكم وبفلسطينيين آخرين في الضفة الغربية».. وتابع قائلا »رسالتي الليلة هي أنكم لم تذهبوا طي النسيان» وعبّر أحد الفلسطينيين أمام عيادة بالقدسالمحتلة زارها وليام، عن غضبه إزاء الإرث الذي تركه تدخل المستعمر البريطاني في الأراضي المقدسة، مشيرا إلي وعد بلفور في 1917، وكان هناك تبرم أيضا من نائب إسرائيلي يميني بسبب بيان بريطاني عن زيارة وليام، أدرج القدس ضمن الأراضي الفلسطينيةالمحتلة.