الداخلية تواصل فعاليات مبادرة «كلنا واحد – معك في كل مكان» وتوجه قافلة إنسانية وطبية بنطاق محافظة البحيرة    بروتوكول بين القوات المسلحة وأكاديمية تكنولوجيا المعلومات ل«ذوي الإعاقة»    وزارة العمل: توفير 7 ملايين و240 ألفا فرصة عمل فى الداخل والخارج منذ 2014    خريطة الأسعار اليوم: انخفاض أسعار الحديد وارتفاع اللحوم والذهب يعود للارتفاع    محافظ المنوفية: ذبح 35 عجلًا بلديًا وتوزيعها على الأسر الأولى بالرعاية خلال أيام عيد الأضحى    ارتفاع أسعار المكرونة واللحوم وانخفاض الجبن اليوم الجمعة بالأسواق (موقع رسمي)    اليوم تسيير 27 رحلة جوية إلى الأراضي المقدسة    وزيرة التخطيط: مصر شريك مهم ل "بريكس" لكونها بوابة أفريقيا    مجلس الأمن الدولي يناقش الوضع الإنساني في أوكرانيا خلال ساعات    الزمالك يقرر عدم التجديد للاعب وسط الفريق    أول تعليق من وسام أبو علي بعد ظهوره الأول مع منتخب فلسطين    التربية والتعليم توجه تحذير لطلاب الثانوية العامة من اصطحاب المحمول والتابلت بلجان الامتحان    حملات مكثفة على المنشآت الغذائية بمركز الفرافرة في الوادي الجديد    بعثة الحج بوزارة الداخلية تستقبل آخر فوج من ضيوف الرحمن بالمدينة المنورة (صور)    بالخطوات تعرف على طريقة الحصول على نتيجة الشهادة الإعدادية بالمحافظات    وصلة رقص ل منى زكي وجميلة عوض على أغنية عمرو دياب بحفل زفافها (صور وفيديو)    مواعيد صلاة عيد الأضحى 2024    «يأثم فاعله».. مفتي السعودية يوجه نصيحة لحجاج بيت الله الحرام (تفاصيل)    «مفيش بشر».. شوارع الوادي الجديد خالية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    «التعليم العالي»: تحالف جامعات إقليم الدلتا يُطلق قافلة تنموية شاملة لمحافظة البحيرة    نسب إشغال متوسطة فى أول جمعة من يونيو على شواطئ الإسكندرية    مفاجأة في قائمة منتخب إسبانيا النهائية لبطولة يورو 2024    الموسيقات العسكرية تشارك في المهرجان الدولي للطبول والفنون التراثية    مصر وروسيا تبحثان سبل تعزيز التعاون في مجالات التجارة والصناعة والاستثمار    الانتخابات الأوروبية.. هولندا تشهد صراع على السلطة بين اليمين المتطرف ويسار الوسط    الأوقاف: افتتاح أول إدارة للدعوة بالعاصمة الإدارية الجديدة    وزير الزراعة يعلن فتح اسواق فنزويلا أمام البرتقال المصري    مذكرة تفاهم بين مصر وجامبيا للتعاون في إدارة الأنهار المشتركة والتحلية    عيد الأضحى- فئات ممنوعة من تناول الممبار    بروتوكول تعاون لاستقطاب وافدين من أوروبا والخليج للعلاج بمستشفيات «الرعاية الصحية»    استبعاد كوبارسي وجارسيا ويورينتي من قائمة اسبانيا في اليورو    تفاصيل موعد جنازة وعزاء المخرج المسرحي محمد لبيب    في ذكرى ميلاد محمود مرسي.. تعرف على أهم أعماله الفنية    سعر الدولار يرتفع في 9 بنوك مصرية خلال أسبوع    الأنبا باخوم يترأس قداس اليوم الثالث من تساعية القديس أنطونيوس البدواني بالظاهر    أكسيوس: فشل اجتماع القاهرة لإعادة فتح معبر رفح    أيام البركة والخير.. أفضل الاعمال في العشر الأوائل من ذي الحجة 1445    أحكام الأضحية.. أقيم مع ابنتي في بيت زوجها فهل تجزئ عنا أُضْحِيَّة واحدة؟    بعد غيابه عن الملاعب.. الحلفاوي يعلق على مشاركة الشناوي بمباراة بوركينا فاسو    إخماد حريق داخل محل فى حلوان دون إصابات    بمناسبة عيد الأضحى.. زيارة استثنائية لجميع نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل    صلاح يفوز بجائزة أفضل لاعب في موسم ليفربول    اليوم.. سلوى عثمان تكشف مواقف تعرضت لها مع عادل إمام في برنامج بالخط العريض    التعليم العالى: إدراج 15 جامعة مصرية فى تصنيف QS العالمى لعام 2025    يونس: أعضاء قيد "الصحفيين" لم تحدد موعدًا لاستكمال تحت التمرين والمشتغلين    ضياء السيد: حسام حسن غير طريقة لعب منتخب مصر لرغبته في إشراك كل النجوم    وزيرة الثقافة وسفير اليونان يشهدان «الباليه الوطني» في الأوبرا    علي عوف: متوسط زيادة أسعار الأدوية 25% بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج    خلاف داخل الناتو بشأن تسمية مشروع دعم جديد لأوكرانيا    المتحدة للخدمات الإعلامية تعلن تضامنها الكامل مع الإعلامية قصواء الخلالي    محافظ أسوان: طرح كميات من الخراف والعجول البلدية بأسعار مناسبة بمقر الإرشاد الزراعي    إصابة 7 أشخاص إثر انقلاب ميكروباص بالطريق الدائري بالقليوبية    مداهمات واقتحامات ليلية من الاحتلال الإسرائيلي لمختلف مناطق الضفة الغربية    توقعات الأبراج اليوم الجمعة 7 يونيو 2024.. ترقيه جديدة ل«الحمل» و«السرطان»يستقبل مولودًا جديدًا    افتتاح المهرجان الختامي لفرق الأقاليم ال46 بمسرح السامر بالعجوزة غدًا    الأوقاف تفتتح 25 مساجد.. اليوم الجمعة    مجلس الزمالك يلبي طلب الطفل الفلسطيني خليل سامح    غانا تعاقب مالي في الوقت القاتل بتصفيات كأس العالم 2026    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصتان ٫٫ من الأدب الصيني
الماضي والعقاب

ذات ليلة من ليالي صيف عام 1990، فتح الغريب في مسكنه المشبع بالرطوبة برقية من مجهول؛ ليقع بعدها في دائرة التفكير العميق، وقد تضمنت البرقية كلمتين فقط »سرعة الرد»‬، وخلت من اسم وعنوان المرسل، وبعد أن فتش الغريب سريعًا في ذاكرته البعيدة لعشرات السنين، ابتسم أخيرًا لإحدي الطرق المتعددة والمتشابكة في ذاكرته الطويلة، وفي صباح اليوم التالي، بدأ الغريب بهيئته الحالكة رحلته علي هذا الطريق الواهي كخيط العنكبوت.
كان من الواضح، أن ماضي الغريب المتشابك والمعقد كطريق متعرج، كان به ثمة تجربة دقيقة كشعرة الرأس واضحة دون غيرها. فقد بدأ التاريخ 5/3/1965 بما يحمله من مغزي يحدد المسار الذي سيسلكه الغريب، وإن كان هو عندما أيقظ ذاكرته البعيدة ليلة أمس، لم ينجح في استبعاد تأثير ثمة أحداث أخري في ماضيه المتشابك، وقد منعه بعده عن المرآة آنذاك، أن يتحقق من ابتسامته الغريبة لحظة أن فك شفرة البرقية، فقط أدرك أن أحاسيسه لم تتأثر، وهذا بسبب ثقته الكبيرة في أحاسيسه، في حين أنه عجز عن تجنب ما تلا ذلك من أخطاء متسلسلة.
وبعد عدة أيام، وصل الغريب إلي بلدة تسمي »‬يان»، وفيها ظهرت له تلك الأخطاء المتسلسلة، والتي كشفها له أحد أهالي البلدة الملقب ب »‬خبير العقوبات».
بإمكانك أن تتخيل هيئته وتعبيرات وجهه وهو يسير في الطرقات، وقد جعلته الذكريات التي كانت تحاصره يفشل في تمييز المناظر والأشياء من حوله، حتي أنه عندما وقع بصره علي الخبير، أحس بداخله بصرخة قوية، وقد بدا الغريب حينها كطفل تائه، وقع رغمًا عنه في مرمي بصر الخبير؛ تقدم الغريب إلي أمام بناية من طابقين ذات لون رمادي، فاعترضه الخبير بابتسامة مبالغ فيها.
»‬ها قد أتيت؟».
أصابته لهجة الخبير بدهشة كبيرة، وكأن هذا الشيخ الذي اشتعل رأسه شيبًا يلمح بسؤاله هذا إلي شيء ما، عجز الغريب عن تحديده.

وتابع الخبير:
»‬انتظرتك طويلًا».
وبالرغم من أن هذا الرد لم يؤكد الفكرة التي تعتمل في ذهن الغريب، لكنه افترض بأنه حتي إذا قبل بهذه الفكرة، فإن هذا الشيخ الذي يقف أمامه ما هو إلا ذرة من تراب محيط ماضيه الواسع؛ فقرر الغريب تجاوز هذه الفكرة، ومضي في تذكر ما وقع في 5/3/1965.
وافقت المواقف التالية رغبة الخبير، فبعد حوار مقتضب، توقف الغريب عن التفكير في 5/3/1965.
وبسبب تحذير الخبير والذي كان من الواضح أنه تحذير لاإرادي، ليس من ذلك النوع الذي يسبقه تخطيط لفترة طويلة فقد عرف الغريب أخيرًا موقعه في تلك اللحظة، ليكتشف أن المكان الذي يتمني الذهاب إليه يختلف تمامًا عن المكان الذي يقصده الآن، بمعني أنه قد سار في الاتجاه المعاكس، وفي واقع الأمر، أنه كان يبتعد كثيرًا عن 5/3/1965.
وفي تلك اللحظة، تذكر الغريب لأول مرة أمر البرقية الغامضة في تلك الليلة المشبعة بالرطوبة. وتوقف تفكيره طويلًا عند المكان الذي شهد ذكري يوم 5/3/1965، قبل أن يركز علي بعض التواريخ الأخري التي كانت تنغص عليه حياته في تلك الفترة، والتي كانت علي التوالي9/1/1958، 1/12/1967، 7/8/1960 و20/9/1971، وهنا أدرك الغريب السبب في صعوبة العودة إلي 5/3/1965، وفي واقع الأمر، فقد تكون هناك علاقة ما بين ما تلمح إليه البرقية الغامضة وبين التواريخ الأربعة الأخري، والتي حالت بينه وبين التفكير في 5/3/1965، وقد كانت هذه التواريخ الأربعة تعبر عن مسارات مختلفة في حياته، وأنه إذا تخلي عن التفكير في 5/3/1965، فإنه لن يكون بمقدوره مواصلة التفكير في 9/1/1958 وغيره من التواريخ الأخري.
وفي أصيل ليلة أخري من ليالي الصيف، وجد الغريب نفسه مضطرًا للتفكير في مخرج من هذه الورطة التي أوقعته فيها تلك الأخطاء المتسلسلة؛ فراح يتابع بحرص شديد خبير العقوبات؛ حتي قادته تلك المتابعة إلي الشعور بأن هناك ثمة علاقة بين هذا الشيخ الماثل أمامه وبين تلك الأحداث التي تنغص عليه حياته، حتي أنه عندما أعاد النظر في أزماته الحالية، بدأ يشعر بأنها جميعها من ترتيبات القدر.
وقبل أن يعم الظلام، تمكن الخبير من إثارة حماس الغريب بثقة كبيرة؛ فاستجاب الغريب لترتيبات القدر، وتبع الخبير إلي داخل البناية الرمادية اللون من طابقين.
جلس الغريب صامتًا داخل الصالة المطلية في جميع جوانبها باللون الأسود، وأشعل الخبير مصباحًا أبيض اللون، حينئٍذ راح الغريب يبحث عن العلاقة التي تربط بين البرقية وهذه الصالة التي يجلس بداخلها الآن، إلا أنه توصل إلي نتيجة بعيدة عن تفكيره تمامًا، لقد اكتشف أن الطريق الذي جاء منه يبدو متعرجًا.
وقد اتسمت أجواء الحديث بين الغريب والخبير منذ بدايتها بالتناغم الواضح، حتي يكاد المرء يشعر بأنهما التقيا وتحدثا كثيرًا من قبل، وكأن كلًّا منهما يعرف صاحبه تمام المعرفة.
وتقمص الخبير دور المضيف، وكان عليه أن يبدأ صاحبه بالكلام. فقال:
»‬نحن في الحقيقة نعيش دائمًا في الماضي، وما الحاضر والمستقبل إلا صورتان من ألاعيب الماضي».
فاعترف الغريب بقدرة كلام الخبير الكبيرة علي الاقناع، ولكنه كان أكثر اهتمامًا بحاضره.
»‬نحن ننفصل في بعض الأحيان عن الماضي، ففي الحاضر ثمة شيءٌ ما يفصل بيني وبين الماضي».
فقد دفع الفشل في العودة إلي ذكري 5/3/1965 الغريب إلي البحث في أسباب هذه الفشل، وقد يعزي السبب في ذلك إلي تأثير التواريخ الأربعة الأخري.
ولكن الخبير قاطعه قائلًا:
»‬ولكنك لم تنفصل عن الماضي».
ولم يفشل الغريب في العودة بذاكرته إلي يوم 5/3/1965 فحسب، وإنما ابتعد عنه كثيرًا، بل وابتعد عن التواريخ الأربعة الأخري.
وتابع الخبير:
»‬أنت في واقع الأمر تقبع دائمًا في الماضي، وقد تشعر في بعض الأحيان بأنك ابتعدت عنه، ولكنها مجرد تخيلات، وهو ما يعني أنك أصبحت تقترب منه أكثر».
وقال الغريب:
»‬أجزم بأن ثمة شيئًا ما يفصل بيني وبين الماضي».
فوجد الخبير نفسه مضطرًا إلي أن يرد عليه بابتسامة خفيفة، وقد شعر بأنه لا مجال لإقناع الغريب بالكلام.
وواصل الغريب التفكير في ماضيه، وعندما ابتعد عن جميع الذكريات التي كانت تشغله، وارتسمت علي وجه الخبير ابتسامة مغايرة، وقال:
»‬انتظرتك طويلًا».
فرد الغريب:
»‬أنت ذلك الشيء».
فلم يستطع الخبير تقبل هذا الاتهام من الغريب، وبالرغم من إحساسه بالتعب بالرد عليه، إلا أنه أوضح له للمرة الثانية:
»‬أنا لم أفصل بينك وبين ماضيك، بل علي العكس أنا أساعد في الربط بينك وبين الماضي، باختصار أنا ماضيك».
وقد جعلت اللهجة التي نطق بها الخبير آخر كلمة، جعل الغريب يشعر باستحالة مواصلة الحديث في هذه النقطة، ولكنه قال للخبير:
»‬ولكني لا أفهم انتظارك لي».
»‬هذا إذا لم تؤكد علي حتمية هذا الانتظار»، ثم قال الخبير موضحًا: »‬إذا تعاملت مع انتظاري لك علي أنه جاء مصادفة، ستفهمه بسهولة».
»‬يمكن أن أفهمك علي هذا النحو». قال الغريب.
رد الخبير وقد بدا عليه الرضا التام: »‬يسعدني أن نصل إلي اتفاق حول هذه النقطة، وأري أننا ندرك جميعًا أن الحتمية تنتمي إلي تلك الأشياء السخيفة، والتي لن تُغير شيئًا من ملامحها الذاتية، في حين أن المصادفة شيءٌ عظيم، فأينما تلقي بها تجد تاريخًا متجددًا».
لم يعارض الغريب كلام الخبير، وإن كان اهتم بشكل كبير بالسؤال حول:
»‬لماذا تنتظرني؟».
رد الخبير وقد ابتسمت علي وجهه ابتسامة خفيفة:
»‬كنت علي علم أننا عاجلًا أم آجلا سنتطرق إلي هذه النقطة، وأري أن هذا هو أنسب وقت للحديث فيها، هذا لأنني بحاجة إلي المساعدة من شخص ما، شخص يتمتع بروح التضحية. واعتقد أنك هذا الشخص الذي أبحث عنه».
فسأل الغريب:
»‬أي مساعدة تقصد؟».
أجاب الخبير:
»‬ستعرف غدًا، والآن أريد التحدث معك حول طبيعة عملي، فعملي يقوم علي تلخيص الحكمة البشرية، وأبرز ما في هذه الحكمة العقوبات، وهذا ما أريد أن أتحدث معك فيه».
ويبدو أن الخبير قد أحاط بكل ما يتعلق بالعقوبات البشرية،حتي أنه بإشارة منه جعل الغريب يتعرف علي عقوبته كمن يطالع راحة يده، وبالرغم من تقديمه لكافة أنواع العقوبات بكل بساطة وبشكل تدريجي، إلا أنه قدم وصفًا سريعًا لما يعقب تنفيذ كل عقوبة علي حدة.
وما إن انتهي الخبير من وصفه الطويل والحي للعقوبات، حتي اكتشف الغريب عقوبة سقطت من الغريب، وكانت عقوبة الإعدام شنقًا، وبسبب تأثير مشاعر معقدة ومتغيرة، فقد كان الغريب منذ بداية حديث الخبير ينتظر وصف هذه العقوبة علي وجه التحديد، في تلك اللحظة، وجد الغريب نفسه غارقًا في التفكير كمن يواجه مصيبة كبيرة، وقد بدت معالم 5/3/1965 المبهم تتضح في ذهنه بصورة تدريجية، وأصبح بإمكانه أن يستنتج أن أي شخص له علاقة بذكريات الغريب في 5/3/1965 قد اختار الموت شنقًا.
ولكي يخلص الغريب نفسه من التفكير في تلك الذكريات الخانقة، اهتدي إلي تنبيه الخبير إلي سقوط عقوبة الإعدام شنقًا من قائمة العقوبات التي وصفها له، علي أمل أن يخلصه وصف الخبير الدقيق لهذه العقوبة من ماضيه.
واشتاط الخبير غضبًا، وأعلن للغريب أنه لم يُسقط هذه العقوبة، وإنما أجلها إلي حين. وأرجع السبب في ذلك إلي تعرض هذه العقوبة للتخريب، وأخبر الغريب بأنه كيف خرب هؤلاء المنتحرون المبتذلون هذه العقوبة. هذا قبل أن يصرخ في وجه الغريب قائلًا:
وهنا حكي خبير العقوبات للغريب هذه الحادثة: كان هناك شخص ما، وعلي وجه الدقة كان عالمًا بما تحمل الكلمة، والذي لم يعد له وجود في القرن العشرين. كان قد استيقظ في صباح يوم ما، ورأي عددًا من الرجال في ملابس رمادية يقفون عند رأس سريره، والذين اقتادوه إلي خارج بيته، ومنها إلي سيارة كانت تنتظرهم، وكان من الواضح أن العالِم شعر بالقلق الشديد من المكان الذي سيقتاده إليه هؤلاء الرجال، فسألهم عما يقلقه، فأجابوه بالصمت، الأمر الذي زاد من حيرته، كان يحكم علي مصيره الذي ينتظره عما قريب من خلال المناظر التي يراها من خلال النافذة ، رأي عدة شوارع وجدول صغير يعرفهم تمام المعرفة، قبل أن تمر تلك الشوارع والجدول، ثم ظهر له ميدان فسيح، من الممكن أن يتسع لعشرين ألف شخص، وبالفعل كان به في تلك اللحظة هذا العدد من الناس، والذين كانوا يبدون من بعيد مثل مجموعة كبيرة من نمل الصيف، لم يكد يمر وقت قصير حتي تم اقتياد العالِم إلي وسط الجموع المحتشدة في الميدان، هناك رأي منصة عالية، وقف فوقها وأخذ ينظر إلي المحتشدين الذين يملؤون الميدان، فرأي مجموعة كبيرة من الحشائش المتشابكة. كما رأي فوق المنصة عددًا من الجنود المسلحين، الذين كانوا يرفعون بنادقهم عالية صوب رأسه، الأمر الذي أصابه برعب شديد، ولم يكد يمر وقت قصير، حتي أنزل الجنود بنادقهم، وقد نسوا أن يملأوا خزائنها بالذخيرة، لحظات ورأي العالِم عددًا من البنادق وهي تعبأ بالذخيرة، قبل أن تصوب فوهاتها إلي رأسه، وفي تلك الأثناء، صعد المنصة رجل في هيئة القضاة، وأعلن للعالم أنه حُكم عليه بالإعدام، فُأصيب العالِم بدهشة شديدة، وهو لا يعلم الجريمة التي ارتكبها ليصدر في حقه هذا الحكم، فسمع القاضي يقول:
»‬لتنظر إلي يداك الملطختان بالدماء الطازجة».
نظر إلي يديه، فلم يجد أثرًا للدماء، مدها للقاضي ليتحقق بنفسه، فلم يعره القاضي اهتمامًا، وتنحي جانبًا، وفي التوِّ رأي العالِم عددًا كبيرًا من الناس يتوافدون إلي المنصة الواحد تلو الآخر، يتهمونه بأنه لم يتوقف عن تنفيذ العقوبات ضد ذويهم، وقد احتدم بين العالِم وبينهم في البداية شجار عنيف؛ حاول أن يوضح لهم بأن الإنسان يجب أن يضحي بحياته في سبيل العلم، وهذا ما فعله ذويهم، وما هي إلا لحظات وأدرك العالِم شبح الأزمة التي وقع فيها، فقد بدأت بعض البنادق تُصوب نحو رأسه، وتخيل نهاية هذه الرأس التي قد تتناثر عما قريب كالحصي لحظة انهيار سطح ما، فسيطر عليه إحساس شديد بالرعب، استمر توافد المحتشدين إلي أعلي المنصة لتقديم شكواهم، استغرق تقديم الشكاوي عشر ساعات كاملة، في الوقت الذي كان بعض الجنود مكلفين بتوجيه بنادقهم صوب رأسه.
ولم يكد الخبير يصل إلي هذا المشهد من الحكاية، حتي أعلن للغريب وبغرابة شديدة أن:
»‬وهذا العالِم هو أنا».
ثم أخبر الغريب بعدها بأن تفاصيل هذه الساعات العشر، استغرقت منه عامًا كاملًا.
وبمجرد أن عرف العالِم حقيقة الحكم عليه بالإعدام، تعرض خلال العشر ساعات التالية لعلمه بالحكم لمعاناة نفسية شديدة، وخلال تلك الساعات العشر، تجرع مرارة تجارب لم يكن يتوقعها بحالٍ من الأحوال، قضي لحظات صعبة بين الشعور بالخوف الشديد تارة، والحماس تارة أخري، والفزع تارة ثالثة. وللحظات تساوت عنده الحياة والموت، ولكنه عاد واكتشف في الحال جمال الحياة، وخلال تلك الساعات العشر المضطربة، أحس العالِم بأن كل تلك المشاعر المعقدة التي تسيطر عليه كسكين حاد يقطعه إربًا.
ومن خلال ذلك السرد المتقن الذي قدمه خبير العقوبات، كان من السهل إدراك كمال تلك العقوبة التي يتحدث عنها، حتي أنه ما إن انتهي من قص الحكاية علي مسامع الغريب، حتي قال له موضحًا:
»‬وقد ادخرت هذه العقوبة لنفسي».
أخذ يشرح للغريب أنه أنفق في هذه العقوبة عشر سنوات كاملة، لذا فإنه لن يتنازل عنها لأحد بسهولة، وكان من الواضح أنه يلمح بقوله لأحد إلي الغريب، وما إن سمع الغريب اعتراف الخبير، حتي علت وجهه ابتسامة سامية، تمكنت من إخفاء تلك الشكوك التي كانت تعمل بداخله، وقد أحس بأن هذه العقوبة ليست بذلك الكمال الذي وصفها به خبير العقوبات، وإنما يبدو أن بها خطأً ما.
عندئذ وقف خبير العقوبات، وأخبر الغريب بأنه ينوي تجريب هذه العقوبة الليلة، بل ويتمني أن يدخل الغريب بعد ذلك إلي غرفة نوم الخبير، عندئذ:
»‬سيكون بمقدورك رؤيتي، دون أن أراك».
دخل خبير العقوبات غرفة نومه، بينما جلس الغريب لفترة طويلة في غرفة الاستقبال، جلس غارقًا في التفكير في مصداقية الكلام الذي تفوه به الخبير قبيل مغادرته، وكان من الواضح أنه لن يبلغ ذلك الثبات الذي كان عليه الخبير في تلك اللحظة، وعندما همّ الغريب بدخول غرفة نومه، كان علي يقين تام بهذه الحقيقة، أنه عندما سيدخل إلي غرفة نوم الخبير في الغد، سيكون بمقدور الخبير رؤيته، فقد تمكن من أن يعثر علي سقطة وسط كل تلك العقوبات التي تبدو في الظاهر في غاية الإحكام، وقد استطاعت هذه السقطة أن تثبت فشل خبير العقوبات.
وقد أكد ما حدث في صباح اليوم التالي صدق توقعات الغريب؛ حيث وجد الغريب يرقد علي سريره وقد أنهكه التعب، وبوجه شاحب أخبر الغريب أن جميع الأمور بالأمس سارت علي ما يرام، إلا أنه استفاق فجأة في اللحظة الأخيرة، ثم رفع الغطاء متأثرًا ليري الغريب السرير.
»‬لقد بُلْتُ علي نفسي من شدة الرعب».
ومن خلال حجم البَلَلِ الذي لمسه علي السرير، خمن الغريب وبتحفظ أن خبير العقوبات بال ليلة أمس عشر مرات علي أقل تقدير، وقد أحس الغريب بالرضا التام تجاه ما يحدث أمامه، وأخذ ينظر إلي خبير العقوبات الذي يرقد علي السرير يلهث من شدة التعب، وتمني من أعماق قلبه ألا يكتب لهذه العقوبة النجاح، فهذا الرجل المريض الراقد أمامه يتحكم في أربع ذكريات من ماضيه الشخصي. وأن رحيل هذا الرجل يعني انقطاع علاقته بماضيه؛ لذا فإنه لن يشير للخبير إلي تلك السقطة التي اكتشفها في هذه العقوبة، حتي أنه عندما طلب إليه خبير العقوبات أن يأتي في الغد لرؤيته، غادر الغريب الحجرة بجدية دون أن يكلف نفسه بابتسامة مصطنعة.
ولم يخرج المشهد في اليوم التالي عن توقعات الغريب، وإذا بخبير العقوبات لا يزال يرقد علي سريره كما تركه بالأمس، ونظر الخبير الذي بدا أكثر نحافة إلي الغريب وقد دخل الحجرة، ولكي يداري الخبير خجله، رفع الغطاء ليثبت للغريب أن الأمر الليلة الماضية لم يتوقف عند البول، وإنما تعداه إلي الغائط، في حين لم تختلف النتيجة عن الأمس، حيث استفاق فجأة في اللحظة الأخيرة، وطلب من الغريب والحزن يعتصر قلبه:
»‬أرجو أن تأتي في الغد، وبالتأكيد ستكون النهاية».
لم يعطِ الغريب لكلام الخبير اهتمامًا واضحًا، وأخذ ينظر إليه مشفقًا علي حاله، وبدا أنه يرغب في أن يشير إليه بموضع تلك السقطة في هذه العقوبة، أي أنه بعد مُضي عشر ساعات يجب أن تكون هناك رصاصة دقيقة، ويجب أن تحطم هذه الرصاصة رأس الخبير، وقد أنفق خبير العقوبات عشر سنوات كاملة لأجل هذه الساعات العشر، ولكنه تجاهل رصاصة اللحظة الأخيرة الحاسمة، إلا أن الغريب كان علي علم بخطورة الإشارة إلي تلك السقطة في العقوبة، والتي تتمثل في موت ماضيه الشخصي بموت الخبير، حتي أصبح الأمر بالنسبة للغريب، أن بقاءه إلي جوار خبير العقوبات، يعني البقاء علي العلاقة مع ماضيه الشخصي، وبما أنه كان محيطًا بالسر المتعلق بتلك السقطة في هذه العقوبة، فقد بدا عليه الثبات لحظة خروجه من حجرة خبير العقوبات، فكان يعلم تمام العلم أن تلك السقطة الحاسمة تحافظ علي بقاء ماضيه الشخصي.
إلا أن ما وقع في صباح اليوم الثالث كان علي غير المتوقع بالمرة، فعندما جاء الغريب إلي حجرة نوم خبير العقوبات حسب الوعد، فإذا بخبير العقوبات قد نفَّذ وعده الذي قطع علي نفسه ليلة أمس، لقد مات، ولم يمت راقدًا علي سريره، وإنما انتحر علي مسافة متر واحد من السرير.
وجد الغريب نفسه وحيدًا أمام هذا الموقف المفاجئ، فقد قطع موت خبير العقوبات العلاقة بينه وبين تلك الذكريات الأربع من ماضيه الشخصي، راح ينظر إلي خبير العقوبات وكأنه يشهد انتحار ماضيه الشخصي، وقد ساعد هذا الموقف في الظهور الغامض ل 5/3/1965، كما أعاد هذا الموقف مشهد الغضب الكبير عند ذكر خبير العقوبات لعقوبة الإعدام شنقًا، وها هو خبير العقوبات قد اختار في النهاية هذه العقوبة البائسة.
وما إن همّ الغريب بمغادرة حجرة نوم خبير العقوبات، حتي وقع بصره علي هذه العبارة المكتوبة خلف باب الحجرة:
لقد أنقذت هذه العقوبة.
بدا من الواضح أن خبير العقوبات عندما كان يكتب هذه العبارة، يكون متيقظًا وهادئًا تمامًا، حتي أنه سجل معها وبجدية واضحة تاريخ كتابتها:5 /3/1965
سرد
الموت
لم أكن أنوي قيادة الشاحنة إلي تلك الجهة، لكنها كانت ضربات القدر، أتذكر أنني قُدت الشاحنة حينها إلي تقاطع طرق، عندها رأيت لافتة تشير صوب اليمين، كُتب عليها...أمامك 60 كم إلي تشيان مو دانغ. فانعطفت يمينًا، ثم وقع الحادث. كانت تلك هي المرة الثانية التي أتعرض فيها لحادث؛ وقع الحادث الأول في المنطقة الجبلية جنوب مقاطعة آنخوي، وكان ذلك قبل أكثر من عشر سنوات مضت، عندما كنت أقود الشاحنة ماركة التحرير، ليست هذه الشاحنة ماركة النهر الأصفر التي أقودها الآن، وقد صدمت صبيًا علي طريق بانشان، فألقيت به في خزان الماء أسفل الطريق علي عمق خمسة وثلاثين مترًا. كنت مضطرًا لذلك. ففي اللحظة التي بدأت الشاحنة تهبط إلي طريق بانشان، وما إن انعطفت في عجالة، حتي تفاجأت بصبي علي مسافة ثلاثة إلي أربعة أمتار من الشاحنة، كان يركب دراجة هابطًا إلي طريق بانشان، لم يسعفني الوقت لكبح الفرامل، ولم يكن أمامي إلا أن أنعطف يمينًا أو يسارًا. وإذا انعطفت يسارًا سأصطدم بالجبل، وستنفجر الشاحنة ماركة التحرير، وستتحول الشاحنة بمن فيها إلي كومة رماد، عندها لن تكون هناك حاجة لعمال المحرقة لحرق جثتي. أما إذا انعطفت يمينًا، فستسقط الشاحنة في خزان الماء، ولعلك تتفق معي في أن سقوط مثل هذه الشاحنة الضخمة في الماء سيحدث صوتًا مفزعا، وسينتج عنه تناثر كميات كبيرة من الماء، وسيكون مصيري الغرق
لا محالة. قلت لك إنه لم يكن أمامي إلا أن أصطدم بالصبي وألقي به في الخزان. رأيته وهو يلتفت إليّ مذعورًا للحظة، فوقعت عيناي علي عينيه السوداويين اللامعتين. لا تغيب عني هاتان العينان بالرغم من مرور سنوات طويلة علي رؤيتهما للحظة، فما إن أغلق عينيّ حتي تتراءي أمامي هاتان العينان السوداويان اللامعتان. وقد حدَّق فيَّ الصبي للحظة، قبل أن يطيح جسده في الماء، وتنتفخ ملابسه في الحال بفعل الرياح، وكان يرتدي زي عامل بالغ. سمعته يصرخ بأعلي صوته مستغيثا: »‬بابا!» لمرة واحدة ثم انقطع الصوت. كان صوته حادًّا وقويًّا، وهو يرن في أرجاء المكان. لم أوقف الشاحنة، فقد أصابني الحادث لحظة وقوعه بالذهول والفزع. ولم أشعر بأن الروح قد عادت إليّ إلا عندما غادرت الشاحنة طريق بانشان، وبدأت تسير علي الطريق الممهد الواقع إلي أسفل طريق بانشان، بينما كنت مذهولًا من أنني لم أسقط من أعلي الجبل. وفي اللحظة التي أذهلني الحادث لحد البلاهة، لم يؤثر ذلك علي يديّ اللتين كانتا تمسكان بعجلة القيادة، فقد كانت لدي خبرة طويلة في القيادة. فكرت في نفسي أنه مادام لم يعلم أحد بهذا الحادث، فإنني سألتزم الصمت. وقد خمنت أن الصبي إنما هو أحد أبناء العمال الذين يعملون في الغابة القريبة، ولا أعلم إذا ما كان الأب العامل قد أبكاه منظر ابنه وهو يخرجه جثة هامدة من الخزان؟ وربما كان لديه الكثير من الأبناء، وأن موت أحدهم لن يؤثر علي حالة الأب. فسكان الجبل معروفون بكثرة الإنجاب، كما خمنت أن الصبي قد يكون في الرابعة أو الخامسة عشرة من عمره، وأن والده قد تعب في تربيته إلي هذه السن، بل وأنفق عليه مبلغًا من المال، فواأسفاهعلي موت ابنه، ناهيك عن خسارته المادية بتحطم الدراجة.
كنت قد نسيت هذا الأمر تمامًا منذ زمن. إلي أن كبُر ابني وبلغ الخامسة عشرة، وبدأ يُلح عليّ لتعلم ركوب الدراجة، فعلمته. وكان الولد ذكيًّا، حيث تعلم ركوب الدراجة وأن يدور بها في شكل دائرة علي الأرض دون مساعدتي خلال ساعات معدودة من تعلمه؛ ففرحت كثيرًا لفرحه. تذكرت عندما أرعبني شكله فور ولادته قبل خمسة عشر عامًا، عندما لم يكن يشبه الإنسان في شيء، كان صورة من الدمي التي نراها في متاجر الخردوات. كان لا يتوقف عن الضرب بقدميه بينما هو يرقد في السرير، ويفسده بالبول والبراز والريح، ولكن ها هو قد كبُر ويستعرض مهاراته في ركوب الدراجة. يكفيني كفاحي في الحياة حتي اليوم، وسأقضي بقية حياتي شاهدًا علي حياة ابني، بينما هو لم يخيب ظني فيه أبدًا، فالمعلمين في المدرسة دائمًا ما يثنون عليه، فعندما كنت أسافر بالشاحنة، كان يشغلني التفكير في زوجتي، أما الآن بعد أن أصبح لدي هذا الولد، فأجد نفسي منشغلًا به دون أمه، وفي اللحظة التي رأيت فيها ابني يركب الدراجة وهو يطير من شدة الفرح، لا أعلم ما الذي حملني علي التفكير في ذلك الصبي الذي صدمته وألقيت به في الخزان قبل أكثر من عشر سنوات مضت. منظره وهو يركب الدراجة يكاد يكون صورة طبق الأصل من ذلك الصبي؛ لا سيَّما شعرهما الأسود، حتي بدا لي وكأنهما شخص واحد. فقفزت إلي ذهني صورة زي العمال الذي كان يرتديه الصبي. وأكثر ما أحزنني أن دراجة ابني اصطدمت في ذلك اليوم بشجرة، وقد سمعته يصرخ بأعلي صوته »‬بابا»؛ فارتجف قلبي بشدة بسماع صرخته القوية، حتي بدأ يتراءي أمامي مشهد سقوط الصبي في الخزان، والأغرب من ذلك أنني كنت أسمع صوت صراخ ابني قادمًا من بعيد جدًّا، علي الرغم من قربي الشديد منه آنذاك، كان صوته كالصدي يرن وسط الجبال، فها هو صوت صراخ ابني يذكرني بصراخ ذلك الصبي الذي مرت عليه سنوات، حتي سيطر عليّ للحظة شعور أن ذلك الصبي الذي دفعته بالشاحنة داخل الخزان إنما هو ابني. وبدأ يتملكني ذلك الشعور بالحزن، ولم أخبر أحدًا بتلك الواقعة، حتي زوجتي لا تعلم عنها شيئا. ثم بدأت تتملكني حيرة شديدة من معاودة ظهور صورة الصبي في حياتي من جديد. ولكنني وجدتني أفكر في أن هذه الحيرة قد تنتهي في غضون سنوات قليلة، بل وقد أنسي صورة ذلك الصبي تمامًا عندما يبلغ ابني الثامنة عشرة.
وكما كان في الحادثة الأولي، فقد وقعت الحادثة الثانية بشكل مفاجئ دون أي مقدمات. أذكر أن الطقس ذلك اليوم كان صحوًا، والسماء زرقاء لدرجة أنني كنت أتجنب النظر إليها، كما كان مزاجي علي ما يرام، وقد فتحت نافذة الشاحنة من الاتجاهين، وفتحت قميصي حتي أنعشني الهواء القادم من جميع الاتجاهات، وجاءني صوت محرك الشاحنة قويًّا مثل خُوَار البقر، فأمدني بالقوة والجرأة، فجعلت أقطع الطريق الأسفلتي بسرعة بلغت 60 كم في الساعة. وقد تراءي لي الطريق العام مثل قطعة قماش فوق ماكينة الصباغة تطويها عجلات الشاحنة طيًّا، وقد حملني علي تشبيه الطريق بالقماش عمل زوجتي التي تعمل بإحدي ورش الصباغة، ولكن لم أكد أسير علي الطريق الممهد مسافة ثلاثين كيلومترًا، حتي تفاجأت بنهايته. قبل أن يسلمني الطريق الممهد إلي آخر ملئ بالحفر والمنحنيات الحادة، الذي بدا وكأنه تعرض مؤخرًا لقصف جوي عنيف، فكنت أجلس أمام مقود الشاحنة وكأنني أجلس علي ظهر حصان، ولم أتمالك نفسي وأنا أهتز بشدة بينما أشعر ببرودة شديدة. ثم سمعت صوت ضربات متلاحقة في معدتي. فأوقفت الشاحنة. وهنا رأيت شاحنة ماركة التحرير تسير في نفس الاتجاه، وما إن دنوت من الشاحنة ماركة التحرير حتي سألت السائق: »‬ما اسم هذا الطريق؟» فرد السائق علي سؤالي بسؤال: »‬ وهل هذه أول مرة تسلكه؟» فهززت رأسي بالإيجاب. فقال السائق: »‬لهذا أنت تجهله، إنه الطريق العام لانقلاب السيارات». كنت أجلس علي مقعدي داخل الشاحنة وأنا لا أتوقف عن القفز كالبرغوث، فكيف لا أصاب بعد هذا كله بالدوار الشديد؟ ثم شعرت وأنا مرتبك بشدة أن عن يميني بحرًا تلونت مياهه باللون الأصفر، بينما لا تهدأ حركة المد والجزر، حتي شعرت وسط صوت هدير المد والجز بألم في معدتي، بل وكأن اللون الأصفر قد عاجلني بالتسلل داخل معدتي؛ فمددت رأسي خارج النافذة وأخذت أتقيأ بصعوبة، وقد غلب اللون الأصفر علي ما تقيأت به، ودمعت عيناي، وشعرت بأن قدماي بالكاد تحملاني من شدة التقيؤ، حتي شعرت بأنه إذا استمر بي الحال علي هذه الصورة فقد تخرج معدتي من أحشائي، فوضعت يدي علي فمي في محاولة لوقف هذه المعركة داخل معدتي.
حينها وقع بصري علي طريق مرصوف علي مسافة غير بعيدة من موقعي، وما هي إلا لحظات قليلة حتي نجت شاحنتي من الطريق العام لانقلاب السيارات، قبل أن أجد نفسي أسير علي ذلك الطريق الممهد، وقد بدأت أشعر بشيء من الراحة بعد أن أفرغت كل ما في معدتي، غير أنني كنت منهكًا للغاية، فأسندت ظهري إلي المقعد، بينما لم أعد أشعر بالتعب الشديد الذي كنت عليه قبل قليل، وقد بدأت تدب الحياة في جسدي، ثم بدأ الطريق الممهد يقترب مني شيئًا فشيئًا، وشعرت لوهلة بشيء من السرور. إلا أنني ما إن قدت الشاحنة إلي ذلك الطريق الممهد، حتي عاودني الألم في معدتي، وكنت أعلم أن معدتي الآن فارغة تمامًا، ولكن الألم كان شديدًا هذه المرة، وبدأت أسمع أصواتًا غريبة تصدر من حلقي وكأنه مسدود بشوكة سمكة كبيرة. فأدركت أنني علي موعد مع نوبة جديدة من التقيؤ، ولكنه كان هذه المرة مجرد أصوات غريبة ورائحة كريهة دون أن يخرج شيء من معدتي. فدمعت عيناي من جديد، وشعرت بأن قدماي تصطكان بشدة، وأحسست بألم شديد في ظهري، وبدأ اللعاب يسيل من فمي، وبدأ ينزل حتي استقر علي صدري المعرض للرياح، وقد كان اللعاب باردًا ولزجًا، وددت لو مددت يدي لأمسح اللعاب، ولكني كنت عاجزًا عن فعل أيّ شيء.
وفي تلك اللحظة، ظهر أمامي ظل أحدهم، وبالرغم من أنني كنت أشعر حينها بالدوار، وكنت منهكًا للغاية، إلا أنني علمت بما حدث لي، ولا أعرف متي استعدت قوتي، ووجدتني أكبح الفرامل.
توقفت الشاحنة علي الفور، وحاولت جاهدًا أن أفتح الباب دون جدوي، فأخذت أعبث به بكلتا يدي، ثم رأيت حافلة تمر من جانبي، وقد انشغل عدد كبير من ركابها بالنظر إليّ من النوافذ؛ فقلت في نفسي إنهم بالتأكيد رأوني، فسحبت يدي من الباب.
ألقيت بنفسي علي مقعد السائق، في انتظار أن تقف الحافلة، وأن ينزل منها من يساعدني في فتح باب الشاحنة.
مضي وقت طويل ولم يقترب مني أحد من ركاب الحافلة، لحظات واقتربت مني بعض النسوة الريفيات، وأخذن يحدقن في الشاحنة، فأيقنت هذه المرة أنهن رأوني، وأنهن سيصرخن صرخاتهن الغريبة، ولكنهن مضين في طريقهن وكأن شيئًا لم يحدث، استبد بي القلق، وساورني الشك في أن أكون فقدت الوعي، وأن هذه مجرد تخيلات، ثم تمكنت من فتح الباب، وأسرعت إلي أمام الشاحنة وجعلت أنظر هنا وهناك، فلم أري شيئًا غريبًا، درت حول الشاحنة دورتين كاملتين، ولم أعثر علي شيء، فاطمئن قلبي، وتأكدت من أنني كنت قد فقدت الوعي قبل قليل. أخذت نفسًا عميقًا، ودبت الحياة في جسدي من جديد.
كان الأمر سيمر مرور الكرام، إذا لم أرَ بقع الدماء علي عجلات الشاحنة، وإذا كنت ألقيت بنفسي ثانية داخل الكابينة وواصلت السير، ولكنني رأيت بقع الدماء، بل ولمستها بيديّ، ولم تكن الدماء قد جفت بعد، عندئذٍ تيقنت من أنني لم أكن قد فقدت الوعي، فانبطحت علي الأرض وجعلت أنظر أسفل الشاحنة، فرأيت فتاة متكورة أسفل الشاحنة، فنهضت مسرعًا، وأخذت أنظر من حولي وأنا مرتبك، في انتظار أحدهم يأتي ليتحقق مما أراه الآن. كان ذلك في ظهيرة يوم قائظ من أيام الصيف. ثم رأيت علي يسار الطريق نهرًا صغيرًا، بدت مياهه راكدة وقد تغطت تمامًا بالطحالب. كما رأيت بالقرب منه جسر خرساني ذو حاجز وحيد، بينما يمتد أمامي طريق خرساني ينمو علي جانبيه سلاسل من الأعشاب، ساعدني الطريق الخرساني أن أمد بصري إلي بعيد جدًّا، ليقع بصري علي عدد من البيوت المتناثرة، كما لاح لي هناك ظل نفر من الناس. وهكذا انتظرت طويلًا في الشاحنة، ولكن لم أرَ أحدًا. عدت أحدق في آثار الدماء علي العجلة، وبعد أن حدقت فيها طويلًا، اكتشفت أنها مجرد نقاط قليلة. فملأت يدي بالتراب وأخذت أمسح الدماء علي العجلة. وبينما أنظف العجلة بالتراب، توقفت قليلًا وأشعلت سيجارة، قبل أن أكمل تنظيف الدماء، وما إن انتهيت من محو آثار الدماء، حتي أفقت وكأنني كنت في حلم، فكرت في الهرب بسرعة، فصعدت علي الفور الشاحنة، ولكن لم أكد أغلق الباب وأدر المحرك، حتي رأيت أمامي صبيًّا بين الرابعة والخامسة عشرة من عمره، كان يرتدي ثياب عامل فضفاض ويركب دراجة. فاستعادت ذاكرتي علي الفور صورة ذلك الصبي الذي صدمته وألقيت به في خزان الماء قبل أكثر من عشر سنوات، وكأن ذلك كله كان قدر محتوم يطاردني، وبالرغم من أن تلك الخاطرة مرت بذهني كلمح البصر، إلا أنني فشلت في إدارة محرك الشاحنة للهرب؛ فنزلت ثم سحبت الفتاة من أسفل الشاحنة؛ فإذا هي مصابة في جبهتها، وكانت جبهتها لا تزال تنزف وهي تتنفس بصعوبة، ولكن عيناها السوداوان البراقتان كانتا مفتوحتين، وقد بدتا مثل تلك العينين اللتين لم أنسهما منذ ما يزيد عن عشر سنوات مضت؛ احتضنتها متوجهًا إلي الجسر الخرساني ذي الحاجز الوحيد، ومنه إلي الطريق الخرساني. شعرت بحرارة جسدها الغض، ثم نزل شعرها الأسود الطويل، حتي بدا مثل أغصان شجرة صفصاف تتدلي علي ذراعيّ. فحزنت حزنًا شديدًا، وكأن التي أحتضنها ابنتي من لحمي ودمي، وزاد هذا الشعور عندما أراحت رأسها علي صدري. ثم سرت بها مسافة طويلة، حتي بدأت المساكن التي رأيتها قبل قليل أكبر بكثير من حجمها الذي تراءي لي من أمام الشاحنة، بينما اختفي تمامًا الظل الذي كنت أراه عند المساكن. وفجأة شعرت بشيء من الحماس، أحسست وكأنني أقوم الآن بعمل عظيم، وكأن الزمن عاد بي إلي ذلك الحادث الذي وقع قبل أكثر من عشر سنوات مضت، وكأنني لم أسارع آنذاك بالهرب، وإنما ألقيت بنفسي في الماء وأنقذت الصبي، وكأن الجسد الذي أحمله الآن جسد ذلك الصبي الذي كان يرتدي زيَّ عامل. حتي شعرها الطويل الأسود جعلني أشعر بأن شعر الصبي قد بلغ هذا الطول بعد مضي هذه السنين الطويلة.
اقتربت من تلك المساكن، فإذا بها أكثر مما كانت تبدو لي من بعيد، اعترضتني شجرة كبيرة، كانت تجلس تحتها عجوز الجزء العلوي من جسدها عارٍ تمامًا، أخذت العجوز تنظر إليّ وثدييها يتدليان أمامها. فاقتربت منها وسألتها عن المستشفي. ألقت العجوز نظرة خاطفة علي الفتاة وصرخت في وجهي:
»‬مصيبة!».
أيقظتني صرخة العجوز، وأدركت الخطأ الكبير الذي وقعت فيه عندما لم أسارع بالهرب، ولكن ها قد سبق السيف العذل. نظرت إلي الفتاة في حضني، فإذا قد توقف نزيف جبهتها، وتوقفت حركة شعرها الأسود الطويل بعد أن تلوث بدمائها. شعرت ببرودة جسدها، وقد تسللت هذه البرودة إلي قلبي. فسألت العجوز للمرة الثانية: أين المستشفي؟ فردت عليّ بصرخة جديدة. فكرت في أنه قد أرعبها منظر الفتاة التي احتضنها، وأنني لن أحصل منها علي إجابة مهما كررت السؤال. فتفاديت الشجرة وتقدمت إلي وسط البيوت. ولكن العجوز تبعتني وهي تصرخ بلا توقف:» »‬مصيبة!» لحظات ووجدتها تعدو أمامي وهي لا تتوقف عن الصراخ بشدة. ثم رأيت عددًا من الخنازير يمرون أمامي، قبل أن تظهر فجأة مجموعة من العجائز، فدنين مني وألقين نظرة علي الفتاة ثم علا صوت صراخهن: »‬ مصيبة!» فإذا بي أسير خلف هؤلاء النسوة اللائي لا يهدأ صوت صراخهن المفجع؛ فشعرت بارتباك شديد، وعجزت عن فهم المغزي من سيري خلف هؤلاء النسوة. لحظات وتجمع من حولي جمعٌ كبير من الناس، وسادت الفوضي حتي ضاعت الأصوات في الضجة التي تثيرها الأرجل المحيطة بي، واكتفيت بالنظر إلي ذلك الجمع الغفير من الرجال والنساء والكبار والصغار. وفي تلك اللحظة، أدركت أنني في الريف، وتساءلت في نفسي كيف جئت إلي الريف للبحث عن مستشفي؟ شعرت بأنني أصبحت مثار سخرية للمحتشدين من حولي. لحظات ورأيت الطريق أمامي وقد سُد بجمع غفير من الأهالي، فاستدرت للخلف استعدادًا للفرار، فإذا بالأهالي وقد سدوا الطريق من خلفي أيضًا. هكذا حتي وجدت نفسي أقف وسط جُرن1 إحدي العائلات في القرية، وأمامي بيت من طابقين، بدا وكأنهم انتهوا من بنائه حديثًا. ثم خرج من البيت رجل قوي البنية، يتبعه سيدة وصبي فوق العاشرة، مد الرجل يده وأخذ مني الفتاة بكل سهولة، ثم دخل ثلاثتهم البيت الحديث من طابقين، وقد أصابتني سرعة تحركاتهم بالدوار. وما إن أخذ الرجل الفتاة، حتي أحسست وكأن ثقلًا كبيرًا قد انزاح عن كاهلي، وأنه يجب أن أعود الآن إلي الطريق العام، ولكن ما إن استدرت متأهبًا لمغادرة الجُرن، حتي لكمني أحدهم في وجهي، كانت لكمة قوية أصدرت صوتًا مكتومًا وكأنه كان يتدرب علي كيس رمل. فلم أجد بدًا إلا أن استدرت ثانية وأخذت أنظر إلي البيت ذي الطابقين. ثم خرج الصبي ممسكًا بمنجل لامع. وأخذ الصبي يلوح بالمنجل، قبل أن يغرزه في بطني، وكانت عملية غرز المنجل في بطني سلسلة للغاية، وقد راح يخترق جلدي وكأنه يمرره في كتلة من الورق، قبل أن يقطع الأعور. ثم سحب الصبي المنجل، بعد أن قطع الأعور والمستقيم وأحدث فتحة كبيرة في بطني، خرجت معها أمعائي، وقبل أن أتمكن من القبض علي أمعائي بكلتا يدي، عاجلتني تلك السيدة بتوجيه الفأس إلي رأسي لتحطمه تحطيمًا، فانحرفت قليلًا ليصيب الفأس كتفي، ويقسمه نصفين مثل عود الحطب، وجاءني صوت قطع كتفي نصفين كصرير الباب، ثم جاء دور الرجل القوي ممسكًا بيده مذراة بأربعة أسنان2. وقبل أن تسحب السيدة الفأس من كتفي، كان الرجل قد غرز المذراة في بطني. واستطاعت أسنان المذراة الوسطي قطع الشريان الرئوي والأورطي، وسببت لي نزيفًا حادًّا. وتمكنت أسنان المذراة عند الحافتين من أن تنغرس داخل الرئتين، بينما مال السن الذي علي اليسار وانغرس في القلب. ثم ضغط الرجل علي المذراة بقوة وسحبها من جسدي، لتخرج معها الرئتان؛ فسقطت علي الأرض غارقًا في دمائي، فبدت دمائي من حولي كجذور شجرة معمرة تنمو فوق سطح الأرض، وهكذا كانت نهايتي.
في 11.1986
تصدر قريبًا عن سلسلة »‬قراءات صينية» صفصافة للنشر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.