«لقد بدأت كراهيتى للأسود فى تلك اللحظة التى استيقظت فيها لأجد الثور الوحيد لدينا وقد قتله الأسد, ولقد توالت عملية القتل لماشيتنا من الأسود التى تغير عليها فى الظلام. ومن المعروف عنا نحن الماساى أننا نقدس حيواناتنا, وأن ثرواتنا تقدر بما نمتلكه من ماشية, وفى قبيلتنا نعتقد أن كل أبقار الأرض ملك لنا, وبأننا جئنا من السماء ومعنا ماشيتنا وأرضنا . ومع شدة كراهيتى للأسود لم أفكر فى قتلهم, بل كان يتملكنى شعور بالأسى عندما كنت أرى بعض المحاربين من قبيلتنا وهم يأتون به مجرورا بعد أن يكونوا قد أصابوه برماحهم فى مقتل. دفعنى هذا إلى التفكير فى البحث عن طريقة نبعدهم بها خاصة عندما يأتى الليل لكن دون أن نصيبها بأذى». ................................................................... المتحدث هو الصبى ريتشارد توريرى Richard Turere 13 عاما» من منطقة كتينجالا جنوب العاصمة نيروبى, وقد دعته قناة TED فى كاليفورنيا ليخاطب حشدا كبيرا من الجمهور»1500» عن تجربته الناجحة الآمنة فى إبعاد الأسود عن حظائر ماشيتهم . هو من قبيلة الماساى التى يستوطن أفرادها كينياوتنزانيا, وأهله يعيشون وسط السافانا فى المنطقة المتاخمة للحديقة القومية واسعة الشهرة عالميا ماساى ماراMasai Mara بكينيا, وهى منطقة مفتوحة تتجول فيها الحيوانات البرية بكل أنواعها بحرية وبدون عوائق طبيعية إلا السور الذى يحول دون وصولها إلى العاصمة نيروبى القريبة من المحمية. قال الصبى مكملا حديثه «بدأت أشعل النار فى الحطب بالليل. لكننى عندما رأيت الأسد يحوم حول المكان بدون خوف, أيقنت بعدم جدوى هذه الطريقة, فبالعلاوة على ما تحفه من أخطار تكشف بوهجها عن الماشية فى الحظيرة وتصبح هدفا واضحا للمفترس. جربت خيال المآتة, وجربت المصابيح التى تعمل بالكيروسين ومحاولات أخرى كلها منيت بالفشل , إلى أن جاءت تلك الليلة التى تناهى إلى سمعى فيها دبيب حيوان خمنت أنه الأسد, خرجت وبيدى كشاف صغير. ومن خلال فتحات السياج رحت أفتش بالكشاف عن مصدر الصوت. فوجئت بالأسد يركض مبتعدا . لم أتمالك نفسى من الفرحة بهذا الاكتشاف المثير. أيقنت أنه لا يخيفه سوى الضوء المتحرك, فلم تفلح الإضاءة السابقة فى إبعاده سواء تلك المنبعثة من النيران أو من موقد الكيروسين. قررت بعدها أن أضع فكرة تحريك الضوء فى وجه الأسد بشكل دائم موضع التنفيذ. لم يستغرق منى هذا وقتا عندما هدانى تفكيرى إلى الطريقة التى تعمل بها المصابيح الإشارية فى الدراجات البخارية والعربات. قمت على الفور بالعمل على توفير أدوات تنفيذ هذه الفكرة, بمجموعة من لمبات الكشافات, والمحولات, وأسلاك التوصيل ومفاتيح التتشغيل, ولجأت إلى مصدر توليد التيار الكهربى باستخدام بطارية عربة كنت أشحنها بلوح الطاقة الشمسية. ومع أننى لم أتعلم الكهرباء إلا من التفتيش فى جهاز الراديو الجديد الذى اشترته أمى, إلى أننى ظللت وحدى أجرب عدة توصيلات إلى أن تمكنت فى النهاية من تسييج الحظيرة بتلك اللمبات التى تضوى وتنطفئ فى ومضات خاطفة متلاحقة طوال الليل. نجحت هذه الطريقة فى ترويع الأسود وإزاحتها بعيدا عن المكان. انتقلت عدوى اختراعى إلى كل الجيران وإلى كل من كانوا يعانون من الهجمات الليلية ليس فقط من الأسود ولكن من حيوانات مفترسة أخرى ولقد شعرت بالزهو الشديد عندما انتشر اختراعى فى كل المناطق المهددة من تلك الحيوانات. لم يكن ما تحدث به هذا الصبى من قبيلة الماساى حول مهاجمة الأسود لحيواناتهم غريبا على. فكثيرا ما كنت أطالعه من أخبار فى الصحف اليومية التى تصدر فى تنزانيا, وتلك التى تأتى من كينيا عن هجوم الحيوانات البرية على المزارع والأكواخ مما يسبب أضرارا جسيمة للمحاصيل الغذائية ويهدد الأمن الغذائى, وغالبا ما كان يحدث هذا فى الحدود بين كينياوتنزانيا, منها هجمات للفيلة أدت إلى التدمير شبه الكامل للمزروعات, ومنها هجمات من حيوانات متوحشة غالبا ما أفضت إلى الموت. ومطاردة الأسود وقتلها بالرماح من الممارسات المتجذرة فى ثقافة قبيلة الماساى, وهم لا يقتلونه من أجل المتاجرة فيه أو استغلال جلده, ولكن لإثبات القوة والشجاعة والقدرة على تحمل المسئولية, وقد لقى الكثير منهم حتفهم عندما كانوا يخرجون للصيد فرادى, تغير الحال وأصبحوا يخرجون بشكل جماعى «عشرة أفراد» يخرجون بدروعهم ورماحهم فى الفجر, وفى سرية تامة حتى لا يثيروا قلق النساء عليهم. ويكون البطل بينهم هو من يرشق رمحه فى جسد الأسد من أول محاولة, يجرجرون الأسد القتيل ويحتفلون بفوز البطل باهدائه ذيل الأسد. أثار هذا الاختراع البسيط وشديد الفعالية انتباه المسئولين عن الحفاظ على البيئة وحماية الحيوانات البرية , قابل بعضهم الصبى توريرى وأبدوا إعجابهم الشديد بما قدمه من خدمة بيئية, ثم أوصوا بعد ذلك بإلحاقه فى إحدى المدارس الدولية الشهيرة بنيروبى تمهيدا لترشيحه فى بعثة تعليمية فى الخارج. ما قدمه توريرى من اختراع بسيط التكلفة لم يكن إلا مساهمة كبيرة منه للحفاظ على الحياة البرية ولقد جاء متواكبا مع حملات التوعية للحفاظ على المحميات. فلقد بدأت الأراضى فى التراجع وتحولت مراعى الحيوانات البرية إلى أراض زراعية ومزارع لتربية الماشية . ومع الزيادة المطردة فى عدد السكان تتناقص مساحة الأرض التى يمتلكها الماساى وكذلك عدد الحيوانات البرية, فعلى سبيل المثال عدد الأسود فى كينيا يقدر حاليا بألفين وكان منذ عشر سنوات خمسة عشر ألفا. وفى محمية ماساى مارا الكينية التى تشتهر بالهجرة السنوية للملايين من الحيوانات البرية والتى تعد من أكبر الحدائق الوطنية فى العالم مساحتها 1500 كيلومتر مربع قد بدأت الحيوانات تتناقص بشكل ينذر بالخطر. فى الماضى كان الماساى والحيوانات البرية يعيشان معا فى حالة من التوازن لكن مع تغير نمط الحياة والظروف المناخية وتقلص مساحة الأراضى التى يمتلكها الماساى بدأ الميزان فى الاختلال. ولأن الحياة البرية تخص العالم كله بدأت منظمات غير حكومية تنشط للمحافظة على التوازن البيئى وحماية الحيوانات البرية من خلال مجموعة من الفعاليات والمؤتمرات تتعلق بالتوعية والتعليم والصحة خاصة لأبناء قبيلة الماساى الذين يحرصون على التمسك بوضعهم الفريد الذى يميزهم عن القبائل المحلية الأخرى. . ولتحقيق التوازن البيئى, بدأ أصحاب أراضى الماساى بالتنسيق مع شركات سياحية لإقامة مناطق حماية يديرون فيها المستوطنات وقطعان الماشية نظير الحصول على حصة من الأرباح من تلك الشركات. شملت الحلول تسييج المزارع لمنع الحيوانات من الوصول إلى الزراعات, اشعال النيران وإحداث ضجة لترويع الحيوانات المفترسة, هذا بالعلاوة على نشر حراس للمراقبة ليلا . ولقد وقع الاختيار على أحد زعماء الماساى ويدعى ديكسون كايلو ليعمل على تصميم هذه المحميات كأماكن إيواء للعديد من أبناء قبيلة الماساى الذين تخلوا عن مجموعة أكواخهم البسيطة التقليدية المشيدة بالطين والروث والأغصان والمعروفة باسم بوما Boma ليعيشوا فى هذه المستوطنات. وبالفعل بدأت الحيوانات العشبية مثل الظباء والغزلان والحمر الوحشية فى الزحف إلى المراعى التى تم اخلائها . ويكون الإقبال عليها أكثر فى غير موسم الأمطار الغزيرة حيث يكون العشب قصيرا, وتتراجع عندما ينمو العشب الطويل بحثا عن مناطق رعوية أخرى تكون مكشوفة احترازا من الحيوانات المفترسة. لقد أصبح الصراع على الأرض بين البشر وبين الحيوانات البرية واقعا ملموسا خاصة بعد زيادة الضغط والتنافس على الأراضى من أجل إقامة المشاريع وشق الطرق والزراعات والصناعات . وبالتدريج ومع تغير نمط الحياة, بدأ الكثير من الماساى يفكرون فى الهجرة إلى المدن, بعد أن تعبوا من تهافت السياح عليهم والتقاط الصور معهم, وبعد أن صارت الأرض غير صالحة للرعى بالإضافة إلى ندرة ومشاق الحصول على المياه, مما اضطرهم إلى التخلى عن أراضيهم وعن ثقافتهم, على أمل أن يجدوا نوعا أفضل من الحياة لا يضطرون معه إلى التنقل والترحال, فهم والشئ الغريب يميلون إلى الاستقرار, لكنهم مضطرون إلى البحث الدائم عن المراعى الخصبة لقطعانهم, يستقرون فى المكان الجديد إلى أن تسوء الأحوال يتحركون للبحث عن غيره. فى المدينة تقدموا لطلب وظائف وأعمال تليق بالمحاربين القدامى الذين استطاعوا الاحتفاظ بنقاء سلالتهم وبمعتقداتهم التى توارثوها على مدى قرون عديدة. فى زيارتى الأخيرة إلى تنزانيا منذ ثلاث سنوات رأيتهم فى دار السلام وزنزبار ببشرتهم الداكنة, بملامحهم الصارمة الدقيقة التى تتسم بالجمال والشموخ, بأجسادهم النحيفة الفارهة وبالعظام البارزة فى وجناتهم, بالشعر الحليق وبشحمة الأذن الطويلة لنسائهم. . . فوجئت بالتبدل الغريب الذى طرأ على حياة المحاربين القدامى الذين اعتادوا مواجهة الأسود بصدورهم فى البرارى. خلعوا أرديتهم التقليدية «البطانية الحمراء التى يلفونها حول أجسادهم, وتخلوا عن رماحهم وعصيهم الخشبية الطويلة, لكن بدون أن يخلعوا كبرياءهم وصلابة عودهم ونظراتهم الثاقبة. صحيح أنهم لبسوا السراويل الضيقة والتى شيرتات, لكن وهم يعملون على حراسة وتأمين البنوك والفنادق والمطاعم والمنتجعات السياحية. لم يتنازلوا عن زهوهم الواضح بشجاعتهم, ولم تفارقهم نظرات الكبرياء التى تتفق مع طبيعتهم وثقافتهم المتجذرة فى التاريخ.