قناة اسرائيلية تلقى الضوء على رجل الأعمال إبراهيم العرجانى واتحاد القبائل العربية    "عليا الوفد" تلغي قرار تجميد عضوية أحمد ونيس    انخفاض مخزونات النفط الخام الأمريكية وصعود البنزين خلال الأسبوع الماضي    تفاصيل إتاحة البنك المركزي الدولار لجميع المستوردين دون استثناء    أفضل 3 أنواع في سيارات مرسيدس "تعرف عليهم"    التعاون بين الولايات المتحدة والصين يظل فى حكم الممكن    وزارة الداخلية المصرية تصدر بيانا تؤكد فيه مقتل رجل أعمال كندي الجنسية في الإسكندرية وليس اسرائيلى    رئيسة المنظمة الدولية للهجرة: اللاجئون الروهينجا في بنجلاديش بحاجة إلى ملاجئ آمنة    دورتموند نصف الدراما وكل الحظ؟!    الأرصاد: غدًا طقس شديد الحرارة على القاهرة الكبرى نهارًا.. مائل للبرودة ليلا.. والعظمى بالعاصمة 36    روبي تطلق أول كليبات الصيف «الليلة حلوة»    مناقشة تحديات المرأة العاملة في محاضرة لقصور الثقافة بالغربية    جمعية المحاربين القدماء تكرم عددا من أسر الشهداء والمصابين.. صور    أسهم أوروبا تصعد مدعومة بتفاؤل مرتبط بنتائج أعمال    أخبار الأهلي: تعرف على برنامج تأبين العامرى فاروق فى النادى الأهلى    جامعة العريش تحصد كأس المهرجان الرياضي للكرة الطائرة    «هيئة المعارض» تدعو الشركات المصرية للمشاركة بمعرض طرابلس الدولي 15 مايو الجاري    الحكم على المتهمين بق.تل شاب وإلقائه من الطابق السادس بمدينة نصر    مرصد الأزهر يناقش مع شباب الجامعات أسباب التطرف وحلوله وعلاقته بالمشاعر    "إدارة الصراع وفن المفاوضات» .. محاضرة لرئيس جامعة طنطا بفعاليات إعداد القادة    عبد الرحيم كمال بعد مشاركته في مهرجان بردية: تشرفت بتكريم الأساتذة الكبار    دعاء دخول شهر ذو القعدة 2024.. ادركه ب17 كلمة لفك الكرب والتفريج    دعاء للميت بالاسم.. احرص عليه عند الوقوف أمام قبره    الصحة: اكتشاف 32 ألف إصابة ب«الثلاثيميا» عبر مبادرة الرئيس لفحص المقبلين على الزواج    أحدثهم هاني شاكر وريم البارودي.. تفاصيل 4 قضايا تطارد نجوم الفن    11 جثة بسبب ماكينة ري.. قرار قضائي جديد بشأن المتهمين في "مجزرة أبوحزام" بقنا    انطلاق الموسم الأول لمسابقة اكتشاف المواهب الفنية لطلاب جامعة القاهرة الدولية    «القاهرة الإخبارية» تعرض تقريرا عن غزة: «الاحتلال الإسرائيلي» يسد شريان الحياة    تاكيس جونياس: عبدالله السعيد أفضل لاعب دربته    يوسف زيدان عن «تكوين»: لسنا في عداء مع الأزهر.. ولا تعارض بين التنوير والدين (حوار)    "التعاون الإسلامي" والخارجية الفلسطينية ترحبان بقرار جزر البهاما الاعتراف بدولة فلسطين    محافظ الفيوم يشهد فعاليات إطلاق مشروع التمكين الاقتصادي للمرأة    المشدد 10 سنوات لطالبين بتهمة سرقة مبلغ مالي من شخص بالإكراه في القليوبية    استمرار تطعيمات طلاب المدارس ضد السحائي والثنائى بالشرقية    «8 أفعال عليك تجنبها».. «الإفتاء» توضح محظورات الإحرام لحجاج بيت الله    تعرف على التحويلات المرورية لشارع ذاكر حسين بمدينة نصر    فرقة الحرملك تحيي حفلًا على خشبة المسرح المكشوف بالأوبرا الجمعة    رئيس قطاع التكافل ببنك ناصر: حصة الاقتصاد الأخضر السوقية الربحية 6 تريليونات دولار حاليا    ذكرى وفاة فارس السينما.. محطات فنية في حياة أحمد مظهر    تعمد الكذب.. الإفتاء: اليمين الغموس ليس له كفارة إلا التوبة والندم والاستغفار    الزمالك يكشف مفاجآت في قضية خالد بوطيب وإيقاف القيد    بعد حلف اليمين الدستوري.. الصين تهنئ بوتين بتنصيبه رئيسا لروسيا للمرة الخامسة    صحة المنيا تقدم الخدمات العلاجية ل10 آلاف مواطن فى 8 قوافل طبية    لمواليد 8 مايو.. ماذا تقول لك نصيحة خبيرة الأبراج في 2024؟    محافظ كفر الشيخ: نقل جميع المرافق المتعارضة مع مسار إنشاء كوبري سخا العلوي    صالح جمعة معلقا على عقوبة إيقافه بالدوري العراقي: «تعرضت لظلم كبير»    مصرع سيدة صدمها قطار خلال محاولة عبورها السكة الحديد بأبو النمرس    علي جمعة: الرضا والتسليم يدخل القلب على 3 مراحل    ضبط قضايا اتجار في العملة ب12 مليون جنيه    سحر فوزي رئيسا.. البرلمان يوافق على تشكيل المجلس القومي للطفولة والأمومة.. يتألف من 13 عضوا.. وهذه تفاصيل المواد المنظمة    طلاب الصف الأول الإعدادي بالجيزة: امتحان اللغة العربية سهل (فيديو)    الصحة: فحص 13 مليون مواطن ضمن مبادرة الكشف المبكر عن الأمراض المزمنة    بايدن: لا مكان لمعاداة السامية في الجامعات الأمريكية    سيد معوض: الأهلي حقق مكاسب كثيرة من مباراة الاتحاد.. والعشري فاجئ كولر    «قلت لها متفقناش على كده».. حسن الرداد يكشف الارتباط بين مشهد وفاة «أم محارب» ووالدته (فيديو)    إعلام فلسطيني: شهيدتان جراء قصف إسرائيلي على خان يونس    «النقل»: تصنيع وتوريد 55 قطارا للخط الأول للمترو بالتعاون مع شركة فرنسية    رئيس إنبي: نحن الأحق بالمشاركة في الكونفدرالية من المصري البورسعيدي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ننشر ترجمة كاملة لقصة الأديبة آليس مونرو الحاصلة على نوبل 2013..«الحلقة الأخيرة»
لأول مرة فى الصحافة المصرية
نشر في التحرير يوم 31 - 10 - 2013

كنت أفكر فيك يا «دُورى» منذ أن ذهبت وأنا نادم أن أحبطتك. عندما تكونين جالسة أمامى أكون عازما على أن أكون أكثر عاطفية مما قد أبيّن. لا يحق لى أن أكون عاطفيا معك، لأن حقك أنت فى هذا أكبر ولكنك تتمالكين نفسك دائما. ولذلك سوف أعكس ما سبق وقلته لك لأننى توصلت إلى أننى أقدر على الكتابة إليك فى نهاية المطاف من الحديث معك.
والآن من أين أبدأ؟
هناك جنة.
هذه طريقة لكنها ليست الطريقة الصحيحة لأننى لم أومن قط بالجنة والجحيم وهذه الأمور. فكل ذلك فى حدود رأيى ليس إلا روثًا. فلا بد أن يكون أمرا غريبا منى أن أثير الموضوع الآن.
يمكن إذن أن أقول: رأيت الأولاد.
رأيتهم وتكلمت معهم.
عندك! فيمَ تفكرين فى هذه اللحظة؟ تقولين لنفسك، خلاص، لقد جنّ جنونه. أو، رأى حلما، لكنه غير قادر على تمييز أنه حلم، لا يعرف الفرق بين الحلم والصحو. لكن أريد أن أقول لك إننى أعرف تماما الفرق وما أعرفه هو أنهم موجودون. أقول إنهم موجودون. لا أقول أحياء، لأن الحياة لا وجود لها إلا فى البعد المعين الذى نعيش فيه. وأنا لا أقول إنهم ها هنا موجودون. بل إننى أعرف، كحقيقة، أنهم ليسوا كذلك. ولكنهم موجودون فعلا ولا بد أن يكون هناك بعد آخر أو ربما ما لا عدد له من الأبعاد، ولكننى أعرف أننى على اتصال بالبعد الذى هم فيه أيا ما يكون. محتمل أننى اكتسبت هذا من فرط بقائى وحدى واضطرارى إلى التفكير والتفكير. وبعد كل هذه المعاناة والعزلة رأى رحمن ما هذه الوسيلة لمواساتى والتخفيف عنى فجازانى بها. أنا أجدر الناس بها، وأقلهم جدارة بها وفقا لتفكير العالم.
ولو أنك لا تزالين تقرئين ولم تمزقى هذا الورق إربا فلا بد أنك تريدين أن تعرفى شيئا. مثلا كيف حالهم. هم بخير. سعداء وأذكياء. ولا يبدو أن فى ذاكرتهم أى شىء سيئ. لعلهم أكبر قليلا مما كانوا عليه ولكن صعب القطع بهذا. يبدو أنهم يفهمون على مستويات مختلفة. نعم. يمكنك أن تلاحظى فى ديمترى أنه تعلم الكلام وهو لم يكن يتكلم بعد. هم فى غرفة لا أستطيع إبصارها إلا جزئيا، شبيهة ببيتنا لكنها أوسع وألطف. سألتهم عن كيفية الاعتناء بهم فضحكوا وقالوا لى ما معناه إنهم قادرون على الاعتناء بأنفسهم. أظن ساشا هو الذى قال ذلك. أحيانا لا يتكلمون منفصلين أو أننى على الأقل لا أستطيع الفصل بين أصواتهم لكن هوياتهم واضحة تماما وينبغى لى أن أقول إنهم فرحون.
أرجوكِ لا تقولى إننى مجنون. هذا ما جعلنى أخاف أن أحكى لك عن الأمر. لقد كنت مجنونا فى وقت ما ولكننى تخلصت من جنونى القديم مثلما يتخلص الدب من فرائه. أو ربما يجدر بى القول مثلما يتخلص الثعبان من جلده. أعرف أننى لو لم أفعل ذلك لما حظيت قط بالقدرة على الاتصال من جديد بساشا وباربرا آن وديمترى. والآن أرجو أن تحظى أنت أيضا بهذه الفرصة، لأنها إن تكن مسألة جدارة فأنت تتقدمين عنى. قد يكون الأمر أصعب عليك نظرا لحياتك فى العالم أكثر منى ولكن بوسعى أن أقدم لك على الأقل هذه المعلومة أى الحقيقة، وإننى إذ أقول لك إننى رأيتهم لأرجو أن يخفف هذا عن قلبك المثقل.
لم تدرِ «دُورى» ما الذى يمكن أن تقوله السيدة صاندس أو يذهب إليه تفكيرها لو قرأت تلك الرسالة. طبعا سوف تكون حذرة. ستكون حذرة ولن تصدر أى حكم مباشر بالجنون ولكنها بحذر وطيبة سوف توجّه «دُورى» إلى هذا الاتجاه. أو ربما يمكنك القول إنها لن توجه بقدر ما ستزيل الارتباك بحيث تصبح «دُورى» فى مواجهة ما سوف يبدو كأنه النتيجة التى توصلت إليها بمحض تفكيرها. سيكون عليها أن تطرح كل الهراء الخطير على حد تعبير السيدة صاندس الأكيد من عقلها.
ولذلك السبب لن تقترب «دُورى» منها بالمرة.
كانت «دُورى» ترى فعلا أنه مجنون. وبدا لها فى ما كتبه أثر ما من تفاخره القديم. لم ترد عليه. ومضت أيام. وأسابيع. لم تغير رأيها فى ما كتبه، لكنها ظلت متشبثة به كأنه سر. وبين الوقت والآخر، كان يحدث وهى فى غمرة رش مرآة أو فرد ملاءة أن ينتابها إحساس. كانت على مدار سنتين لم تلحظ أى شىء من تلك التى تجعل الناس سعداء، كتحسن الجو أو تفتح الزهر أو رائحة الخبيز. وبقيت لا تشعر بأى إحساس عفوى بالسعادة، لكن بات لديها ما يذكّرها بطبيعتها. لم تكن للسعادة علاقة بالجو أو الزهور. إنما فكرة وجود الأولاد فى ما يسميه بعدهم هى التى كانت تتسلل إليها بتلك الطريقة وتسرب إليها لأول مرة إحساسا خفيفا بغير الألم.
طوال الفترة التى مضت منذ أن حصل ما حصل، كانت أى فكرة لها علاقة بالأولاد شيئا عليها أن تتخلص منه، تنتزعه على الفور انتزاع سكين من الحلق. لم تكن تستطيع أن تفكر فى أسمائهم، وإن سمعت اسما فيه شبه من أسمائهم تبدده من رأسها على الفور. حتى أصوات الأولاد، وصراخهم وطرقعة أقدامهم حينما يجرون عند مسبح الفندق، كان لا بد من إيقافها وراء بوابةٍ ما كانت تستطيع أن توصدها من وراء أذنيها. والذى اختلف الآن هو أنه أصبح لديها ملاذ يمكنها أن تأوى إليه كلما اقترب منها أى من تلك الأخطار.
ومن منحها ذلك؟ ليست السيدة صاندس، ذلك كان أمرا مؤكدا. برغم كل تلك الساعات من الجلوس أمام مكتبها على مقربة من علبة الكلينكس.
لويد هو الذى منحها ذلك. لويد، ذلك الشخص الفظيع، ذلك الشخص المحبوس المجنون.
مجنون لو أردتم أن تطلقوا عليه هذا. لكن أليس محتملا أن يكون ما قاله صحيحا، إنه انتهى إلى الجانب الآخر، ومن الذى يقول إن رؤى شخص فعل ما فعله وقطع مثل تلك الرحلة لا تعنى أى شىء؟
حفرت تلك الفكرة طريقا إلى رأسها واستقرت هناك، مثل دودة.
بجانب فكرة أخرى، مفادها أن لويد، من بين كل الناس فى العالم، هو من ينبغى لها الآن أن تكون معه. فما الغاية من وجودها فى العالم هكذا كان يبدو أنها تقول لشخص لعله السيدة صاندس ما غاية وجودها هنا إن لم يكن لتصغى إليه على الأقل؟
لم أقل «لأغفر». هكذا قالت فى رأسها للسيدة صاندس. وما أنا لأقولها أبدا. وما أنا لأفعل ذلك أبدا.
لكن فكرى فقط. ألست مجروحة مما جرى مثله تماما؟ لا يوجد أحد ممن عرف بما جرى يريدنى على مقربة منه. فكل ما أتسبب فيه هو أننى أذكّر الناس بما لا يحتمل أحد أن يذكّره به أحد.
والتنكر لم يكن ممكنا، لا لم يكن. تاج الشوك الأصفر هذا مثير فقط للشفقة.
هكذا وجدت نفسها مرة أخرى على متن الحافلة المتجهة إلى الطريق السريع. تذكرت تلك الليالى التالية مباشرة لموت أمها، عندما كانت تخرج لمقابلة لويد، فتكذب على صديقة أمها، المرأة التى أخذتها إلى بيتها، وتقول لها إنها ذاهبة إلى أى مكان. تتذكر اسم الصديقة، اسم صديقة أمها، لورى.
من غير لويد يمكنه الآن أن يتذكر أسماء الأولاد، أو ألوان عيونهم؟ السيدة صاندس حينما تضطر أن تشير إليهم لا تقول حتى الأولاد، وإنما «أسرتك»، واضعة إياهم جميعا فى جمع واحد.
فى تلك الأيام، حينما كانت تذهب لمقابلة لويد، وتكذب على لورى، لم تكن تشعر بالذنب، بل بالمصير، بالخضوع. كانت تشعر أنها لم توجد على سطح الأرض إلا لكى تكون معه تحاول أن تفهمه.
حسن، لم يكن الوضع الآن مثل ذلك. لم يكن هو نفسه.
كانت تجلس فى المقعد الأول فى الناحية المقابلة لناحية السائق. وكانت ترى الطريق ممتدا أمامها بوضوح. ولذلك كانت هى الراكبة الوحيدة والشخص الوحيد إضافة إلى السائق التى رأت شاحنة تتوقف على جانب الطريق دون أن تبطئ من قبل، فتنقلب عن الطريق الخاوى فى صباح الأحد إلى المصرف الموازى. وأن ترى ما هو أغرب: سائق الشاحنة يطير منها إلى الهواء بطريقة بدت سريعة وبطيئة معا، عبثية وجميلة، إلى أن حط ّعلى الحصى عند حافة الرصيف، فى الجهة المقابلة من الطريق.
أما بقية الركاب فلم يعرفوا لماذا ضغط السائق المكبح فجأة فأوقف السيارة بطريقة أزعجتهم جميعا. وللوهلة الأولى كان ما فكرت فيه «دُورى» هو: كيف أمكنه الخروج؟ ذلك الشاب أو حتى الولد الذى لا بد أنه كان نائما على عجلة القيادة؟ وكيف طار من الشاحنة وعبر الهواء بتلك الرشاقة؟
«شخص أمامنا مباشرة»، قالها السائق للركاب محاولا الكلام بصوت مرتفع وهادئ، ولكن كانت فى صوته نبرة اندهاش، وذهول. «انحرف عن الطريق حالا ووقع فى المصرف. سنتحرك بأسرع ما نستطيع، وحتى ذلك الحين، أرجو عدم النزول من الحافلة».
كأنها لم تسمعه، أو كأنما كان لها حق خاص فى النزول، مصدره أنها قادرة أن تفيد بشىء، نزلت «دُورى» وراءه، ولم يلمها.
«كلب ابن كلب» قالها وهما يعبُران الطريق ولم يبقَ فى صوته غير الغضب والسخط. «عيل كلب ابن كلب، تصدقين هذا؟».
كان الولد مستلقيًا على ظهره، وذراعاه وساقاه مفرودة على اتساعها كما لو كان نائما يلعب على الجليد. غير أن ما كان حوله هو الحصى لا الجليد. لم تكن عيناه مغمضتين تماما. وكان صغيرا للغاية، مجرد ولد طال جسمه قبل حتى أن تنبت له لحية. وربما لا يحمل رخصة قيادة.
كان السائق يتكلم فى الهاتف.
«نحو ميل إلى الجنوب من بايفيلد، عند 21، الجانب الشرقى من الطريق».
ظهر من أسفل رأس الولد، قرب الأذن، تيار زبد وردى. لم يكن شكله كالدم على الإطلاق، وإنما يشبه الرغوة التى تكشطها عن الفراولة عند إعداد المربى.
جلست «دُورى» بجانبه. وضعت يدا على صدره. كان لا يزال. قرّبت أذنها. قميصه مكوى قريبا، لا تزال فيه رائحة الكى.
لا نفس.
ولكن أصابعها عثرت فى رقبته الطرية على نبض.
تذكرت شيئا كان قد قيل لها. لويد هو الذى كان قاله لها لتفعله إذا تعرض أحد الأولاد لحادثة ولم يكن هو موجودا. اللسان. اللسان قد يمنع النفس، إذا سقط فى مؤخرة الحلق. وضعت أصابع إحدى يديها على جبهة الصبى وإصبعين من يدها الأخرى على ذقنه. ضغطت على الجبهة، وعلى الذقن، لتفتح طريقا للهواء. فتحة ضئيلة للغاية.
وإذا لم يتنفس، يكون عليها اللجوء إلى التنفس الصناعى.
تفتح منخاريها، تأخذ نفسا عميقا، تضغط شفتيها على شفتيه. نفسان وتفحص. نفسان وتفحص.
صوت رجل آخر، غير السائق. لا بد أن راكب دراجة نارية توقف. «ألا تحتاجين هذه البطانية تحت رأسه؟». تهز رأسها ب«لا». كانت قد تذكرت شيئا آخر، عدم تحريك المصاب، لكى لا يصاب النخاع الشوكى. أحاطت بفمه. ضغطت بشرته الشابة الدافئة. نفخت فى فمه وانتظرت. وعادت فنفخت وانتظرت. وبدا أن رطوبة خافتة تتصاعد على وجهها.
قال السائق شيئا لكنها لم تستطع أن ترفع رأسها. ثم شعرت به يقينا. نفس من فم الصبى. فردت يدها على صدره وللوهلة الأولى لم تدرِ إن كانت ترتفع وتنخفض أم لا، لأن يدها هى كانت ترتعش.
نعم. نعم.
كان نفَسًا حقيقيا. الممر الهوائى مفتوح. كان يتنفس بمفرده. كان يتنفس.
قالت لصاحب البطانية «غطّه بها ليبقى دافئا».
مالَ عليها السائق قائلا «أهو حىّ؟».
أومأت. عثرت أصابعها مرة أخرى على النبض. لم يستمر التيار الوردى البشع فى التدفق. لعله لم يكن شيئا ذا بال. ليس من مخه.
قال السائق «لا أستطيع أن أوقف الحافلة من أجلك، عندنا موعد لا بد أن نلتزم به».
قال صاحب الدراجة النهائية «لا بأس. أنا موجود».
أرادت أن تقول لهما اهدَءَا، اهدَءَا. كان يبدو لها أن الصمت مطلوب، وإن كل ما فى العالم خارج جسم هذا الصبى لا بد أن يركز، فيساعد هذا الجسم على عدم نسيان واجب التنفس.
زفرات خجلَى لكنها منتظمة، وطاعة جميلة من الصدر. استمر، استمر.
قال السائق «سمعت؟ هذا الرجل يقول إنه سوف يبقى هنا معه. والإسعاف قادم حالا».
قالت «دُورى» «اذهب أنت. سأركب معهم إلى المدينة وألحق بك فى طريق رجوعك الليلة».
كان عليه أن ينحنى حتى يسمعها. كانت تتكلم وهى شاردة، ودون أن ترفع رأسها، كأنما هى ذات الأنفاس العزيزة.
قال «متأكدة؟».
متأكدة.
«لست بحاجة إلى الذهاب إلى لندن؟».
لا.
نشرت القصة للمرة الأولى فى مجلة «ذى نيويوركر» الأمريكية بتاريخ 5 يونيو 2006


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.