يعلمنا سيد البحراوي حتي في الرحيل أن الإنسان لا يموت إذا سكن بصدقه وإخلاصه ووعيه ومواقفه ضمير الوطن، بل يظل قيمة حية في عقول الناس وقلوبهم، لأن القيم لا تموت. أما لماذا يمثل سيد البحراوي قيمة فريدة لدي الكثيرين الذين اشتعلت كلماتهم علي صفحات وسائل الاتصال الاجتماعي برثاء صادق حار، فربما نجد في استعادة لمحات من فكره النقدي ومساره الإبداعي إشارة إلي أسباب تلك المكانة التي يحتلها في عقول ونفوس أساتذته، ومجايليه، وأجيال متوالية درست علي يديه أو قرأت له علي امتداد الخرائط العربية. يستطيع القارئ لنصوص سيد البحراوي أن يلمح عددا من المؤشرات المتكررة بتنويعاتها المختلفة بين النقد والرواية والقصة والكتابة الحرة، لعل أهم هذه المؤشرات يتمثل في اختياره موقفا لم يتبدل، جعل من خلاله الثقافة وجها للحياة والكرامة، يرتبط بموقفه السياسي المنحاز أيديولوجيا إلي عامة الناس، وذلك إلي جانب رؤية كلية للفن والواقع، جوهرها انحياز الكاتب إلي الإنسان بمعاناته ومشاكله الاجتماعية والوجودية، مركزا في تلك الرؤية علي أزمة الوعي في المجتمع المصري والعربي المعاصر، خصوصا أزمة الأجيال الجديدة، وتمزق وعيها بين واقع محبط، ومستقبل غائم، وانتماء مشتت إلي أمشاج ثقافية غير متجانسة، بعضها تراثي، والبعض الآخر مستجلب من الخارج بغير أن ينمو بشكل طبيعي متوازن في صيغة مركبة من هويتنا العربية، وما يقتضيه العصر من تفاعل إيجابي مع مستجداته أو كما يقول البحراوي في شهادة له: » العالم في مرحلة مخاض عظيم، قد يأتي بما لا نتخيله، وقد ...» ويترك العبارة غير مكتملة مفتوحة علي الاحتمالات. الكتابة الإبداعية لدي سيد البحراوي عالم له قوانينه الخاصة، بينما يطرح أيضا إشكالية التعارض بين الحرية التي يطلبها الكاتب في إبداعه الأدبي من جانب، ومقتضيات العمل الأكاديمي العلمي من جانب آخر. يقول البحراوي في شهادة له: » بدأت الكتابة قبل أن أعرف ماهي الكتابة وما أنواعها. جاءت الكتابة متمردة علي حدود النوع/ الأنواع التي أدرسها لطلابي في الجامعة، وأراعيها دون شك في نقدي لكتابات الآخرين». هنا يتحدث الدكتور سيد البحراوي عن مأزق الناقد أو المعلم العالم الذي يلتزم بحكم عمله الأكاديمي بضرورة وجود فاصلة تميز الأنواع الأدبية عن بعضها البعض، وذلك بحكم أن التصنيف هو إحدي المهام الأكاديمية الأساسية. أما المبدع الحقيقي، فما يشغله في المقام الأول هو إخلاصه للحالة الإبداعية التي ينقلها بأدواته الفنية لكي تعبر عن رؤاه. وحالة الإبداع هذه تضعه كما يقول البحراوي » في حالة خاصة، هي أقصي درجات أناي أو صدقي مع نفسي، متخلصا من أي مؤثرات سوي تحقيق خصوصية التجربة التي أكتبها، أيا كان نوعها، أي أن التجربة والرغبة في الإخلاص لها يكونان هما المهيمنين عليّ أثناء الكتابة، علي الأقل الكتابة الأولي، بعد ذلك يأتي دور المراجعة والتنقيح، وهنا لا شك تتدخل الخبرة الواعية للناقد الذي يعرف أن عمله سيوجه إلي قارئ لا بد من مراعاة احتياجاته قدر الإمكان». غير أن البحراوي بوصفه كاتبا مبدعا في الوقت نفسه يشدد علي ضرورة ألا يتعدي الناقد داخله علي خصوصية التجربة وصدقها، لأن المبدع - كما فعل هو نفسه في بعض نصوصه الروائية والقصصية - قد يتمرد دون تعمد علي الحدود الفاصلة بين الأنواع الأدبية علي نحو ما نجد تعريفاتها في الدرس النقدي. من هنا قد يقتضي الصدق الأدبي تداخل الأنواع بين الرواية والقصة القصيرة وقصيدة النثر واليوميات والمذكرات والكتابة المعتمدة علي الوثيقة والتأمل الفلسفي. يري البحراوي أنه من منطلق مبدأ الصدق والحرص علي الخصوصية، وهو منطلقه الأساسي في الإبداع، يحرص أيضا علي أن يقوده هذا المبدأ نفسه في عمله كمعلم وناقد، لأنه يعتمد في ذلك علي مجموعة من القواعد الأساسية، يحددها بعبارته علي النحو التالي: الإبداع - كما الحياة – سابق علي النقد كعلم أو يسعي أن يكون علما، وعلي العلم – حتي في العلوم الطبيعية والبحتة – أن يكون مرنا قابلا للمراجعة والعودة إلي التفكيرالإبداعي ومتابعة الجديد، وأن يكون قابلا لتعديل مقولاته إذا ثبت خطؤها أو الإتيان بالقواعد الجديدة التي تناسبها. المبدع هو من يأتي بجديد وخاص، وهو لن يفعل ذلك إلا بالخروج عن القائم، ومن ثم فإن معرفة القائم أمر ضروري، حتي إن كان ذلك بهدف تغييره. إن هدف الدارس المتعلم للقواعد النقدية ليس تطبيقها حرفيا علي الإبداع، لأن قواعد العلاقة الإنسانية، ومنها النقد، لا بد فيها من قدر عال من الانحياز، لا بد من مراعاته وضبطه لصالح النص الإبداعي حتي لا يشوهه أو يقتله، ففي النقد قدر ضروري من الإبداع ... لأن (النقد ) إبداع وحساسية (تتلمس ) نبض المبدع، ونبض القارئ، واحتياجات الجماعة البشرية والمجتمع. لكي يحقق الدارس أو الناقد هذه المهام عليه بالصدق مع النص ومع المناهج النقدية ومع احتياجات المتلقي أيضا. ويمضي سيد البحراوي في بيان منهجه في تدريس النظريات النقدية، فيقرر أنه حين يدرس لطلابه الأنواع الأدبية » أنبه دائما إلي أنها ليست مقدسة، وأن دورنا كمصريين وعرب... ربما لم يتحقق بعد، وأن هذه (الأشكال الأدبية) ربما لا تلبي احتياجات نصنا العربي ...الذي يجسد محتوي شكلنا الخاص». وفي هذا السياق ربما تبرز أهمية المصطلح الذي أطلقه الناقد في مرحلة مبكرة، وهو »محتوي الشكل» ويعني به النظر إلي الشكل الأدبي بوصفه حاملا لمضمون لا ينفصل عنه، وبوصفه أيضا عنصرا مهما في عمليتي تشكيل النص الأدبي وتلقيه من قبل القارئ، كذلك يقوم بدور أساس في عملية التطور الأدبي وفي تفسير بعض قوانين تاريخ الأدب والأدب المقارن، وليس النقد الأدبي فحسب. ومن بين الملامح الأخري التي يمكن أن يستخلصها قارئ متابع أو باحث متخصص في أعمال البحراوي النقدية اهتمامه الكبير بسؤال المنهج في الحركة النقدية المصرية والعربية منذ أن طرح في بداية القرن الماضي إلي ظهور المناهج النقدية الحديثة وما صاحبها من افتتان من جانب بعض النقاد، يعبر عن نوع من التبعية الذهنية. وجدير بالذكر أن الناقد هنا لا يتعامل مع قضية المنهج كهم أكاديمي ضيق، بل يتجاوز هذا الشاغل الأساسي إلي مجال الحياة العربية بصفة عامة، وبينما يؤكد أهمية »الاتساق المنهجي» علي حد تعبيره، فإنه يري أيضا أنه ليس قضية فردية، وإنما هو قضية اجتماعية في المقام الأول. كذلك يركز البحراوي علي أزمة النقد التي تتمثل في عدم قدرة النقاد العرب علي إنتاج نظرية نقدية تتلاءم مع خصوصية النص الأدبي العربي بما يطور استجابات المتلقي العربي الجمالية والاجتماعية، وبما يحقق التوصل إلي »نظرية عربية في النقد الأدبي» أو »مساهمة عربية في النظرية النقدية». يلفت البحراوي كذلك إلي أن الناقد لا بد ألا يكتفي بوصف بنية النص، بل ينظر إليه بوصفه فعلا اجتماعيا إضافة إلي جانبه الجمالي. كذلك يري أن وظيفة النقد تتمثل في مساعدة القارئ ليس علي تذوق جماليات النص الأدبي فحسب، وإرهاف ذائقة المتلقي الذي يصبح طرفا إيجابيا في إنتاج دلالة النص، فلا يقتصر علي دور التلقي السلبي، بل إن المتعة والمعرفة التي يتلقاها القارئ تساعده علي فهم الحياة والبشر بصورة أفضل. ولا يفوت الناقد أن يشير إلي الحاجة إلي أن يمتد دور الناقد خارج مجال الأدب ليمارس نوعا من النقد الثقافي الاجتماعي يقوم علي دراسة الواقع وتطوير معرفة وثيقة بقضاياه. وما دمنا نتحدث عن الصفة المزدوجة للناقد المبدع سيد البحراوي، فإننا لا بد أن نستعيد دعوته للعقول المبدعة في كل مجال للبحث عن أشكال وأنواع جديدة، ليس فقط في الأدب، بل في كل مجالات الفنون والفلسفة وربما العلوم أيضا .. أما في مجال الأدب فلا بد أن يكون التجديد واعيا وليس مجرد ألاعيب شكلية، ومهارب من ضرورات الإبداع الحقيقية، والإسهام في أن يكون الإنسان إنسانا أفضل. أتصور أن الحديث عن مسار الدكتور سيد البحراوي الكتابي بوصفه ناقدا مؤثرا له موقف ورؤية لا يكتمل بغير إطلالة سريعة علي كتابه »في البحث عن لؤلؤة المستحيل، دراسة لقصيدة أمل دنقل: مقابلة خاصة مع ابن نوح». يشرح البحراوي أن وظيفة الناقد في تحليله للنص »أن يحاول البحث عن لؤلؤة المستحيل الفريدة الخاصة بالنص الذي يدرسه، والتي لا توجد إلا في هذا النص بالذات، أي – بإيجاز – البحث عما يميز هذه القصيدة عن غيرها من القصائد، وهذا الشاعر عن غيره من الشعراء.» وبالطبع يبحث الناقد أيضا عن ذلك الجوهر الفريد نفسه في أي عمل روائي أو قصصي يحلله، فالقانون واحد علي تعدد الأنواع الأدبية. المقصود هنا البحث عن أدبية النص وبلاغته المخصوصة مما يكشف عن أحد أهم مرتكزات المنهج النقدي الذي حاول البحراوي بلورته في أعماله التنظيرية والتطبيقية. فهل اكتفي الكاتب والناقد والمعلم الراحل بالعثور علي لؤلؤة المستحيل في حياته، أم أنه ترك لنا نحن مواصلة البحث في سيرته وأعماله عن لؤلؤة المستحيل التي تسكن ضمير الوطن، فنطلق عليها اسم سيد البحراوي؟