«احتمال الموت يجعلك أكثر قدرة على مراقبة تمثيليات الأحياء لترتيب مستقبل حياتهم، وما فيها من سذاجة وطفولة»، هذه كانت أخر كتابات الناقد الدكتور سيد البحراوي «فى مديح الألم»، الذي وافته المنية يوم السبت 16من يونيو الشهر الجاري عن عمر يناهز 65 عامًا بعد صراع طويل مع المرض، وأستكمل حديثه: «أحاول إعادة التعود على البيت خاصة أشيائي الحميمة: الأوراق والأقلام، للتأكد من أنها ما زالت موجودة وفى مكانها. البحرواي عمل أستاذًا جامعيًا للأدب العربي الحديث والنقد فى كلية الآداب بجامعة القاهرة، وعمل فى جامعة ليون الثانية بفرنسا، كما تولى الإشراف على عشرات الرسائل العلمية للحصول على درجتي الماجستير والدكتوراه فى مصر والجزائر وفرنسا. وشارك فى كثير من المؤتمرات الدولية والعربية منذ عام 1979، ونُشرت مقالاته فى مختلف الصحف المصرية والعربية والفرنسية، وكتب عنه مجموعة من الباحثين فى كتاب صدر عن دار العين عام 2010 بعنوان النقد والإبداع والواقع.. نموذج سيد البحراوى، وأكد عدد من المثقفين، أن البحراوي ترك العديد من الكتب النقدية والإبداعية المهمة، والسيرة الطيبة من العمل الأكاديمي والنقدي والسياسي، موضحين انه لم يكن مثقفا تقليديا ولا أكاديميا تقليديا فحسب بل كان مثقفا فاعلا فى الحياة الثقافية، فى الوقت نفسه أعلنت مؤسسة «بتانة» الثقافية عن قيامها غدا الخميس حفل تأبين له، ويشارك فيها عدد كبير من النقاد والأدباء المثقفين، إضافة إلى أصدقائه وتلاميذه ومحبيه. العدالة الاجتماعية قال الدكتور شاكر عبد الحميد وزير الثقافة الأسبق، إن الدكتور سيد البحراوي من النقاد والباحثين المتميزين بطابع خاص ونادر كونه يلتزم بالقيم والمبادئ، ولم ينحرف عنها، ولم يقدم أي تنازلات بشكل أو بأخر، مؤكداً أنه كان دائما منضما لصفوف الشعب ويؤمن بالحرية والاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وظل دائما ينادي بها طوال عمره، وحاول بعد ذلك أن يتخذ من النقد والأدب طريقًا. وأضاف عبد الحميد، علاقتي به منذ فترة طويلة، وكنت اسبقه بدفعة فى نفس الكلية، وبعد تخرجنا جمعنا «بيت المعيدين» الذي كانت تملكه الدولة فى ذلك الوقت، فى منطقة الدقي وسط القاهرة، وكانت أجرة الحجرة الواحدة خمسة جنيهات، وكنت اسكن فى حجرة وهو فى حجرة أخرى، وكنا نتقابل بشكل يومي، فلاحظ اهتمامه بالكتابة، والكتاب الجدد، والنقد، والأدب بشكل عام، مشيرًا إلى انه كان يتابع أعمال يحيي الطاهر عبد الله، وأمل دنقل وغيرهم من المثقفين. وأضاف شاكر، بعد ذلك شاركنا معا فى تظاهرات 7791 بسبب رفع الأسعار فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات، والذي سماها «انتفاضة الحرامية» إلا أننا فوجئنا بطردنا من بيت المعيدين، للمشاركة فى تلك التظاهرة، ولكني عدت إليه بعد أن توسط إلى أحد معارفي، وبعدها بفترة قصيرة، عاد الدكتور سيد بحراوي للبيت أيضا. وأكد وزير الثقافة الأسبق، أن البحراوي ترك العديد من الكتب النقدية والإبداعية المهمة، والسيرة الطيبة من العمل الأكاديمي والنقدي والسياسي. مدارس واقعية بينما أكد الناقد الأدبي حسام عقل، أن الدكتور سيد البحراوي يمثل موجة من موجات الحداثة النقدية، وهي موجة اجتهدت أن تتحرك فى المساحة الفاصلة بين رافضين أو مسارين، بين المسار الحداثي ممثلا فى مدراس التفكيك والبنيان ونقد الإنفاق الثقافية، وبين الرافض التراثي الثقافى بكل زخمه، وعطائه ورصيده الكبير. وأضاف أن ذلك تبلور فى بعض مشروعاته النقدية ربما أبرزها «البحث عن المنهج» فى النقد العربي الحديث، وكذلك دراسته الشهيرة فى البحث عن لؤلؤة المستحيل، وبعض هذه الدراسات النقدية كان اجنح إلى نوع أدبي بعينه كالسرد، وظهر هذا فى كتاب «مستوى الشكل فى الرواية العربية. وتابع عقل، أن البحرواي، عرف بقدرته على أن يتجاوز رسالته النقدية أسوار الجامعة، من خلال نشاط ميداني واسع من خلال الندوات والفعاليات، فضلا عن نشاطه المكثف فى اتحاد كتاب مصر، حيث لعب دورا كبيرا فى محاربة التطبيع بشكل خاص، حيث تصادم مع الكاتب المسرحي الراحل على سالم الذي كان من أكبر المطبعين فى ذلك الوقت، وكان بينه وبين الدكتور سيد البحراوي صدامات كثيرة على خلفية رفضه لهذا التطبيع. وقال عقل، ربطتني علاقة قوية بالدكتور البحرواي وذلك من خلال مناقشتي لإصدار من إصداراته بعنوان «شجرة أمي»، وكان كتاب اقرب من السيرة الذاتية، تحرك فيها بمناطق غير نمطية وغير معتادة فى فن الترجمة الذاتية، وقد رصدت فى الكتاب مجموعة من السلبيات أظهرتها حال وجوده، فتقبلها بصدر رحب قائلا: «فلم أنس به فى مجلس رياء أو ضيق». غير دورية واردف الناقد الأدبي، حرمه المرض من أن يلتمس مع الحياة العامة ولكنه ترك بصمة مؤكدة وشديدة الوضوح، على محاولة ما اسميه بتوازن الروافد، فلم يكن نقده جانحا إلى الاستيلاء فى النموذج الغربي، ولم يكن نقده ناقصا إلى التراث وحده، ولكنه اجتهد أن يتحرك فى المراوحات بين القضيبين أو المسارين الكبيرين. فى حين قال الروائي سيد نجم، إن الدكتور سيد البحراوي، أشاد بأول مجموعة قصصية أكتبها عام 1984، وكانت تحمل أسم «السفر» وقد طبعتها على نفقتي الخاصة، فنقشها الدكتور البحراوي، فى اتحاد نشأ العمال، وهو الأمر الذي دفعني إلى استكمال مسيرتي الروائية، ولكني فوجئت بأنه قام بعمل دراسة نقدية ضمن ندوة نظمها المركز الثقافى الفرنسي وقد استشهد بالجيل الجديد للقصة فى ذلك الوقت. وأضاف نجم، أن البحراوي لم يكن أكاديميا تقليديا، ولم يكن مجرد أستاذ فى الجامعة، ولكنه كان ناضجا ومشاركا فى الحياة الثقافية من خلال الندوات العامة والرسمية مثل المجالس المتخصصة وخلافة، واستمر على هذا النهج سنوات طويلة. وأكد الراوئي سيد نجم، انه لم يكن بعيدا عن الواقع الثقافى أو الحياة الثقافية، ولكن كانت تربطه علاقة قوية بكل أجيال الثمانينات والتسعينيات وما بعد ذلك، وهذا ما شاهدناه فى عزائه عندما حضر عدد كبير من الأسماء الجديدة فى وسط الأدب والنقد، لم تكن معروفه من قبل، فهو لم يكن منعزلا عن الحياة، ولم يكن مثقفا تقليديا ولا أكاديميا تقليدا فحسب بل كان مثقفا فاعلا فى الحياة الثقافية، فضلا عن كونه واحدا ممن شكلوا ظاهرة الكتب غير الدورية فى سبعينيات القرن الماضي،. أي انه واحدا من شيد الملمح الثقافى فى تلك الفترة، فهو خسارة كبيرة للحياة الثقافية، ولكن تبقي مصر ولادة» فالحياة لا تتوقف عن إنتاج المبدعين. ذكريات لم تنس وقال يوسف القعيد، إن الدكتور سيد البحراوي واحدا من أبناء جيلنا، فقد تابع وشاهد خطواتنا منذ اللحظات الأولي من حياتنا الأدبية، فكان دائما يقرأ ويتابع كتاباتنا بحب وكان حريص الدعم، أكثر من الانتقاد. كان أول لقاء بيننا فى الجامعة مع الدكتور عبد المنعم تليمة، فكانوا دائما معروفين بصلابة الموقف وحدة الرؤية وعدم الاستعجال لتقديم أي تنازلات أو حلول وسط مهما كانت المبررات. وأضاف العقيد، أن الدكتور البحراوي، حاول أن يكتب النص الروائي، وعمل تجربة مهمة تسمي «مشروع الروائي، قائلا: «بيني وبينه تجارب وجولات كثيرة فى وسط القاهرة، وفى نادي الأدب، وفى حزب التجمع، وتجمعنا ذكريات كثيرة لم تنس. حكايته مع أمل دنقل ويقول الشاعر شعبان يوسف، إن جيل السبعينيات عجز عن تقديم نقاد يقدرون على حمل العبء النقدي الثقيل، خصوصا بعد التفجرات الإبداعية المتنوعة لكل الأجيال دفعة واحدة، ولكن تراوحت المتابعات النقدية بين مبدعين ظلوا يقدمون مقالات ودراسات فى الشعر والقصة والرواية مثل «حلمى سالم، شمس الدين موسى، مجد ريان، وآخرين»، وبين حركة نقدية نبتت بذورها فى ظل هذه الفوضى النقدية المنظمة، التي كانت تنمو رويدا رويدا. ويضيف، كان على رأس هذه الحركة النقدية المتميزة الناقد سيد البحراوى، وكان صوته النقدي بارزا بين أقرانه، والبعض اعتبره الامتداد الجدلي والطبيعي لأستاذه المباشر الدكتور عبد المحسن طه بدر، كما أنه أيقظ الحركة النقدية الموجهة، التي تهدف إلى تقويض كل أشكال النقد العبثية. ويؤكد الشاعر، كان يعمل على بناء نظرية نقدية فكرية ثقافية فنية شاملة، أي أن هذه النظرية لا تتوقف عند قراءة وتفسير ونقد نص قصصى هنا أو قصيدة شعرية هناك، بل كان يعمل طوال الوقت على تأصيل العملية النقدية باعتبارها عملية ثورية كلية، وبعد ذلك جاءت كتاباته النقدية والفكرية، بعدد كبير من المؤلفات ويتابع شعبان يوسف، كان اهتمام البحراوى بدأ مبكرا بشعر أمل دنقل، ومدى تواصله وتفاعله وجدواه فى المجتمع عموما، مشيراً انه قد أجرى حوارا مهمّا معه، إن لم يكن أهم حوار أجراه أمل دنقل، وهذا لأن الذي يجرى معه الحوار لم يكن صحفيا يريد أن يملأ فراغا فى جريدة، أو زاوية صحفية فى مجلة، ولكن الذي يجرى الحوار ناقد مهموم إلى حد كبير بالظاهرة الثقافية باعتبارها عملية تغيير وتصوير للمجتمع، فوضع أمام أمل دفعة من الأسئلة المحورية، التي أجاب عنها الشاعر فى حوار مثمر ووطويل ووافٍ. ويؤكد شعبان يوسف، أن هذا الكتاب بدأت خطواته الأولى عندما نشر البحراوى مقالا فى مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدر فى باريس، عام 1985، وفى الذكرى الثانية لرحيل الشاعر. ويستكمل، فى المقال طرح البحراوى همومه النقدية الأولى، شارحا ومفسرا المحطات التى مرّ بها أمل، وواقفا عند قصيدته «مقابلة خاصة مع ابن نوح». ويربط البحراوى بين الازدهار الذى حققته القصيدة الدنقلية، والازدهار الذى تحقق على مستوى الحركة الوطنية عموما، التى تبلورت وتصاعدت بعد هزيمة يونيو 1967، ثم انفجرت فى شكل رفض شعبى جارف لها ولرموزها -أى الهزيمة- على كل المستويات. ويخصّ البحراوى شعر العامية بنصيب وافر فى القدرة على التعبير عن تلك الحركة الوطنية آنذاك. هكذا يرى البحراوى موقع أمل دنقل، المرتبط والمتشابك مع كل الظروف والملابسات السياسية والفكرية والثقافية، وجعلت من أمل دنقل شاعرا، ليس مقبولا فقط بين القراء والمثقفين، بل جعلته الناطق الشعري باسم الجماهير الرافضة لكل أشكال الفساد والانحراف الديمقراطي، الذي بدأت السلطة السياسية تعمل على تعميقه وتحذيره، وإبراز الديمقراطية ذات الأنياب، مثلما جاء على لسان قادة المرحلة آنذاك.