هناك مقولة فى الوسط الفنى « أن من لم يقف على خشبة المسرح يفقد الكثير من فن التمثيل» و أنه ليس شرطا أن تكون نجما جماهيريا لتكون ممثلا جيدا ، وأنما ينبغى أن تكون ممثلا مسرحيا موهوبا أولا ثم تأتى النجومية أولا تأت فهذا شأن آخر . وصاحبنا الذى نحتفى بذكرى ميلاده، الفنان القدير توفيق الدقن ؛ كان ممن يطلق عليهم «غول تمثيل» ، طاقة التمثيل عنده غير محدودة ، يستطيع تقمص العديد من الشخصيات بسهولة ويسر ، فهو إبن بار لخشبة المسرح ، هذا الفن الذى يتيح للفنان التفاعل المباشر مع الجمهور والتقاط نبضه وضبط الأداء على قدر استجابته فى كل ليلة عرض مسرحى ، ولقد كان هذا العملاق بحق مايسترو ضبط الأداء فى كل مشهد من مشاهد رصيد مسرحياته العديدة التى قدمها على خشبة المسرح . هذه الطاقة التمثيلية المبدعة وملامح وجهه المميزة ؛ جعلت منه نجما سينمائيا مبكرا ، له حضور طاغ ومميز كلما ظهر على الشاشة ، أذكر أن جمعتنى مع الفنان الكبير عبد الله غيث احد غيلان التمثيل ايضا رحلة عمل وفى جلسة خاصة مع بعض الفنانين سألناه من هو الممثل الذى تخشى التمثيل امامه ؟ رد قائلا « انا لا أخشى أى ممثل كأنا من كان يمثل أمامى إلا توفيق الدقن ، فأداؤه البارع وملامحه تخطف منك أى مشهد مهما بذلت من جهد « والأمثلة كثيرة لصحة مقولة الفنان عبد الله غيث ، لاحظ ظهوره اللافت فى شخصية الباز افندى فى فيلم ابن حميدو ووالى عكا فى الناصر صلاح الدين وافلام الفتوة ومراتى مدير عام وفى بيتنا رجل وقائمة طويلة فيما يزيد عن مائة فيلم ، صك فيها بخفة دم لزمات شهيرة يتداولها المشاهدون حتى الآن . البداية فى المسرح كانت مع فرقة « المسرح الحر» التى كونها مجموعة من خريجى معهد الفنون المسرحية ممن لم يلتحقوا بفرقة الدولة « فرقة التمثيل المصرية « المسرح القومى فيما بعد ، ضم المسرح الحر من اصبحوا فيما بعد نجوم المسرح على مر العصور فإلى جانب توفيق الدقن كان هناك عبد المنعم مدبولى وصلاح منصور وسعد اردش وكمال يس وشكرى سرحان وعبد الحفيظ التطاوى وعلى الغندور وعمر عفيفى .. قدمت هذه الفرقة فى سنواتها الأولى فى خمسينيات القرن الماضى رائعة نعمان عاشور «الناس اللى تحت» التى كانت نقطة انطلاق الدقن فى نجومية المسرح وهو مازال شابا فى الثلاثين من عمره عندما جسد دور الثرى الستينى رجائى بك الذى هجر حياة المجتمع الأرستقراطى ليعيش فى بدرون العمارة مع الناس اللى تحت يوزع عليهم تجاربه وحكمه الحياتية بسخرية وخفة دم ، لعب هذا الدور فى النسخة السينمائية فيما بعد يوسف بك وهبى ، براعة الدقن فى تجسيد شخصية رجائى جعلته يحصد تصفيقا حاراٌ وتحية خاصة من الجمهور فى كل ليلة عرض ، ولفتت انظار المنتجين اليه بشدة . انتقل الدقن بعد ذلك وعن جدارة ليكون عضوا بالمسرح القومى الى جوار عمالقة المسرح المصرى ليصبح نجما مسرحيا عملاقا فى العديد من المسرحيات ، فعن رائعة نجيب محفوظ « بداية ونهاية « قدم المسرح القومى إعداداٌ مسرحيا فى ثلاث فصول بطولة الفنانين امينة رزق وتوفيق الدقن وكمال حسين وصلاح سرحان وعايدة عبد الجواد ، فصال وجال الدقن على خشبة المسرح فى دور حسن ابو الروس ، الإبن الأكبرللعائلة الذى يتكسب من الفتونة ليساعد أمه واخوته ، ومن أجمل ما قدم الدقن فى هذه المسرحية فقرة غنائية بصوت قوى ومميز يصاحبها تفاعل من الجمهور ليكشف عن قدرات فنية اخرى فى الغناء ، والمعروف أن الدقن كان صاحب صوت قوى مسيطر يساعده كثيرا فى تجسيد الأدوار المتنوعة ، ذات يوم قال لى أن الفضل فى ذلك يرجع الى صحراء مصر الجديدة وجبل المقطم !! بتوجيهات من الاستاذ زكى طليمات عميد المعهد بأن يذهب الطالب الى هذه المناطق للصراخ فى الفضاء لتقوية وتدريب الأحبال الصوتية على الأداء المسرحى ، وكان الدقن اكثر من واظب على هذ الصراخ فى الصحراء . كان الدقن محبا لجمهوره بشكل لافت ، مما جعله حريصا بعد نهاية كل ليلة عرض مسرحى يقف خارج المسرح بين محبيه ومعجبينه يتبادل معهم الحديث والضحكات على لزماته السينمائية ، وفى احد الليالى تقدم منه شاب وقال له « انا جيت من المنصورة مخصوص علشان اتفرج على حضرتك « رد عليه بود شديد وامتنان « طب وحترجع ازاى يا ابنى ده الوقت اتأخر « رد الشاب « بكره الصبح وحبات فى اى لوكانده « فأصرالدقن على أن يصطحب الشاب للعشاء فى أحد مطاعم وسط البلد واتصور انه ربما يكون قد نقده ايضا ما يكفى لمبيت اللوكندة . سلسلة المسرحيات التى قدمها المسرح القومى للكاتب الكبير سعد الدين وهبة ؛ كان توفيق الدقن قاسما مشتركا فى جميع هذه الأعمال ، السبنسه ، المحروسة ، كوبرى الناموس ، سكة السلامة ، بير السلم . فلقد كان الدقن كما يقولون « عمود الخيمة» فى هذه المسرحيات الناجحة ، حضور طاغ ومميز فى شخصياتها المتنوعة ، ولعل ابرزها شخصية قرنى الريجيسير فى مسرحية سكة السلامة ، حيوية وتألق ومصدردائم للبهجة ، رغم ما تحمله الشخصية من هموم داخلية لأحد المهمشين من قاع المجتمع ، وقد تألق الدقن بصفة خاصة فى المنولوج الأخير الذى يتطهر فيه ركاب الاتوبيس أمام احتمالية مواجهة الموت ، فها هو يخاطب رب العزة طالبا النجاه مستعطفا « ده انا غلبان واغلب من الغلب يا رب .. ميغركش المنظر « فى اداء مسيطر على جمهوره « ده انا ياما شقيت ولفيت لف .. كله على ودنه «ثم يغير من طبقة صوته ببراعة» انا لو نجيتنى يارب .. حتجوز واكون اسرة واجيب عيال يسبحوا بحمدك يا رب « وتضج صالة العرض بالتصفيق المتواصل امام « غول التمثيل « توفيق الدقن. وفى مرحلة اخرى من التألق المسرحى تأتى رائعة نعمان عاشور «عيلة الدوغرى» من اخراج الأستاذ عبد الرحيم الزرقانى ، الذى اختار الدقن فى دور جديد عليه تماما ، ثقة فى قدراته الفذة وتمكنه من تقمص الشخصيات ، فأسند اليه دور سيد الدوغرى الأبن الأكبر فى العائلة ، ترزى البدل الرجالى الذى جارت عليه الأيام ، فيتفرغ للعبادة داخل خلوته الخاصة بالمنزل ، وبأداء صوفى راقى ينتزع الدقن اعجاب الجمهور يوميا الذى امتد لمواسم متتالية ناجحة لباقة من المع نجوم المسرح القومى عبد المنعم ابراهيم ، شفيق نور الدين ، ملك الجمل ، احمد الجزيرى ، رجاء حسين ، على رشدى ، عبد الرحمن ابو زهرة ،كمال حسين ونادية السبع . قمة العطاء فى عام 1966 حين راهن عليه المخرج الكبير كرم مطاوع العائد للتو من بعثته الدراسية بإيطاليا ؛ محملا بأفكارجديدة للمسرح فوجد ضالته فى « الفرافير « للكاتب الكبير يوسف ادريس ، وهى نموذج للمسرح الحديث وقتها بأساليب التغريب الأوروبية ، قام هذا العرض على اكتاف العملاق توفيق الدقن وطاقة التمثيل المتفجرة عبد السلام محمد تشاركهما الفنانة الكبيرة سهير البابلى ، ولك ان تتصور عرضا مسرحيا فكريا مدته ساعتين ونصف عبارة عن مباراة فى التمثيل بين الدقن وعبد السلام محمد بمجهود بدنى وحركى وعصبى جبار ، مما يستلزم لياقة بدنية عالية يوميا بالمناسبة كان الدقن جناح ايمن فريق السكة الحديد لكرة القدم فى الأربعينيات ولكنهما كانا على قدر ثقة مطاوع فيهما ورهانه عليهما فى النجاح المدوى للمسرحية ، اذكر انه فى احدى ليال عرض المسرحية أن توقف الأستاذ توفيق الدقن عن الأداء وبعد لحظات صمت خرج من المسرح وسط ذهول وارتباك المشاهدين ، وبعد دقائق قليلة عاد الى المسرح ، كان خلالها قد طلب من ادارة المسرح التوجه لأحد المشاهدين بالبنوار المجاور لخشبة المسرح لتنبيهه للتوقف عن «قزقزة اللب» ، وبعد أن عاد الى المسرح وسط تصفيق الجمهور ، اعتذر بأدب فى كلمات قليلة عن هذا التوقف وأوضح ان سببه « قززة اللب « فى المسرح وهو امر لا يليق بهذا المكان لأن « انا مش اراجوز» انا ببذل كل جهدى لأسعادكم وانهار باكيا وسط عاصفة من التصفيق امتدت لدقائق وقف خلالها الجمهور احتراما لهذا الفنان الكبير .