أذكر أن الموسيقي كانت صديق طفولتي المرافق لي في كل المناسبات.. طفولتي التي تربت ذائقتي فيها علي الأغاني الكلاسيكية، نتحلق أمام التلفزيون لسماعها مع أبي في فناء بيتنا، نسمع ونستمع لصوت الله يصدح في أرواحنا، ويشكل وعياً بفطرة ذوّاق يعلمنا الموسيقي. في هذه اللحظة ذاتها التي أكتب فيها عن الموسيقي، هجم علي ذاكرتي مشهد ضمن مشاهد مشابهة تماماً، حينما كنت أصنع الموسيقي بفمي وقت غيابها عن أذني، كنت في الخامسة من عمري أقل قليلاً أو أكثر قليلاً، الأمر الذي جعلني فيما بعد لا أفوّت أي فرصة كي أغني في نشاطات المدرسة الابتدائية تحديدا وحفلاتها، ولا أذكر أني لم أُختَر يوما لفعالية غنائية في المدرسة، وكنت أشعر وقتها أن هذا هو مكاني الطبيعي، مع الموسيقي وبها أكون. كيف يمكنني بعد هذه الطفولة أن استوعب هذا العالم دون موسيقي، أكاد أجزم أن اللحظة التي يمكن أن تتوقف الموسيقي فيها بتنوعاتها سوف يصمت العالم بأكمله. يمكنني أن أُشبّه الأمر بأن تشاهد فيلماً في السينما دون صوت، حيث يمكنك رؤية كل التفاصيل لكنك تعجز عن التقاط منبع الصوت الحقيقي، وأظن أن هذا ما سوف يصير عليه العالم لو اختفت الموسيقي منه أو صمتت فجأة. لا توجد لازمة معينة ترافقني لحظة كتابة النص، كأن أضع موسيقي بعينها لتلائم حالتي المزاجية أو حالة النص التي تتبختر فيّ لحظتها، الكتابة بحد ذاتها، لحظة الكتابة التي تأتيك من داخلك بكل ذلك الشغف وتلك الحمي عادة ما تحمل موسيقاها الخاصة معها، ربما تكون طبول افريقية قديمة أو موسيقي القناوا المغربية، أو ابتهالات صوفية بلهجة مصرية تحديدا، موسيقي تكون وليدة الحالة والمفردات والحروف التي تشكل بمجملها عالم النص الداخلي، وربما بسبب هذه الحالة تحديدا لم استطع يوماً أن أكتب شعراً وهناك موسيقي بعينها في الخلفية، ما أشعر به أن الشعر هنا يجب أن يكون في عالمه الخاص حيث لا مؤثرات تعطل من عملية التماس بين الروح واللغة، لا صوت يدخل فاصلا بين الصورة وصورتها في الوعي، بين موسيقي اللحظة التي تشكلت بفعل الكلمات وبين نغمتها الدائرة في روحي. ثمة منطقة مبهمة بين الكتابة والموسيقي كأن هناك تواطؤ ما علي خلق عالم مكتمل لا يشتد بنيانه من دون وجود أحدهما، وكثيرا ما تمسك بتلابيب هذا التواطؤ حينما تجد مقطوعة موسيقية قادرة علي إمتاع ذائقتك غير أن هناك منطقة تفتقد الامساك بها كي يكتمل هذا السحر، وهنا تأتي الكلمة لتشكل دعامة ربما أو ربما لتكون القطعة الناقصة في اللحن التي ما إن توضع مكانها حتي يكتمل العمل وتصعد الروح إلي مقرها. تترك لوحة الموسيقي فجوات متعمدة لا تملؤها نوتة، بل كلمات تقوّم البنيان، وهو الأمر الذي تجده أيضا في نصوص ينتابك إحساس بأن هناك نقصا ما حينما تقرأها، شيء تحتاج سماعه، شيء تحتاج ذاتك طَرْقَه عليها، وحينما تنصبّ الموسيقي المستخلصة من اللغة في تلك الفجوات، ساعتها فقط يشعرك النص بالاكتمال، غير أن الجمال الخالص بالنسبة في كليهما الشعر والموسيقي حينما يأتي كل منهما منفردا وعلي حدة، كاملا وبهيا ومكتفيا بذاته ولذاته، والكتابة أيضا كذلك بالنسبة لي إما نص مكتمل لا يحتاج دعامات كي يعيش وإما نص نزل قبل أوانه وكان لابد له الحصول علي دعامات أخري كي يواصل التنفس. منذ بدأت التدرّب علي الكتابة وكانت الموسيقي قرينًا جادًا لم أقربه يوما إلا من باب الجدية والاشتغال لحظة الذروة أو النشوة، سدرة المنتهي التي يقف علي عتبتها اللحن فيسّاقط متعًا علي الروح والجسد خالقا نشوة لا يشعر بها غير عارف أو محب. الموسيقي هي الرحلة الأكثر توغلا في الوجدان حيث يمكنها النفاذ إلي مناطق لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يدخلها شيء آخر، ولذلك أجدني كلما أحسست بالرغبة في التواصل مع ذلك الجزء الخفي داخلي أذهب للموسيقي، أسافر للصحراء أو إلي الريف وحينما أريد التوحد مع الكون داخلي ومن حولي. تأخذني الموسيقي في تلك الرحلة تمهيدا لانتزاع قشرة متصلبة مما تركته الأيام والتجربة وكان لابد لي من تقشيره عن جلدي وهذا ما تقوم الموسيقي بفعله، ومثلما يطهر البكاء عيوننا وأرواحنا، ومثلما تطهر الكتابة وعينا ومخيلتنا، تأتي الموسيقي لتقوم بعملية تطهير شاملة، تنفضنا مثلما تنفض امرأة ريفية السجاد من الأتربة. ومثلما تفعل القصيدة حينما ترسم أمامك عالما متكاملا بتفاصيله الواسعة والدقيقة هكذا تفعل الموسيقي، ليست كل مقطوعة موسيقية تستطيع فعل هذا لكن بعض المقطوعات تفرش أمامك عالما موازيا وتقيمك عليه صانعا أو إله، تخلق المشهد كما تأخذك الموسيقي إليه وحينما تصمت تكون كأنها عصرة الموت. فلسطين