النظرة الأولى لوجه نيافة الأنبا بيشوى لن تعود لك سوى بانطباع إيجابى.. فلن تتخيل أبدا أن هذا الشيخ ذا الوجه البشوش والملامح البريئة السمحة التى لاتزال طفولية رغم رهق السنوات وتسلط التجاعيد قد يصدر عنه أى فعل خبيث .. لكن لا تنس من فضلك أنه فى رواية «صورة دوريان جراى» يظل وجه البطل وسيماً مهما مضت السنون، يتغير فقط الوجه المرسوم فى لوحته التى يخفيها عن الأعين خلف ستار سميك.. بعدما قرأت تصريحات الأنبا بيشوى القاسية بخصوص الطوائف المسيحية الأخرى - عمرها أربع سنوات - وعندما وضعت إلى جوارها تصريحاته عن «المسلمين الضيوف» و «آيات القرآن الموضوعة» وتحليله الأدبى التطوعى لرواية عزازيل تمنيت القدرة على إزاحة الستار عن لوحة الأنبا بيشوى المخفية لأرى تأثيرات الندم على وجهه الحقيقى. «مطران دمياط وكفر الشيخ وبلقاس والبرارى وسكرتير المجمع المقدس ورئيس محاكمات الكهنة».. هذه هى المناصب الرسمية التى يشغلها الأنبا بيشوى، وحشد المسئوليات هذا يشى بأن مكانة الرجل كبيرة فى الكنيسة القبطية، فهو الرجل الثانى فيها بعد قداسة البابا شنودة. وإذا كان المتنبى يقول «على قدر أهل العزم تأتى العزائم، فإن المثل الشعبى لا يعرف المساومات عندما يعلن بحسم: غلطة الشاطر بألف.. وأنه حتى إن كان مسموحاً للعامة بالتجاوز فى حوارات الشارع فإن الخاصة - خاصة الخاصة الدينية - لا تتردى فى هذه المهاوى.. مشكلة الأنبا بيشوى الذى يعلم تلاميذه قيم التسامح المسيحية فى الكلية الإكليريكية ليست مع «آخر» واحد بل مع الآخرين جميعاً. * آلاف الغلطات لم يمنعه عنهم كونهم ينتمون إلى ديانة واحدة وإن اختلفت العقائد، إذ عصف الأسقف الجسور بأشقائه المسيحيين فى الطائفة الإنجيلية، وقال مرة إنهم يتبعون أساليب غير مستقيمة للتأثير على الشباب الأرثوذوكسى، ومرة أخرى أنهم لن يروا ملكوت السماوات لأنهم - على حد قوله - «كفرة»، وأن عقود زواجهم الحالية غير شرعية .. الغريب أن الأنبا بيشوى بعد هذا التكفير غير الضرورى قام بالصلاة مع الكهنة الإنجيليين فى الاحتفال بالقداس الإلهى فى كاستيلا بجزيرة كريت بحضور أعضاء مجلس الكنائس العالمى، مما جعل القس رفعت فكرى أحد قادة الكنيسة المشيخية بالطائفة الإنجيلية - مدفوعاً بعصبية مضادة - إلى اتهامه بأنه يرتدى أقنعة. * عدو الدولة.. مدفوعاً بحماسة دينية مفرطة فى غير موضعها أعلن المطران الجليل التحدى على سيادة الدولة أكثر من مرة، فيقول فى تعليق له على قانون الأحوال الشخصية: إن الدولة لو لم تضع القانون بما يوافق رأى الكنيسة ستجد أمامها 80 لغماً هم أعضاء المجمع المقدس، وهو أولهم، لأن مصر معروفة بشهدائها من أيام العصر الرومانى بسبب تمسكهم بتعاليم الإنجيل.. بعدها بعام واحد اعتبر أن التفكير فى وضع الأديرة تحت رقابة الدولة على أن تتفرغ الكنيسة لواجباتها الدينية والروحية أمر يستوجب الاستشهاد.. الاستشهاد ضد من؟؟.. ضد الدولة بالتأكيد. وفى نفس الحوار الصحفى غير الموفق يعتبر نيافة الحبر الجليل أن الأقباط هم أصل البلد، وأن المسلمين «ضيوف» وتبدو فكرة الضيوف مزعجة لأن أى «استضافة» لها مهلة محددة مهما امتد زمنها ثم تنتهى.. فهل يظن نيافة المطران - فى عقله الباطن على الأقل- أن إقامة المسلمين فى بلده قد طالت أكثر مما ينبغى؟ ثم يأتى تدخل لا مبرر له فى دقائق العقيدة الإسلامية، عندما تساءل فى لقاء مع السفير المصرى فى قبرص عن إدخال آيات القرآن التى تتحدث عن عدم صلب المسيح بعد وفاة الرسول، مما دفع بقداسة البابا شنودة إلى توضيح أسفه لأى مشاعر سيئة أصابت المسلمين من جراء هذا الكلام . * خومينى الأقباط فجأة نصب الأنبا بيشوى نفسه ناقدا أدبيا، وأهلك وقتاً طويلا رافعاً سيف الكنيسة ليتصدى لرواية د.يوسف زيدان «عزازيل» التى وصفها بأنها أبشع «كتاب» عرفته المسيحية.. والرواية ليست كتاباً لأنها عمل خيالى بعكس الكتب القائمة على الحقائق، وقال إن هدف مؤلفها هو أن يقوض أركان الدين المسيحى، وكأن الدين المسيحى من الهشاشة بأن يهزه عمل أدبى. لو لم يلتفت الأنبا باسمه وقامته إلى رواية عزازيل، ولو لم يضع كل علومه اللاهوتيه أمامها فى كفة ميزان لما بلغت هذا الحد من الانتشار الذى جعل اسمها على كل الألسنة وجلب لنيافة الأنبا صورة المتطرف الذى يرفض الفن، إذ ما الفارق بين تحليل الأنبا الدينى «عزازيل» وبين تحليل الخومينى الدينى لعمل أدبى آخر هو رواية «آيات شيطانية»؟؟ * القدرة والمسئولية الناس بحسن نية تعتبر أن تملق رجل الدين للسلطة هو الفساد الأكبر.. لكن الحقيقة هى أن الذى يتملق السلطة خطره بسيط لأن أمره مكشوف، أما الخطر غير المحدود فيأتى من رجل الدين الذى يتملق الجماهير، فيسمعهم ما يريدون أن يسمعوه بدلاً من أن يتحمل مسئولية أن يقودهم فى طريق تصحيح الأفكار.. رجل الدين الذى يتسلق آذان الجماهير طمعاً فى شعبية سريعة البابا شنودة بقراره التاريخى بمنع المسيحيين من الحج إلى القدس حتى يدخلها المسلمون وقف بصلابة أمام مسئوليته الوطنية، وأثبت أنه كفء لأداء دوره التاريخى.. فهل يقدر «البابا بيشوى» على سلك مثل هذا الطريق؟؟ وإذا كان الشارع القبطى يشعر بشىء من الاضهاد فعلى قياداته التعامل بحكمة لنزع فتيل القنبلة بدلا من أن تزيدها اشتعالاً رغبة فى إرضاء تيار متشدد يتضخم.. النظر إلى الآخر بريبة أو كراهية هو أول خطوات الشقاق، الله محبّة، كما يقول القديس بولس، ويسوع يقول إنه لا فضل للإنسان فى أن يحب من يحبه بل فى أن يحب من يكرهه. * روح قديمة تبعث «مش ماشيين.. مش ماشيين.. هاتوا اخواتنا المسلمين» تحت هذا الهتاف اعتصم عدد من الشباب المسيحى فى شارع مسرة للمطالبة بالإفراج عن الشباب المسلم الذى تم القبض عليه أثناء تضامنهم مع أشقائهم الأقباط أثناء مظاهرات حى شبرا ليلة 4 يناير.. هذه هى الروح التى ربما لم ينتبه إليها نيافة الأنبا بيشوى، والتى جاهدت كلماته - قاصداً أو غافلا - لكى يقتلها.. لم يكن لمأساة الإسكندرية الأخيرة سوى إيجابية واحدة هى وحدة الصف الداخلى حقاً للمرة الأولى بعد سنوات من الاشتعال الطائفى.. ما سنبنيه على هذا هو ما سيبقى.. إما أن ننزع الحقد وسوء الفهم من العلاقة التى تجمع كل المصريين أو نزرع الفتنة بأيدينا فى أرض الوطن.