بدأت الهندسة السياسية لمنطقتنا، لإنشاء الأندلس المقلوب، بوعد من الحاكم المصرى على بك الكبير فى القرن الثامن عشر، وتحول المشروع إلى حقيقة مجسدة مع النقاط الأربع عشرة التى طرحتها الولاياتالمتحدة فى 1919 فقامت عصبة الأمم التى سلمت فلسطين لبريطانيا ثم سلمت بريطانيا فلسطين للصهيونى هربرت صمويل وأعد هذه الأرض لقيام دولة يهودية فى فلسطين. لكن أقدم علامات السعى اليهودى، فى التاريخ وليس على صفحات النصوص المقدسة، لإقامة مملكة يهودية فى سيناءوفلسطين كانت بعد دخول العثمانيين إلى مصر فى 1517 مباشرة، حيث أصدر السلطان سليم الأول فرمانا يحرم على اليهود القادمين من الأندلس تملك الأراضى وتشييد المبانى فى سيناء، بعد ما بلغه من محاولات بذلوها فى هذا الصدد، كما جاء فى كتاب جاك لانداو «اليهود فى مصر العثمانية 1517- 1914». هل هذا التحول فى القرن السادس عشر من الأندلس إلى فلسطينوسيناء هو من البداية تحول ذو طبيعة سياسية؟ أم هو نزوع دينى إلى أرض مقدسة؟ بتعبير آخر هل كانت هناك صهيونية سياسية قبل مؤتمر بازل الصهيونى الأول فى 1879؟ وفقا لما يقوله الصحفى الصهيونى السكرتير العام للمؤتمر الصهيونى العالمى ناحوم سوكولوف فإن الصهيونية المسيحية فى إنجلترا سبقت الصهيونية اليهودية بثلاثة قرون والصهاينة اليهود هم تلاميذ الصهاينة المسيحيين الإنجليز. يضاف إلى ذلك أن الولاياتالمتحدة منذ نشأتها حكمت نظرتها إلى فلسطين والشرق الأوسط وجهات نظر الرئيس الثانى جون آدامز والثالث توماس جيفرسون اللذين عملا معا وتقاربت رؤاهما فى باريس، وماتا معا قبل مؤتمر بازل بسبعين سنة، وكان الأول يؤمن بضرورة إعادة اليهود إلى فلسطين، والثانى يؤمن بجدارة الولاياتالمتحدة فى وراثة السلطة العثمانية فى الشرق العربى. والخطتان متلازمتان: خطة تقسيم التركة العثمانية بين القوى الغربية وخطة إنشاء دولة يهودية فى فلسطين، وقد كان صدور وعد بلفور فى 1917 نتيجة لجهود عدد من الصهاينة بينهم سوكولوف قرب نهاية الحرب الأولى إعلانا واضحا للارتباط بين تقسيم التركة العثمانية وإنشاء دولة اليهود. والوهم الشائع هو أن نابليون هو أول من سعى لتنفيذ هذه الخطة المزدوجة، لكن الحقيقة هى أنه نقلها إلى رعاية الحلفاء الغربيين فتحولت إلى واقع تعيشه شعوبنا، إلى إطار يصنع كل هزائمنا وانكساراتنا منذ أكثر من قرنين. لكن ما يتجاهله الكثيرون هو أن الإمبراطورية الروسية والدويلات الألمانية فى القرن الثامن عشر كانت - فى حدود علمى - أسبق من أوروبا الغربية إلى هذا الموضوع، والدليل هو الرسالتان اللتان وجههما على بك الكبير حاكم مصر الموسكوفى الأصل والموالى لروسيا إلى كبار المتمولين اليهود الألمان فى مطلع النصف الثانى من القرن الثامن عشر بتخليص العرب من سلطة استانبول وإنشاء دولة يهودية فى فلسطين ترعاها القاهرة، وكان هذا وعد بلفور المصرى الذى سبق الإنجليزى بحوالى قرنين. ومن الأمور ذات المغزى أن على بك الكبير ذبح بسيف تلميذه محمد بك أبوالدهب، رجل بريطانيا، كما ذبح بسيوف الأنجلوساكسون كل من تجرأ من أهل هذه المنطقة على التحالف مع موسكو، وسوف تجد الحكاية كلها فى كتاب (نابليون والإسلام) لهنرى لورانس الذى ترجمه بشير السباعى. لقد تسابقت القوى العالمية على تحقيق حلم الدولة الصهيونية فى فلسطين، بغض النظر عن متى ولد الحلم ومن كان صاحب المشروع الأصلى. وفازت بريطانيا بامتياز رعاية تنفيذ الحلم، ويرى عباس العقاد فى كتابه البديع «11يوليو 1882» أن بريطانيا احتلت مصر لتتأهل لرعاية المشروع الصهيونى. ومن الضرورى أن ندرك أن بريطانيا جاءت إلى المنطقة بتصور للدول الوطنية التى يتعين أن تقوم فيها يختلف عن التصور العلمانى الصهيونى، من ناحية، وعن الطابع العلمانى الفرنسى الذى تكرس فى مصر منذ وصول محمد على للسلطة. وباختصار شديد فقد تراجعت الصهيونية العلمانية فى إسرائيل مع انتصارها فى 1967 ودفنت بقايا العلمانية الفرنسية فى مصر مع هزيمة مصر فى المعركة ذاتها، لكننى أضيف أن عبدالناصر كان يعد مصر للانتقال من العلمانية الفرنسية الملحدة للعلمانية المتدينة منذ ,1952 ولكن وفق برنامج وطنى لم يعجب واشنطن ولا لندن.. وللحديث بقية.