«تاريخيا نحن مشتركون فى أشياء كثيرة فالإسكندرية بناها الإسكندر المقدونى.. هل تعرفون فى مصر أن الملكة الجميلة كليوباترا كانت من أصول مقدونية وأن حجر رشيد ترجم فى بادئ الأمر إلى اللغة المقدونية» هكذا قال لى أحد المقدونيين بسعادة عندما عرف أنى من مصر. فأنت تستطيع أن تشعر بسهولة فى كل مكان تذهب إليه أن كلمة مصر لها وقعها وسحرها الخاص وكذلك كلمة «كايرو» فقد قال لى رجل عجوز بحماس شديد إن له حفيدا يريد أن يذهب إلى كايرو بشدة ولأنه لا يملك المال للسفر فاضطر أن يأخذه إلى مكان فى مقدونيا به بعض الآثار وأقنعه أن تلك هى كايرو. كانت زيارتنا لجمهورية مقدونيا جزءا من التبادل الثقافى الذى تقوم به وزارة الثقافة فى مصر مع مختلف دول العالم والذى ينظمه قطاع العلاقات الثقافية الخارجية بهدف تقديم الثقافة والفن المصرى للشعوب المختلفة وهذا العام شاركت مصر فى مهرجان بيتولا الثقافى والذى تستمر فعالياته لمدة شهرين متتاليين وهذا العام تستضيف مدينة بيتولا (ثانى أكبر المدن فى جمهورية مقدونيا بعد العاصمة سكوبيا) فرقا من مصر وفرنسا وكندا وأمريكا واستراليا وصربيا وتشارك مصر من خلال فرقة «مسار إجبارى للموسيقى» وهى فرقة مستقلة أرسلتها وزارة الثقافة لتمثل مصر فى إطار دعم الوزارة للفرق المستقلة. تقام الحفلات فى بيتولا على مسارح كبيرة فى الشوارع بدون تذاكر وتلاقى إقبالا شديدا من المقدونيين ومن مختلف الجنسيات ولكن الأمطار المفاجئة هذا العام تسببت فى إلغاء العديد من الحفلات وقد تغنت الفرقة المصرية بأغانى سيد درويش «الحلوة دى» و«الشيخ قفاعة» و«طلعت يا محلى نورها» و«شد الحزام» و «أنا هويت» كما تغنت بأغنية «دى مش طريقة» والتى تنتقد سلوكيات المرور فى مصر وهى أغنية خاصة بالفرقة قام بتلحينها هانى الدقاق وهو نفسه الذى يقوم بالغناء وقد كان لموسيقى سيد درويش مفعول السحر على المقدونيين حيث طالبوا الفرقة بإعادة معظم الأغانى أكثر من مرة. وكان من الملاحظ أن الموسيقى المصرية قريبة جدا من الموسيقى المقدونية وأيضا هناك تشابه فى الظروف الاقتصادية بين مصر ومقدونيا فالمواطن المقدونى يعانى فى كسب قوت يومه على الرغم من أنه بلد غنى بالموارد الطبيعية فهو يمتلك أكبر بحيرتين فى أوروبا وهما أوخريد وبريسبا والتى تجتذب العديد من السياح وبهما عدد من الأسماك النادرة كما يوجد بمقدونيا أكثر من 100 نهر منها نهر يدعى «فاردر» والذى يعد أحد المصادر الأساسية للمياه العذبة فى اليونان. وقد اشتهرت مقدونيا عندما كانت تابعة ليوغسلافيا فى عهد «تيتو» بصناعة الحديد والصلب والثلاجات وحمض الكبريتيك والطائرات والمنسوجات ولذلك لاعجب أن الشعب المقدونى يحب تيتو كثيرا فقد قال لى أحدهم «أنتى من مصر.. بلد جمال عبدالناصر صديق تيتو، نحن نحتاج إلى تيتو جديد» فقلت له ولكنه قتل الآلاف فقال «لكل نظام ضحاياه ولكى يسود النظام ويكون هناك نهضة فلابد من ثمن». الإحصائيات الرسمية تقول إن هناك بطالة فى مقدونيا تصل إلى 37%، لكن عندما تسأل المقدونيين يقولون إنها تزيد على 50% لذلك تجد المقاهى ممتلئة بالرجال والنساء فى الصباح والمساء وعلى الرغم من الفقر والبطالة فإنك تجدهم فى غاية الأناقة والجمال والنظافة، فهم يهتمون جدا بالمظهر ولا توجد مستويات للملبس والزى فالفقير يرتدى مثل الغنى فالمظهر أهم لديهم من الماء والطعام حتى قال لي أحدهم: «قد يكون الواحد منا بهيئة رجل أعمال وهو ببيته لا يملك دينارا واحدا وأضاف أن هناك ظاهرة استشرت فى السنوات الخمس الماضية وهى أن معظم الشباب لا يكملون تعليمهم ولا يدخلون الجامعة لأنهم يدركون أنهم لن يستفيدوا شيئا من الشهادة، فلا توجد وظائف على الإطلاق ولأنهم ليس لديهم ما يفعلونه لا تعليم ولا عمل يتزوج الشباب فى سن مبكرة جدا ويقومون بالسكن فى بيت العائلة وفى معظم الأحوال يقوم الأهل بالتكفل بهم». الحياة فى مقدونيا صعبة جدا فرسميا متوسط دخل الأسرة 300 دولار فى الشهر، لكن الناس فى الشوارع تؤكد أن الأسرة التى يكون دخلها 150 دولارا فى الشهر هى محظوظة جدا فكل السيدات يقمن بالطهى فى المنازل ومعظم الأطعمة والفواكه رخيصة جدا، لكن المشكلة على حد قولهم أن هناك نسبة كبيرة من الأسر ليس لها مصادر للدخل. عدد المسلمين فى مقدونيا لا يتعدى 20% من السكان مع العلم أن معظم المسلمين فى مقدونيا هم من الألبان، حيث لا يتعدى عدد المقدونيين المسلمين رسميا 20 ألف مقدونى فى حين أن المقدونيين ينكرون أن هناك أى مسلمين من أصل مقدونى على الإطلاق، وإذا سألت الألبان عن نسبة المسلمين سيتأكد لك أنها 50%، بينما رسميا نسبة المسلمين 25% وعلى الرغم من أن ملامح الحياة هناك ليس فيها انفصال فى الملبس أو التقاليد بين الألبان والمقدونيين، حيث إن الفتيات المسلمات يرتدين فى الشوارع المينى جيب مثلهن مثل المقدونيات ولا يوجد حجاب على الإطلاق، وإذا وجدته فى حالات نادرة ستجد من ترتديه سيدة عجوزا ولن تجد حجابا حتى فى أكبر المدن التى توجد بها نسبة مسلمين ألبان تصل ل 90%، وهى مدينة تيتافو وهى أكبر مدينة إسلامية وهى المدينة التى شهدت فى 2001 نزاعات مسلحة بين المقدونيين والألبان الذين طلبوا المساواة مع المقدونيين وراح ضحيتها قتلى من الجانبين وبعدها عقدت الحكومة اتفاقا مع الألبان لتحقيق مطالبهم، والصراعات بين المقدونيين والألبان هى صراع عرقى أكثر منه دينى، فمعظم الشعب هناك لا يهتم بالدين فمطالب الألبان هى فرض اللغة الألبانية لغة رسمية على الدولة وأن تكون هناك جامعات خاصة بالألبان تمولها الدولة وأن يبنوا المزيد من المساجد، بينما مخاوف المقدونيين من الألبان لا تتعلق بالطائفة المسيحية، لكن تتعلق بخوفهم على الشخصية والهوية المقدونية فهم يخافون أن يطغى الألبان بلغتهم وثقافتهم على الثقافة والشخصية المقدونية وهم يقولون إذا ارتضى الألبان العيش فى بلدنا فليستخدموا لغتنا ويتبعوا عاداتنا لأننا الآن فى مقدونيا ولن نسمح بأن تتحول مقدونيا إلى ألبانيا فالمقدونيون يقولون «الألبان لا يحبوننا فهم يريدون تحويل جميع الدول إلى جمهورية ألبانيا ونحن لسنا ملزمين بتعلم لغتهم، لكنهم ملزمون بتعلم المقدونية لأنهم يعيشون على أرضنا». قد تبين لنا العلاقة بين المسلمين الألبان وبين المقدونيين ما قاله لى نجم الدين وهو مسلم ألبانى يعيش فى سكوبيا عاصمة مقدونيا «ينكر المقدونيون أن اللغة الألبانية لغة رسمية فى مقدونيا مثلها مثل المقدونية، لكن بموجب اتفاق 2001 أصبحت رسمية، لكن المقدونيين لا يحبوننا ويخافون من انتشارنا وآخر الدلائل أن هناك مسجدا تاريخيا مهما فى مدينة سكوبيا هدم فى عهد تيتو يسمى برمالجى لا يريدوننا الآن أن نعيد بناءه، وقد سمعنا فى الأيام القليلة الماضية أنهم يريدون بناء كنيسة مكانه ولو حدث ذلك ستكون هناك مشكلة كبيرة. ويوجد بمقدونيا العديد من المساجد فمدينة بيتولا بها أكثر من 20 مسجدا مع أن نسبة المسلمين بها 20%، وهى نسبة كبيرة بالمقارنة لأن عدد الكنائس فى المدينة نفسها أقل من 20 كنيسة فى حين أن نسبة المسيحيين بالمدينة 80%، المفارقة أن فى مدينة بيتولا تم تحويل أحد المساجد التاريخية الضخمة إلى معرض للمقتنيات الفنية.