قال لها وهو يصوب فوهة المسدس إلي رأسها قاصداً تهويشها بينما هي فزعة تتقافز أمامه هلعاً: ما أنتي بتخافي أهه يا «عجلة». وأنا لا أستطيع أن أجزم إن كانت تلك اللفظة قيلت بازدراء معلن.. أم بغزل مبطن.. بكراهية واضحة أم بمزاح شعبي يتناسب ومفردات التعامل اللغوي الشائع في الطبقات الشعبية، فكثيراً ما تحمل عبارات السباب المقذع معاني الإعجاب والاستحسان والتفكه البذئ الذي يشي بالحب والتقدير. وإذا كان المذيع القاتل يبدو من خلال إجاباته عن أسئلة المحققين أو من خلال تفاصيل ما أورده في مذكراته التي كتبها في محبسه متأففاً من الفارق في المستوي الاجتماعي والثقافي والتعليمي، لاعناً حظه العاثر الذي أوقعه في براثن تلك المرأة - من وجهة نظرة - «البيئة» الدميمة، فإن ذلك لم يمنعه من الانسجام والاتساق مع سوقية حوار متبادل معها من المفترض أنه من خصائص انتمائها الطبقي.. وهو حوار يمكن في لحظة غضب وانفعال متصاعد أن يسفر عن جريمة قتل.. ويمكن في لحظة مزاح غليظ أن يسفر عن لقاء حميمي ساخن في شرفة منزلها يمتد من منتصف الليل حتي فجر اليوم التالي.. لا يوقظهما من الاستغراق في نشوته سوي اختلاط أصوات الباعة الجائلين في الشارع. إن «بوب» وهو اسم التدليل الذي أطلقته عليه وعلي محل «البن» الذي تملكه، بدأت علاقته بها - كما صرح - بمكالمة تليفونية تحتوي علي استهلال رائع من قاموس تلك المفردات السوقية: - مالك كده طري وني عامل زي (.......) تعجب «بوب» من جرأتها لكنه لم يستشعر الإهانة - أو بتعبير أدق قرر التغاضي عن تلك الإهانة كما سوف يتغاضي بعد ذلك عن أشكال من الإهانات، واستسلم لحصارها ومطارداتها له وتهديداتها المتكررة بفضحه وتشويه وجهه بماء النار إن لم يتزوجها فاضطر مرغماً إلي تزوجها خوفاً من ضياع مستقبله.. لكنه اشترط عليها أن يكون زواجهما سراً.. فهو في استعلائه الطبقي وبحكم عمله كمذيع معروف وبطبيعة مظهره الخارجي يتعفف عن الإعلان - وخاصة لأهله وذويه - عما يمكن أن يوصف به من تدنٍ في اختيار شريكة العمر.. كما اشترط عليها باعتباره «دون چوان» قراري لا يشق له غبار، له نزواته مع معجبات بوسامته مبهورات بشهرته أن توافق علي خيانته لها جهاراً نهاراً.. وتبارك تلك الخيانات بل وتفخر بها. لتكتشف أن معجباته هؤلاء لسن سوي ساقطات بائسات يصطادهن من الشارع مقابل بضعة جنيهات وكيلو من الكباب والكفتة وسيجارتين ملفوفتين وكأسين من البراندي الجهنمي الردئ. ويالها من زوجة غادرة تثير حنقه ودهشته واستنكاره حينما تحنث العهد «المقدس» وتنقض الاتفاق «النبيل» وتثور عليه عندما تضبطه مع إحداهن فتجرسه في الشارع والحي كله وتصر علي الطلاق. والمذيع السادر في هذا الاستعلاء الطبقي يرفض طبعاً أن يقوم بتوزيع «البن» علي الزبائن مستخدماً «التروسيكل» بل يرفض الجلوس في المحل.. لكنه لا يرفض ولا يتأفف ولا توجعه كرامته ولا ذاته المتورمة من أن تتولي هي الإنفاق علي بيت الزوجية وعليه وعلي مزاجه المتقلب المتنوع من الخمور والحشيش والبانجو.. كما يسر لها أنه في طفولته كان يتمني أن يقتني دراجة بخارية فتسرع بتحقيق أمنيته وتهديه موتوسيكلاً في عيد ميلاده.. تحضره له مزيناً بالورود والبالونات والشرائط الملونة.. ومحمولاً علي عربة نصف نقل فقد أصرت - في لمسة رقيقة مفعمة بالوله والهيام الرومانسي - أن يكون أول من يركبه فيكافئها - وأمام المدعوين من أهلها - بقبلة حارة ملتهبة في صيف قائظ لا تقل حرارة والتهاباً عن قبلة «حليم» «لنادية لطفي» في فيلم «أبي فوق الشجرة».. إنها إذن امرأة معيلة في مجتمع أصبحت أكثر من ربع سيداته ينفقن علي البيت والزوج.. وليس بالضرورة أن يكون ذلك الزوج «صنايعي أرزقي مدمن يضربها بوحشية ويبتزها كما في أفلام الميلودراما المصرية».. بل إنه في حالتنا يبدو بالنسبة لها وجيهاً برجوازياً.. إعلامياً يعمل في ذلك الجهاز السحري البراق الذي ولد عملاقاً. إن هذا الاستعلاء الطبقي الذي أظهره المتهم في التحقيقات أو المذكرات ما هو إلا قناع زائف يرتديه في مجتمع مظهري مضطرب، اختلطت فيه الشرائح الاجتماعية اختلاطاً كبيراً مشكلة نوعاً من «اللخبطة الطبقية» التي يحتار في تصنيفها وفرزها علماء الاجتماع أنفسهم.. أي أن هذا الادعاء أو تلك الفشخرة الطبقية التي يبديها ما هي إلا «عدة النصب» أو الفخ الذي نصبه لابتزازها ولترضي بأقل القليل مما يمكن أن يمنحه لها.. بصفة لقاءات حميمية مدعمة بسجائر ملفوفة وإحساس خادع بأنها في كنف رجل تزهو - أمام «أهل الحتة» - بطلعته البهية علي الشاشة الصغيرة. لكن مع هجره المتكرر لها وإهاناته المتخذة شكلاً من أشكال التعالي الأجوف والعنجهية الرعناء.. وفي المشهد الختامي وفي ذروة الاحتدام يكشف الصراع عن نفسه. فتعايره بأثمان البدل التي اشترتها له.. فتكون النهاية المأساوية.. طلقة في الرأس لتضاف جريمة جديدة إلي جرائم العنف الأسري التي باتت تمثل ظاهرة خطيرة تكشف عن تحول سلوكي قيمي في تركيبة الشخصية المصرية. إن انقلاب السلم القيمي في مجتمعنا يشمل تراجع الكثير من فضائل وشيم وأخلاقيات كنا نتشدق بتفردنا بها في مقابل سلوكيات بشعة تشي بانهيار وتداعي ثوابت وركائز ودعائم كنا نستند عليها، فإذا بها تصبح أطياف ذكريات قديمة تلاشت فحلت الفظاظة والغلظة والدمامة والسوقية والفجاجة والوقاحة والانتهازية والعدوانية وانعدام النخوة والشرف محل الحب والسماحة والخير والجمال والرهافة والرقي.. وأصبح العنف الأسري يلقي بظلاله الكريهة ودوافعه المريضة وتحالفاته الخطيرة ونتائجه البغيضة علي المجتمع.. لا يفرق ولا يختلف في مفهومه وشكله وأسبابه وتداعياته بين طبقة وأخري أو فئة اجتماعية بعينها وأخري.. أو مستوي ثقافي معين وغيره.