زوج ترد عليه زوجته أثناء مشاحنة زوجية فيطلق عليها النار، وسائق أتوبيس خاص يسخر منه زملاؤه فينهى حياتهم بمدفع رشاش هم وكل من حولهم، ومحاميان يتشاجران مع وكيل نيابة فتتحول الخناقة إلى أزمة سياسية بين المحامين والقضاة، ويضرب كل محامى مصر غير عابئين بمصالح الذين وكلوهم للدفاع عن حقوقهم، وزوجة كاهن أرثوذكسى تخرج من بيتها غاضبة من زوجها فيتجمع الشباب القبطى فى كاتدرائية العباسية ويتهمون المسلمين بخطفها ويطلقون هتافات تهدد بالفتنة الطائفية، ونقاش بين مواطن محترم وسائق ميكروباص ينتهى بدهس المواطن وقتله فى الحال، ومثقف فى التسعين من عمره يختلف مع زوجته الكاتبة الشهيرة حول أمر ما فيطلقها بعد أن قضيا عمرا من النضال معا. يأتى يوليو فتنهمر فى الصحف سيول من المقالات التى تتهم الثورة بأنها لم تكن سوى حركة أو انقلاب وتصف جمال عبد الناصر بأنه كان مستبدا وظالما، ومقالات أخرى تدافع عن الثورة وترفع ناصر إلى مكانة القديسين والأولياء الصالحين. ألا يحق لنا أن نشعر بالملل؟ كل شىء فى بلدنا يتكرر عشرات بل مئات المرات فلا نشعر بتغيير.. نفس الجرائم، التى تدل على هشاشة العلاقات الاجتماعية سواء بين الأزواج أو الإخوة أو الأعمام والأخوال، وبين زملاء العمل.. بين الرجل والمرأة، بين الأقباط والمسلمين بين سكان الأطراف وسكان المدن، بين مواطنى الريف والحضر. كيف انقسمنا على أنفسنا إلى هذا الحد؟ و ما نهاية هذه الثنائيات المصرية التى تنذر بتفتت المجتمع وتدل على أن المواطن المصرى لم يعد يطيق الآخر أيا كان؟ هل ارتفعت درجة حرارة الجو إلى حد أن يتحول المجتمع إلى مسرح للعبث، أم أنها أفلام الأكشن التى تملأ كل الفضائيات وكل أبطالها يطلقون الرصاص على بعضهم البعض أو يتصارعون باليابانى والصينى.. أم هى البطالة التى ارتفعت نسبتها إلى درجة مرعبة وسلمت شبابنا إلى شيطان الفراغ والإحباط يفعل بهم ما يشاء. كل شعوب العالم تعانى مما نعانى منه وربما بنسبة أعلى، ولكننا نحن المصريين لم نعتد على هذا الكم من العنف فيما بيننا.. فهل صرنا فى حاجة إلى عدو مشترك لكى نوجه إليه كل طاقات الغل واليأس والقرف؟! ولاحظوا أن العهد الذهبى الذى يجمع عليه المحللون بدأ من سنة 1919 عندما انطلقت أول موجة من الكفاح ضد الاستعمار البريطانى، واستمر طوال مواجهتنا للكيان الإسرائيلى بعد ثورة يوليو حتى حرب أكتوبر.. لنعد إذن إلى قتال الإسرائيليين لعلنا نسترجع روح أكتوبر العظيم ونسترد ما طفا على سطح حياتنا طوال الحرب من تسامح وتفاؤل وتعاون .. لقد انهارت الشخصية المصرية تماما طوال سنوات السلام المرتعش الهزيل الذى فرض علينا بعد معاهدة كامب ديفيد، ورغم كل ما أحرزناه من تقدم وتطور فى البنية الأساسية، خسرنا أنفسنا وفقدنا أهم مقومات شخصيتنا. وماذا يفيد الإنسان لو كسب العالم وخسر نفسه؟! عرفنا من قبل «تاكسى الغرام» و«تاكسى العاصمة» و «الليموزين» و«تاكسيات الأقاليم»، أما آخر «صرعة» فى سيارات الأجرة فهى «تاكسى الحريم».. حلم الحريم مازال يراود البعض من الرجال والنساء حتى بعد أن ألغى هذا النظام الجائر الذى كان متفشيا فى العصور المظلمة، وبعد أن هشمت المرأة الشرنقة التى حُجزت فيها قسرا لعدة قرون مازال هناك من يتمنى لو عادت إليها واختفت تماما حتى وإن تحولت إلى تاكسى بمبى. وقد ضحكت كثيرا وأنا أقرأ عن تخصيص تاكسى للنساء، أو بمعنى أصح تاكسى «حريمى» يحظر ركوبه على الرجال. ولكن الفكرة ليست خيالية فقد تحققت بالفعل. فبعد تخصيص عربة فى المترو للنساء بدأت فكرة تاكسى الحريم تراود البعض ممن لاحظوا غياب الحماية والأمان فى الشوارع العربية، وتفشى جريمة التحرش الجنسى بين الشباب التى انتقلت عدواها إلى سائقى التاكسى. ورحب دعاة التشدد الدينى بالفكرة بحجة أن اجتماع المرأة مع سائق التاكسى وحدهما سيفتح الباب للشيطان، وسيصبح خلوة غير شرعية. ومن هنا تفتقت الأذهان عن فكرة تخصيص سيارات أجرة ترفع عليها لافتة «للنساء فقط»! نفذت الفكرة أولا فى دولة الإمارات، ثم انتقلت الفكرة، مع اللون البمبى، إلى لبنان وتقود «تاكسى البنات» اللبنانى سائقات يرتدين زياً موحداً عبارة عن بنطلون أسود وقميص أبيض وربطة عنق بمبى.. ومن لبنان إلى الكويت حيث ظهر مع بداية العام الجديد أول تاكسى تقوده سيدة وكان لونه أيضا «بمبى». أما فى مصر فقد قرأت أن فكرة تاكسى السيدات خطرت لفتاة بريطانية تدعى حليمة جاءت من بلادها إلى القاهرة لدراسة اللغة العربية والقرآن.. وفوجئت حليمة بتلك الهواية الشاذة التى تتفشى بين الشباب المصرى، فما أن تركب الأوتوبيس أو تستقل المترو حتى تفاجأ بمن يتحرش بها بلا خجل، وإذا ما قصدت تاكسيا لتهرب من تلك الممارسات المخزية فوجئت بالسائق أيضا يتحرش بها باللفظ والنظرات والعبارات الخادشة للحياء! ذهبت حليمة الى شركة تاكسى العاصمة واقترحت عليهم تخصيص تاكسى تقوده نساء ولا يركبه الا النساء ..! لهذا الحد صارت سلوكيات بعض شبابنا مخجلة، لدرجة أن التحرش بالنساء فى مركبات وشوارع القاهرة صار موضوعا تلوكه الصحف الأجنبية، وتحذر السائحات بعضهن بعضا منه! وبدلا من مواجهة المشكلة وتطبيق قانون العقوبات فورا مع كل من يثبت ارتكابه لذلك الفعل الشائن، رحنا ندور حول الشجرة ونبحث عن وسائل للهرب.. ومع احترامى للنوايا الحسنة لمن ابتدعوا فكرة تاكسى «الحريم»، فإنى أراها فكرة غير عملية، وسرعان ما ستنسحب السائقات بعد أن يذقن الأمرين من فوضى وعشوائية الشوارع القاهرية، وبمرور الوقت سننسى، كعادتنا، أن البمبى للنساء فقط، ألم يقتحم العديد من الرجال عربة النساء فى المترو ودار بينهم وبين الراكبات جدل عنيف؟! وإذا كان التاكسى الحريمى سيفتح باب العمل لسبعين سائقة، وهو العدد الذى قررته شركة التاكسى مبدئيا، لكن من سيحمى السائقة من تحرش الآخرين بها لو تعطلت سيارتها، أو اقتحمها رجل مستعجل، أو مجرم يرتدى النقاب كما حدث كثيرا، أو زوج مع زوجته، فكيف ستتصرف؟ وأخيرا هل سيرد للمرأة اعتبارها وتحفظ كرامتها وتتم حمايتها من كل أنواع العنف إذا ما خُصصت لها سيارات أجرة تحرم على الرجال؟ ولو تمت الموافقة على ذلك الاقتراح «البمبى»، فسوف يتشجع البعض الآخر ويطالب بتخصيص قاعات مسرح حريمى وصالات سينما للنساء فقط، وما أدراك فقد تتفشى حكاية الحريم ويصبح لدينا مستشفيات للنساء ومصانع لا يدخلها الرجال، وحتى لا تصبح الحياة بمبى فى بمبى قد يتفتق ذهن عبقرى آخر ويقترح التنويع على اللون البمبى، فالقطارات الحريمى بمبى روز والأوتوبيسات الحريمى بمبى مسخسخ وهلم جرا. لا اعتراض على قيادة المرأة لسيارات الأجرة، ولكن فكرة تمييز النساء على الرجال مرفوضة.. وقيادة النساء للتاكسى وممارسة كل الأعمال الشريفة حق للمرأة تبعا لدستورنا العظيم الذى منحها كل ما للرجل من حقوق، فضلا عن أن قيادة تاكسى ليست بالأمر الجديد على المرأة المصرية، بل يعود إلى الستينيات وقت أن كانت تشجع على اقتحام جميع مجالات العمل الشريف.. ولكن السائقات كن، كعادة النساء المصريات، يتراجعن بعد فترة دون إبداء الأسباب! إن «بدعة» الحريمى ما هى إلا قبلة الحياة للتخلف الاجتماعى الذى تسعى إليه جماعات محظورة، فالغرض الأساسى هو الاستفراد بالسائقات وغسل أمخاخهن بالكلمات الناعمة والبقشيش السخى، ولا مانع من ترديد بعض الآيات القرآنية، فى غير موضعها، والكثير من الأحاديث النبوية الموضوعة والمحرفة لإغراء السائقة على الانضمام للجماعة، وترويج أفكارها بين النساء. إنها هواية التربح من تجنيد النساء اخترعها أولئك الذين لا يريدون لمصر أن تتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، ولا أستبعد أن يتم تجنيد مئات الآلاف من النساء عن طريق هذا «الحرملك البمبى» المتحرك، كما يحدث حاليا فى الأماكن المخصصة للنساء فى المساجد وفى عربات المترو المخصصة للنساء . المرأة فى مصر فى حاجة إلى إعادة الاعتبار لها، وتلقين المواطن المصرى منذ طفولته، أصول التعامل السليم معها، ومراعاة أنها مواطن كامل الأهلية لا يجوز الإساءة إليه دون عقاب.. المؤسف أن الرجال ليسوا وحدهم من يتغاضون عن حقوق النساء، بل ينضم اليهم بعض النساء أيضا، وهؤلاء فى حاجة إلى دروس احترام المرأة سواء كانت أمًا أو ابنة أو زوجة ابن أو عاملة تحت قيادتها، وحكايات «الهوانم» اللائى تسببن فى إصابة أو موت خادماتهن ليست بعيدة عن الأذهان.