السكتة الحضارية التي أصابت العرب نتيجة الاحتلال العثماني أثبتت أن ما يربطهم هو التاريخ والجغرافيا وليس الدين.. أعترف وأقر وأبصم بالعشرة بأن دماء «العروبية» مازالت تسري في عروقي، ومازلت علي قناعة تامة بأن وحدة الشعوب العربية ممكنة وواجبة وحتمية بل ولا خيار لهم غيرها من قبل جمعتهم دولة غير عربية لم يكن حكامها يتحدثون العربية وظلوا - إلي اليوم - علي ولائهم للغتهم وقوميتهم، ولكنهم وحدوا العرب وكل المسلمين تحت لواء خلافة وهمية، لم تكن أبدا علي مستوي اسمها، ولا سعت إلي أن تكون.. وما أن تحرر الأتراك من تلك السلطنة العثمانية حتي ألقوا عن كاهلهم كل ما كان يربطهم بالعرب.. ساروا علي درب الخلفاء المزعومين بالممحاة.. ألغوا الخلافة ومنعوا استخدام اللغة العربية وأغلقوا التكايا وسرحوا الدراويش وحظروا لبس العمامة ونفضوا أيديهم من كل ما كان يربطهم بالعرب وانتهت الدولة التي كان شعارها «خلافة إلي الأبد». توحد العرب تحت ألوية العثمانيين بالقوة والبطش ما يزيد علي أربعة قرون، أصيبوا بالسكتة الحضارية، ولم تقم لهم قائمة إلا بعد أن ضعفت الخلافة العثمانية وهزمت هزيمة ساحقة في الحرب العالمية الأولي، يومها فقط أدركوا أن ما يوحدهم هو الجغرافيا والتاريخ وليس الدين، فالدين كان دائماً مصدر شقاق وصراع، أما وحدة المكان والزمان، فلا تكون إلا لصالح الجميع. الوحدة العربية التي قد تبدو للبعض نكتة سخيفة، يجب أن تتحرر اليوم من الأسباب العاطفية، فلسنا في حاجة لأغان وشعارات وخطب رنانة، أو وحدة اندماجية تلغي هوية الشعوب وتسلبهم استقلالهم السياسي وتخضع الأقلية للأكثرية، بل نريدها وحدة تنسيق بين المصالح. هل أنا حالمة؟ ربما، ولم لا نحلم، لم لا نفكر بمنطق الحلم ..فعلها الأوروبيون قبلنا وكان حلمهم شبه مستحيل وطريقهم وعر تعترضه لغات ولهجات وطوائف دينية مختلفة وعداوات تاريخية وثأرات قومية ومصالح متناقضة بدأوا من الصفر عام 1951 وكانت الشعوب لا تزال تئن من جراح الحرب العالمية الثانية وحدتهم آلام الحرب والرغبة في إعادة بناء المدن التي دمرت، بدأوا ستًّا ثم صاروا تسعا ثم توالت الانضمامات وتشجعوا فقفزوا قفزة هائلة، ألغوا الحدود بين دول الاتحاد ووحدوا العملة وبعد معاهدة ماستريخت تسارعت الدول الأوروبية الأخري للانضمام إلي السوق الأوروبية المتحدة. لم يقرر الوحدة «زعماء» و«قادة» «ملهمون»، وإنما صاغها وطبخها علي نار هادئة خبراء في كل الأمور لم يتركوا شيئاً إلا وقتلوه بحثاً وتصميماً علي التعاون: الفلاحة، العمالة، الصيد، برلمان أوروبي، جواز سفر موحد بنك مركزي دستور أوروبي موحد تغلبوا علي الحساسيات والنعرات العرقية.. وتحولت المواطنة الأوروبية إلي حقيقة وواقع بعد أن كانت خيالاً وحلماً. أيهما أولاً.. الإصلاح أم الوحدة..؟ هذا هو السؤال الذي كنت أتمني أن يناقشه الاجتماع السنوي السابع لمنتدي الإصلاح العربي الذي عقد بمكتبة الإسكندرية خلال الفترة من 1 إلي 3 مارس الحالي تحت عنوان: «عالم يتشكل من جديد.. أين دور العرب؟» سؤال وجيه، ويجدر بنا أن نبحث عن إجابات شافية له ،العالم يتجه إلي خلق كيانات ضخمة متماسكة متكاملة بينما العرب ينقسمون علي أنفسهم، فأي إصلاح عربي يمكن أن يتم بينما العرب متشرذمون في كيانات إقليمية، أو متصارعون يتهددهم الانقسام داخل أكثر من دولة؟ إذن فلنجب أولاً عن السؤال الصعب: متي تبدأ الخطوات الجادة نحو الاتحاد العربي أو السوق العربية المشتركة؟ وما معني كلمة عرب إذا لم يوحدهم كيان سياسي اقتصادي واضح..؟ وكنت أود أن يكون عمرو موسي حاضراً المؤتمر كي يحدثنا عن تجاربه مع «الإخوة الأعداء»، في أروقة الجامعة العربية التي تحولت إلي سوق عكاظ - مثل كل لقاءاتنا العربية.. فنحن العرب توحدنا السلبيات ونتشابه في العديد منها، فجميعنا شعوب لا تقرأ ولا تهتم بالبحث العلمي وغير جادين في تطبيق الديمقراطية ونضع ألف خط أحمر تحت كلمة حرية.. حرية الفكر، حرية العقيدة، الحرية الشخصية.. كلمات تثير حساسيتنا.. تصيبنا بأرتيكاريا معدية. دول إسلامية عديدة أصبحت تتمتع بالديمقراطية، وتفسح مكاناً لنسائها ليشاركن في السياسة ويحكمن.. أما نحن العرب.. فمازال نفر منا يرددون عبارة «المرأة للبيت وللأولاد»! يرددونها كلما لاحت للمرأة فرصة للترقي أو إثبات الوجود. ونحن العرب لدينا موهبة فذة في قمع الحريات وقهر كل من تسول له نفسه الخروج عن قواعدنا. إذا عبرت عن رأيك بصراحة فأنت وقح أو متجاوز، وإذا طالبت بالحرية الشخصية فأنت منحل تدعو إلي الفوضي الأخلاقية، وإذا تجرأت وتحدثت في موضوع حرية العقيدة فنهارك سيصبح أسود من ليلك.. اختر بين اثنين إما ملحد، أو كافر.. هذه هي حريتك الوحيدة وإذا طالبت بالتسامح والتقارب مع الآخر فأنت عميل وخائن.. نحن العرب نقدس الماضي ونتجاهل الحاضر.. الماضي حي يسعي بيننا، بل يزاحمنا في معيشتنا، يغمي علي عيوننا وليس آذاننا.. بينما الحاضر في غرفة الإنعاش، لا وجود لنا علي الخريطة السكانية للعالم، اللهم إلا في نشرات الأخبار التي تتابع المعارك الإقليمية وحوادث الإرهاب والإضرابات والاعتصامات الفئوية. في الجلسة الأولي للمؤتمر قرأ د. حسام بدراوي قصيدة نزار قباني «متي تعلنون وفاة العرب؟» صفق الجميع.. كأنما العرب قد ماتوا موتاً إكلينيكياً، ولولا ضربات القلب لكانوا دفنوا من زمن. والحقيقة أننا سمعنا أجمل الكلام، ولكنه كلام معاد ومكرر قلناه وسمعناه عشرات المرات.. فلا جديد تحت سماء العرب.. قال المفكرون والعلماء العرب الكثير، قالوه بكلمات معبرة وعبارات بليغة، وأفاضوا وأسهبوا.. وصفقنا لبعضنا البعض، وأبدي كل منا إعجابه بما قاله الآخرون. وأثيرت عشرات الأسئلة: كيف تغير العرب إلي النقيض؟ الذين قضوا علي إمبراطوريتين وغزوا بلاد الهند والسند ووصلوا إلي حدود أوروبا؟ لماذا صاروا يخافون التغيير ويخشون المغامرة والمخاطرة؟! العرب الذين ترجموا لفلاسفة الإغريق وكان الفارابي يلقب بالمعلم الثاني (بعد أرسطو) وعنهم أخذت أوروبا الفلسفة والعلوم والطب والجبر والهندسة؟.. لماذا صاروا يرفضون الآخر ويتوجسون من كل فكر جديد؟! لدينا اليوم مفكرون ومبدعون عظماء ولكن الشقة بينهم وبين العامة شديدة الاتساع، فكيف نصل إلي قلوب الناس وعقولهم؟ كنا معزولين داخل حوائط قاعات المؤتمرات بمكتبة الإسكندرية، لا أحد من العامة يستمع إلينا ولا أعرف لماذا لم تذع القناة الخامسة كل جلسات المؤتمر كي يتابعها المشاهدون علي الهواء، لقد كان العرب القدماء يقيمون مهرجاناتهم في الأسواق العامة، في مربد أو عكاظ، ليسمعهم الناس ويشاركوا. وأخيراً لابد من الإشادة بمجهود العاملين بمكتبة الإسكندرية وعلي رأسهم بالطبع د. إسماعيل سراج، وما قلته حول الإحساس بالملل وتكرار الكلام لا يعني مطلقاً أن علينا أن نتوقف عن اللقاءات والكلام و«نكش» الدماغ العربية كي تعترف بالتفكير، تلك الفريضة الغائبة عن العالم الإسلامي اليوم، هذا هو دور المفكرين، أما من يسمع ومن ينفذ فتلك قضية أخري.