بانتصار أوربا على الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتنفيذ تقسيمات سايكس بيكو، ومع نشوء الدولة العربية الحديثة، بدأت حقبة سياسية عربية جديدة بعد انقطاع 11 قرناً. والنتيجة هي: نظم سياسية من أسوء ما عرفه التاريخ العربي الإسلامي، بل تاريخ الأمم، وهبوط للدولة العربية المعاصرة إلى أدنى درجات سلم التنمية والتعليم بين الأمم، ولم تكتمل تسعة عقود على الحقبة الجديدة حتى سقطت المنطقة العربية من جديد تحت الاحتلال الفارسي المتواطئ مع الاحتلال الأمريكي، وعصفت بها رياح الطائفية والشعوبية، ومزقت مجتمعاتها، وأعادتها إلى ما قبل عصر الدولة، بل إلى ما قبل عصر المجتمع. هذا ليس تحليلاً يخضع للخطأ والصواب، وإنما بيانات ميدانية. التحليل هو عند الإمعان في أسباب مسلسل انتكاسات امتد قرناً من الزمان وشغل حياة ثلاثة أجيال، ومحاولة التعرف على أسبابها. المأزق الذي تجد المنطقة العربية الواقعة جنوب الأناضول نفسها فيه، هو ذات المأزق الذي أحبطه الكيان العثماني مرات ومرات، والذي يمكن إختصاره ب: دولة مجاورة (إيران) تُغوي قوة خارجية غازية للتدخل الإقليمي، وخلخل استراتيجي إقليمي ناجم تستفيد منه الدولة الغاوية والغازية. كانت البرتغال وإسبانيا القوتين اللتين واجههما العثمانيون على الأرض العربية وفي مياهها، وبعد جلائهم إلى داخل الأناضول، واجه الأتراك من وراء حدودهم وتحت قبة برلمانهم الجيش الأمريكي المتواطئ مع إيران ومنعوه من غزو الجار العربي انطلاقاً من أرضهم. إن بين أيدي العرب اليوم بيانات ميدانية لأربعة قرون من التحالف مع الترك، وبيانات لقرن من الافتراق معهم، وهي فترات زمنية كافية لاستيفاء شروط الحكم على علاقة بين أمتين. ويمكن القول وبصيغة الجزم: إن التحالف العربي التركي هو قدر الأمة الذي صحح واقعاً جيوسياسياً كان قائماً في المشرق العربي قبل الفتح الإسلامي يوم كان المشرق حديقة خلفية لفارس، ليتجدد الواقع إثر ردة فارس في الانقلاب الصفوي 900ه 1500م ونزول الفرس من هضبتهم إلى سهول بلاد الرافدين حيث أطلال الأجداد الساسانيين. كما يمكن القول وبصيغة الجزم: إن الشخصيتين العربية والتركية شخصيتان متكاملتان، تحالفهما صمام أمن للمنطقة، تنتعش آمال الفرس في كل مرة يصيبه العطب، ويندفعون باتجاه السهول العربية يحدوهم الأمل في إعادة عقارب التاريخ السياسي والطائفي إلى الوراء. على أن اندفاعهم الراهن هو الأقرب على الإطلاق من معادلة ما قبل يوم ذي قار، وتقاسم المنطقة بين محوري الغساسنة (الرومي) والمناذرة (الفارسي)، الحاضر اليوم بلباس معسكري "الممانعة" الموالي لإيران، و"الاعتدال" الموالي لأمريكا. هذا الصمام ليس في اتجاه واحد لفائدة العرب، فدولة الأتراك يحيط بها من جهاتها الأربعة خصوم بينها وبينهم ملفات لا تسوّيها الابتسامات الديبلوماسية، ولا حليف لهم يتحد معهم في الجذور والمصير ويقبل "بالتكاملية" غير العرب. هكذا يُقرأ المشهد العربي التركي تحت عدسة الحضارة العربية الإسلامية، وهذه هي حتميات هذه القراءة. إقصاء البعد الديني والتاريخي عن المشهد يضعه تحت العدسة الأخرى الوحيدة، وهي عدسة العولمة، والحتميات حينئذ هي هي، فدولة الأتراك هي العملاق الاقتصادي رقم 16 عالمياً، و 6 أوربياً رغم فقره في الثروات الطبيعية، يجاوره جار يراوح في دركات الفشل الاقتصادي رغم ثرائه الطبيعي، ومن ثم فإن التكامل والتكتل بين عملاق اقتصادي وجار هش اقتصادي هو حتمية ومطلب يفرضه المنطق. رب سؤال: هل سوء الأداء السياسي المعاصر لِعَيب في الإنسان العربي، وقد كان مشعل هداية للبشرية، وأقام فردوس الدنيا في الأندلس ومن قبلها في الشام وبغداد وأسس علم الاجتماع؟ الجواب: لا، وإنما في مدى قدرة العربي بتكوينه الاجتماعي كما يقول ابن خلدون على إقامة وإدامة الدول والمجتمعات خارج إطار الإسلام، الذي يسمو بشخصيته إلى ارتفاعات تدنو من المثالية. فخصال الصحراء التي يحملها في صفاته الوراثية: الكرم حد التبذير، الشجاعة حد التهور، الطيبة حد السذاجة، الانتقام حد الهلاك، قول الصدق ولو على نفسه (كأبي سفيان مع هرقل)، القبول الذهني لكل ما ينسجم في ظاهره مع الفطرة. التفاعل الكيمياوي بين هذه الخصال لا يفرز دهاء وفراسة، ولا يبني شخصية سياسية متيقظة حسنة التدبير ما لم يدخل الإسلام عليها صاقلاً ومتمماً {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}، لذا ليس الدهاء من خصال العرب، وقد قيل دهاة العرب أربعة: معاوية، وعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزياد. هذه الشخصية لم تدخل نادي الأمم إلا بعد الإسلام ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس﴾،﴿وكذلك جعلناكم أمة وسطا﴾. الشخصية العربية المعاصرة التي تقهقرت إلى مرحلة المكارم غير التامة، بل إلى ما دونها، هي التي أمنت الأفاعي فآوتها فلدغتها، كما مع الخميني، والحوثي، وحركة أمل وحزب الله في لبنان، والنصيريين في سوريا، وهي التي بددت مليارات النفط بسَفه منقطع النظير، وأضاعت قرناً من الزمان في نزاعات بسوسية. لا جرم أن هذه الخصال هي خصال شخصية ما قبل الأمة بكل هفواتها، وفشلها السياسي المعاصر تأكيد ميداني على النظرية الخلدونية. هل هذا قدح بشخصية العربي؟ الجواب لا، بل هو امتداح، فمكارم الأخلاق (غير التامة)، التي اتخذت منها الرسالة الخاتمة قاعدة للشخصية المسلمة إنما وجدت عند العرب دون غيرهم، ومن أجلها اختارهم الله تعالى من دون أهل الأرض لحمل الرسالة. إن من طبائع الأمم حينما تداعى الخصوم، وتتعقد الأزمات، ويبطئ الحل، أنها تراجع دفاترها القديمة، بحثاً عن حقب تتشابه فيها المعطيات والمعالم، وتنقل ملفاتها من أيدي الساسة إلى أيدي الحكماء، فتحدد مناط العلة خارج دائرة الانتهازية والعاطفة. ومما دونه التاريخ عن القرن الرابع الهجري، الذي يكاد يكون قرننا إعادة إنتاج له بمعطياته وأزماته ورموزه، كانت هذه الشهادات: • "قيّضت العناية والحكمة الإلهية حكاماً ومدافعين جدد من القبائل التركية، لنفخ الروح في الإسلام الذي كان يحتضر، وإعادة الوحدة إلى صفوف المسلمين". ابن خلدون. • "لقد استراح المسلمون، بل استراح العالم". المؤرخ الجويني. (تعليقاً على قيام السلطان السلجوقي محمد بن ملكشاه بالقضاء على الحشاشين في فارس في القرن الخامس الهجري). • "كان مجيء السلاجقة رحمة للمسلمين". حسين مؤنس، المفكر المصري المعاصر. تتمة هذه الشهادات هي: لن تنجو الشخصية العربية من ذئاب السياسة وهي قاصية من دون رفيق درب تأمنه على نفسها وهذا الرفيق هم الأتراك.