يجب استثمار هذا النجاح والتوحد حول العلم.. ومن المهم البحث عن مشروع وطنى يلتف حوله الناس .. هذه نوعية من الشعارات التى نرفعها فى بعض المناسبات منذ عشرات السنين، الغريب أن تلك الدعوة ارتبطت أيضا بالانتصارات الكروية، لذا كان من اللافت أن يطلق بعض السياسيين هذا الشعار عام 2006 بعد فوز منتخب مصر بأمم أفريقيا، وأيضا عام 2008، وتجددت الدعوة عام 2010، ومن الملاحظ أن الدعوة ارتبطت أيضا بعدد من الظواهر مثل تحركات الناس فى الشوارع من خلال طوابير السيارات التى سدت الطرق تماما، وانتشار ظاهرة رفع العلم فى الكثير من الأماكن والهتافات المجمعة. ولاشك أن ارتباط الدعوة بالانتصارات الكروية بالذات أمر يعود لعدد من العوامل منها أن كرة القدم صاحبة شعبية طاغية، بالتالى انعكاس الفرحة عادة ما يصيب الملايين من الناس مرة واحدة، وفى وقت محدد عادة ما يبدأ بعد إطلاق صافرة حكم النهاية، وإعلان فوز الفراعنة، وهذه الظاهرة ازدادت فى غياب الانتصارات العسكرية، والتى من الصعب أن ندركها أو نرصدها بسهولة لصعوبة التغيرات وقوة دوافع منعها. إذاً الفراغ الشديد الذى يعيشه المواطن المصرى وفى ظل الاختلاف الواضح بين الجميع بشأن كل الموجودات التى تحيط بنا ونظرة الناس بريبة تجاه أى إنجاز حكومى فى أى موقع ومهما كان حجمه، الأمر الذى دفع بالناس لعدم المراهنة على إنجاز تنموى مهما كان حجمه أو نتائجه، ولاشك أن انقسام الصحافة المصرية حول ما يحدث حولنا من عمل وإنجاز ونتائج هذا الانقسام انتقل بالفعل إلى الناس فباتوا منقسمين أيضا. من هنا لم يحاول البعض منا أو من النخبة السياسية فى مصر العمل على تسويق هذا الجانب بدعوة الناس للاحتفال بما تحقق. إذاً نحن منقسمون تجاه أى مشروع أو هدف مهما كان من يقف وراءه أو يغذيه فى نفس الوقت، وعلى نقيض آخر أجد أن بطولات كرة القدم التى يفوز بها المنتخب الوطنى الأول لكرة القدم أو أى فريق رياضى آخر هو إنجاز واضح لا انقسام حوله. يتابع الناس ميلاده لحظة بلحظة، وهم هنا يشعرون بأنهم مشاركون فيه وليسوا شهودا عليه، الأمر الذى يجعل لواقع هذا النصر أثرا كبيرا فى صناعة رد فعل حماسى وتلقائى، وجميل وهو ما نطلق عليه حالة فرحة.. من خلال هذه الحالة كان من السهل رصد حالة الرضا على وجوه كل شرائح المجتمع، والغريب أن الأعلام فى مصر ازدادت حالات رفعها وتسابق الصغار والكبار على اقتناء علم مصر والتلويح به من خلال السيارات أو رفعه على أبواب ونوافذ المنازل، أيضا تحول شباب مصر بعد هذا النصر إلى تغطية مساحات مناسبة من جسم السيارات بأعلام مصر بدلا من علم أمريكا الذي كان بعض الشباب المصرى يزين سيارته به أو يعلقه على الأكتاف أو لفه حول الرقبة. الفرح ورفع العلم وحالة الرضا التى نعيشها بعد تحقيق أى انتصار رياضى كبير أعتقد أنها ترجع إلى حالة مزاجية عامة لا تقتصر على مصر فقط، بل امتدت إلى الجزائر بعد تأهل فريقها إلى نهائيات مونديال جنوب أفريقيا 2010، وقد ظهرت نفس دعوة النخبة هناك بضرورة استغلال التفاف الشعب الجزائرى حول فريقه وقيامه بالخروج فى مسيرات رافعين علم بلدهم، وقتها طلع علينا أحد الوزراء داعيا لاستثمار هذا التوهج الشعبى حول مشروع وطنى يخدم الجزائر. فى أوروبا أيضا الجماهير تخرج فى الشوارع احتفالا بالانتصارات الكروية. ولكن الفرق أن النخبة السياسية هناك لا تحاول استثمار هذا الاستنفار الشعبى لتمرير مشروع وطنى أو إطلاقه لأنهم على درجة من الوعى وعلى يقين بأن هذا المشهد هو بمثابة رد فعل طبيعى للانتصارات الكروية، وهو مشهد «هش» لا يستمر طويلا، ويفتقر للنفس الطويل، ثم هو بمثابة ترفيه عن النفس لا أكثر ولا أقل، إذ لا يمكن بأى حال من الأحوال وضع أى تصور لاستخدام رد فعل الشارع المصرى أو العربى أو حتى العالمى الناتج عن طقوس النصر والانتصارات الكروية بالذات عن طريق تمرير رسائل سياسية محددة، وبالتالى لا أعتقد أن هناك فرصة لنجاح عملية إطلاق مشروع وطنى من الممكن أن ننجذب خلفه خاصة لو أن هذا اعتمد بدرجة كبيرة على رد فعل الناس وتعبير الفرحة فقط. ولو كان التوجه السياسى لاستغلال طوابير «بيب بيب مصر» من الممكن أن يحدث لتغير شكل الحياة تماما فى دول حققت إنجازات كروية بحجم كأس العالم أو الدورة الأوليمبية أو غيرهما، ولو كانت لكرة القدم أى ميزة تفضيلية فى استخدامها كسلاح تواصل مع الناس من قبل الحكومات لربما تغير شكل الحياة فى الدول الكروية الكبرى، لكن من اللافت أن حالة الإفلاس التى تعيشها بعض الشعوب فى دول العالم الثالث واتفاق الحكومات فى تسويق ما تقدمه أو تقوم به بين الناس هو بدون شك ما يجعلها تبحث عن أى موقف أو لحظة مهما كان صانعها لربما تجد روافد لتوصيل رسالتها أو صوتها للناس. كرة القدم ونتائجها بالنسبة لمصر والعرب بالفعل قصة مهمة، لأن من الملاحظ أن الجيل الجديد من الشباب غير مهتم أو مدرك لما يدور حوله ولا يبالى بكون حكومتنا نجحت فى بناء مصنع أو حل أزمة غذاء أو تعظيم صادرات أو غيرها، لأنه هنا يعتقد أن تلك أعمال حكومية روتينية ولا داعى للتصفيق لها، ثم إنه غير مشارك فيها وأيضا متشكك نحوها، أما نتائج كرة القدم فهو يشعر بأنه مشارك فيها على الأقل عندما يطرح تصوره بحرية تامة بشأن رأيه فى تشكيل الفريق وخطة اللعب، ومستوى الحكم والخصم والتوقع، وهو هنا يعلن رأيه قبل اللعب وأثناء وبعد اللعب، وحبذا لو كان هناك تطابق بين رأيه وما حدث فهو هنا سوف يعلن أو يشعر بأن هذه النتيجة قد شارك فيها، وهذه الكأس له حقوق فيها، هذا ما حدث.. معظم الذين خرجوا للشارع فى مصر أو الجزائر أو قبلها فى السعودية والمغرب وتونس ونيجيريا وكوت دى فوار فى أوقات الفرحة الكروية هم يعتقدون أنهم أصحاب الفرح، لذا هم يوزعون القبلات فيما بينهم. وينفعلون تماما وبعنف مع كل كرة أو هجمة أو هدف.. والحكاية كلها محصورة فى سيناريو ناعم صناعة كروية يحاول جزء من الناس التفاعل معه، وجزء أكبر رأى ضرورة المشاركة فى طقوس النصر. ظاهرة جديدة أيضا أعتقد أنها ارتبطت بالمشهد، وهى قيام الجماهير المصرية فى السعودية والكويت وقطر والأردن بنسخ طقوس النصر الكروى والخروج فى أفواج بالسيارات للاحتفال بما حققه الفراعنة من انتصار. ومن المهم ملاحظة مشاركة جماهير تلك الدول للمصريين فى فرحتهم والخروج معهم فى قوافل السيارات حاملين أعلام بلدهم بجانب العلم المصرى.. نفس هذا المشهد رصدته بوضوح فى شارع جامعة الدول العربية وعباس العقاد والكوربة حيث شاهدت بعض الإخوة من السعودية رافعين علم السعودية وسط الاحتفالات المصرية، هذا المشهد يؤكد التوافق المزاجى بين الشعوب العربية أو دول العالم الثالث، وأيضا يؤكد أن الفلسفة هنا محصورة فى ماتش كورة، وحكم، ولاعب ونتيجة وفرحة أراها مؤقتة.. لو كنا وغيرنا بالفعل لدينا أى بادرة لاستثمار تلك النجاحات الكروية فى أوجه الحياة الأخرى لنفذنا ذلك منذ 2006 بعد فوز منتخب الفراعنة بنفس الكأس أو بعد 2008، ولكن الحالة توقفت عند الفوز بالبطولة، الإعلام وجد ضالته فيها، وأخذ يستغلها لصالح مساحات هواء يرى أن أفضل استخدام لها هو تغطية الحدث بأساليب غير نمطية مثل الاستعانة بالفنانين لشرح أسباب الظاهرة والتعليق والرقص والغناء حتى كبار السياسيين وجدوها فرصة لتبادل البرقيات، خاصة أن نجوم كرة القدم هم بالفعل كانوا الأكثر استحواذا على حركة الشاشة والكاميرات التليفزيونية والصحف.. لقد أحتلوها لمدة 72 ساعة تماما ثم بدأت قبضتهم عليها تقل فيما عدا البرامج الرياضية. على العموم سنظل نطلق دعوة ضرورة استغلال توحيد الشارع المصرى ورفع العلم فى مشروع وطنى وسوف نظل نبحث عنه حتى 2012، ولكن الحقيقة أنه لا جهة فى مصر قادرة على تحقيق هذا الشعار والدليل أننا مازلنا نبحث عن مشروع يجمع الطاقات والعقول وله صفة الاستمرارية لجذب الشباب المصرى حوله، ورصدنا رقما ماليا لصاحب المشروع. تلك الدعوة عاصرت إطلاقها منذ عام 1992 على يد د. عبد المنعم عمارة.. وحتى الآن.. مازال البحث جاريا عن هذا المشروع، لدرجة أن بعض الوزراء فى بلدى وعندما لم يجدوا هذا المشروع قالوا لنا: لنجعل من التعليم مشروعا وطنيا. قال آخر أو من الصحة أو تنظيم الأسرة.. ومازال البحث جاريا!!؟