بدأت الذكريات مع جمال عبدالناصر تأخذ مسارا جديدا بعد أن أصبح مجلس قيادة الثورة يحمل المسئولية فى مصر. وبعد أسابيع من انتصار الثورة وافق جمال عبدالناصر على اقتراح تقدمت به إليه لإصدار مجلة تكون لسان حال الثورة ومعبرة عن أفكارها وأهدافها.. وكان ذلك يوم أول سبتمبر 1952 وصدرت مجلة «التحرير» فى يوم 16 من نفس الشهر.. وبعد ثلاثة شهور صدر قرار بتعيين البكباشى ثروت عكاشة أحد الضباط الأحرار فى سلاح الفرسان رئيسا لتحرير مجلة «التحرير» بدلا منى، حيث كنت قد بدأت الدراسة فى الدفعة الثالثة عشرة فى كلية أركان حرب. وبعد ستة شهور فى يناير 1953 قام بعض ضباط سلاح المدفعية بحركة مضادة لمجلس قيادة الثورة، الأمر الذى دفع إلى إصدار أمر باعتقالهم.. وفوجئت يوما باستدعائى من كلية أركان الحرب إلى القيادة ومنها إلى سجن الأجانب الذى امتلأ بضباط المدفعية، وعدد من السياسيين السابقين.. وأمضيت 45 يوما فى سجن الأجانب فى حبس انفرادى دون تحقيق.. ومن الطريف أن المحقق البكباشى زكريا محيى الدين قال لى أنهم احتفظوا بى هذه المدة لاحتمال وجود صلة لى مع أحد المتهمين! وفى اليوم التالى للإفراج عنى مباشرة استدعيت لمقابلة جمال عبدالناصر فى مكتبه بكوبرى القبة الذى أكد لى عدم وجود صلة بينه وبين أمر اعتقالى وأن السبب يرجع إلى تقرير كتبه أحد الطيارين واسمه عصام خليل الذى كلف بمراقبة منزلى فى ميدان طوسون بالزمالك.. فكتب تقريرا عن ضابط كان يسكن معى فى نفس المنزل ويمضى مع أصدقائه سهرات تمتد أحيانا لما بعد منتصف الليل ولم تكن لى به صلة معرفة أو صداقة.. وطلب منى جمال عبدالناصر العودة للكتابة فى مجلة «التحرير».. واستجبت لرأيه لشعورى بصدق حديثه. وعندما تخرجت فى كلية أركان الحرب وعملت فى إدارة التعبئة أصدرت مجلة ثقافية شهرية كان اسمها «الهدف» وكان مجلس قيادة الثورة قد قرر تحديد فترة انتقالية مدتها ثلاث سنوات يتحمل فيها مسئولية قيادة الدولة.. على أن تكون نهايتها محددة لموقف الضباط الأحرار.. فإما الاستمرار فى القوات المسلحة دون اشتغال بالسياسة أو الخروج منها للحياة العامة.. وهو ما فضلته وأصدر جمال عبدالناصر قرارا بتعيينى فى جريدة «الجمهورية».. وبعد شهور أصدر الأستاذ يحيى حقى مدير مصلحة الفنون قرارا بتعيينى مديرا للمسرح القومى فى وقت كان فيه الأستاذ فتحى رضوان وزيرا للإرشاد. واستمر عملى مديرا للمسرح القومى ثم مؤسسة فنون المسرح والموسيقى 12 عاما انتقلت بعدها إلى «روزاليوسف» رئيسا لتحريرها بقرار من جمال عبدالناصر. وتصادف بعد فترة اشتعال ثورة 21 أكتوبر 1964 فى السودان، وسفرى إلى الخرطوم، حيث قامت مظاهرات شعبية توجهت للسفارة المصرية وحرقت العلم المصرى احتجاجا على مقالات لبعض الكتاب هاجموا فيها الثورة التى انقضت على اللواء إبراهيم عبود.. وعندما أبلغت جمال عبدالناصر طلب إعادة رفع العلم المصرى لأن هذه المقالات لم تكن تعبر عن رأى النظام فى مصر.. وبعد أيام كان رئيس وزراء السودان سر الختم خليفة فى القاهرة يقابل جمال عبدالناصر وطويت صفحة هذه الأزمة. وفى السودان أيضا وبعد سنوات كلفنى جمال عبدالناصر بالذهاب إلى الخرطوم ومقابلة جعفر نميرى وكبير القضاة بابكر عوض الله قادة الانقلاب الذى حدث يوم 25 مايو ,.1969 وكان جمال عبدالناصر حريصا دائما على أن تكون هناك علاقة وطيدة بين النظام فى القاهرة والنظام فى الخرطوم. وبعد شهور كنت فى زيارة إلى باريس التقيت فيها مع عدد من الأصدقاء والزملاء اليهود المصريين الذين خرجوا من مصر إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا ورفضوا الهجرة إلى إسرائيل شعورا بوطنيتهم المصرية.. وهناك علمت منهم أن هناك أنصارا للسلام فى إسرائيل يعارضون سياسة الحكومة الإسرائيلية التى كانت تنفذ سياسة الصهيونية التوسعية وترأسها جولدا مائير. وخلال هذه الفترة طلب منى الصديق «أريك رولو» المصرى الجنسية الذى كان رئيسا لقسم الشرق الأوسط فى صحيفة لوموند ثم سفيرا لفرنسا فى تونس وتركيا مقابلة رئيس المجلس اليهودى العالمى ناحوم جولدمان.. ووافقت دون أخذ إذن مسبق من جمال عبدالناصر.. ووجدته يطلب منى تذكرة جمال عبدالناصر بطلب سبق أن تقدم به للماريشال تيتو لزيارة مصر. وفى يوم سفرى من باريس إلى القاهرة فوجئت بالصحف الفرنسية تعلن رفض جولدا مائير رئيسة الوزراء الموافقة على طلب ناحوم جولدمان رئيس المجلس اليهودى العالمى.. وفى اليوم التالى مباشرة صدرت الصحف تحمل مانشيتات تقول إن مظاهرات قد اشتعلت فى إسرائيل تهتف «إلى القاهرة يا جولدمان إلى المطبخ يا جولدا». وكنت قد كتبت مذكرة رفعتها إلى جمال عبدالناصر فور وصولى للقاهرة، أوضح له فيها الأسباب التى دفعتنى لهذه المقابلة.. وتسلمتها بعد تأشيرة منه تطلب منى الاستمرار فى العلاقة مع جولدمان، وكان جمال عبدالناصر يهدف بذلك إلى خلق ضغط على الحكومة الإسرائيلية من جانب أنصار السلام.. إلى جانب الضغط الذى تقوم به القوات المسلحة المصرية فى حرب الاستنزاف التى استمرت ثلاث سنوات وشهرين كانت تتكبد فيها إسرائيل خسائر شبه يومية. وعندما وصلت قواتنا المسلحة إلى مرحلة القدرة على اقتحام قناة السويس، ووضعت الخطة ,200 قبل جمال عبدالناصر مبادرة روجرز وزير خارجية أمريكا التى أعطت هدنة بعد القتال مدتها ثلاثة شهور نقل فيها جمال عبدالناصر الصواريخ إلى الضفة الغربية حماية لقوات اقتحام قناة السويس. وفى هذه الفترة نشب قتال بين الحكومة الأردنية وقوات منظمة التحرير الفلسطينية وبادر جمال عبدالناصر إلى عقد مؤتمر قمة عربى لوقف هذا القتال.. وما أن انتهى المؤتمر وبعد توديع جمال عبدالناصر لأمير الكويت آخر الملوك المسافرين من القاهرة.. لحق به القدر وانتقل إلى رحاب الله يوم 28 سبتمبر .1970 رحم الله جمال عبدالناصر.