انفجرت الحوارات الساخنة بمجرد أن وصل إلى القاهرة.. قادما من السودان الأسبوع الماضى وفد يمثل اللجنةالأمريكية المعنية بالحريات الدينية فى العالم.. وذلك فى إطار جولتها السنوية التى تقوم خلالها بزيارة العديد من دول العالم بهدف الوقوف على أحوال الحريات الدينية أو العقائدية فى تلك الدول..وعلى الرغم من أن هذه اللجنة كانت قد زارت مصر من قبل خمس مرات إلا أن زيارتها الأخيرة والتى تزامنت مع أحداث نجع حمادى أثارت عاصفة من التساؤلات حول طبيعة عملها الذى رأى البعض أنه يدخل فى مجال السيادة الوطنية. ووصل الأمر إلى حد تبادل الاتهامات حول من يحرض مثل هذه اللجنة علي التدخل فى الشأن المصرى.. واختلفت الآراء حول التعامل مع أعضاء هذه اللجنة أو تجاهلهم.. ومازالت الحوارات الساخنة مستمرة. وجاءت التصريحات المختصرة التى صدرت عن أعضاء اللجنة الأمريكية أو من المسئولين فى مصر أو من الشخصيات التى التقت بهم لتثير المزيد من الغموض وتطرح المزيد من علامات الاستفهام.. وفى محاولة للفهم نستعرض بعضها.. أحمد كمال أبوالمجد نائب رئيس المجلس القومى - المصرى - لحقوق الإنسان قال: «موعد زيارة اللجنة الأمريكية كان مقررا قبل حادث نجع حمادى.. لكن الحادث فرض نفسه على الحوار.. وكانت اللجنة تحمل عددا من الأفكار التى تتهم الحكومة المصرية بتمييع مشكلة الأقباط والحريات.. لذلك أوضحت لهم أن هذه الفكرة غير صحيحة وأن الوضع فى مصر مختلف.. فالأزمة بها بعد طائفى وصل للقاعدة الشعبية.. وتصحيح الوضع فى مصر سيحتاج إلى فترة زمنية طويلة.. وعلق أبو المجد على ما طرحه بعض أقباط المهجر من دعوات لفرض الوصاية على مصر قائلا: هذا هوس ولا يعبر عن التيار الغالب بين الأقباط.. ودعا فتحى سرور رئيس مجلس الشعب إلى ضرورة الاستماع لمطالب الأقباط فى إطار سيادة القانون ومبدأ المواطنة.. وأكد صفوت الشريف على أهمية البعد الثقافى فى المحنة الراهنة.. وأعلن أننا نرفض الاتجار بالفتنة الطائفية والاستقواء بالخارج ولجان الوصاية وقال بطرس غالى رئيس المجلس القومى لحقوق الإنسان أن الوضع خطير أكثر مما نتصور لتكرار حوادث العنف الطائفى وانتشار عدوى التشدد الدينى والطائفى إلى شرائح المجتمع.. وتضمن تقرير المجلس القومى لحقوق الإنسان العديد من التوصيات اللازمة لمواجهة الفتنة الطائفية منها ضرورة الإسراع بإصدار القانون الموحد لدور العبادة.. وإجراء دراسات اجتماعية واقتصادية للأسباب الكامنة التى أدت إلى تكرار حوادث الفتنة رغم صدور قانون الوحدة الوطنية عام 1972.. والمطالبة بإصدار تشريع يعاقب أى مسئول تثبت فى حقه جريمة التمييز.. وطالب التقرير بمواجهة الكتب التى تعمق بذور التفرقة والاختلاف والرقابة على المناهج المدرسية وحماية حرية الاعتقاد ومطالبة الوعاظ بالابتعاد عن الحط من شأن أى دين وزيادة تمثيل الأقباط فى الحياة السياسية.. وبعد أيام من وصول اللجنة أعلن أحمد كمال أبوالمجد أنه طلب من عدد من مؤسسات الدولة تزويد اللجنة الأمريكية بمعلومات متكاملة عن قضايا البهائيين والأقباط والطالبات المنقبات وأحداث قرية الشوانية بسوهاج والخاصة بالبهائيين وتحقيقات النيابة بها.. والإجراءات التى اتخذتها الدولة لمعالجة الأحداث وذلك لوجود تحامل على مصر من بعض أعضاء اللجنة الأمريكية لعدم دقة المعلومات المتوافرة لديهم أو نقصها خاصة أحداث نجع حمادى.. والتقى عددا من النشطاء المصريين باللجنة الأمريكية التى طرح أعضاؤها العديد من التساؤلات عليهم واستمعوا لآرائهم وتناولت تلك التساؤلات العديد من الموضوعات منها خانة الديانة في بطاقة الرقم القومى وأولويات مواجهة الفتنة الطائفية فى مصر والعلاقات المسيحية المسيحية مثل علاقة الطائفة الإنجيلية بالكنيسة الأرثوذكسية والخلافات التى ظهرت بينهما مؤخرا، وقدم المستشار رمسيس النجار محامى البابا شنودة صورا من القضايا التى تنظرها المحاكم والخاصة بالأقباط وقال لهم وفقا لتصريحه أنه فى بعض الحالات تصدر أحكام قضائية بطريقة تمنع تنفيذها مثلما حدث مع أحكام المستشار سيد نوفل عندما وضع بها ما يعرقل تنفيذها. والخطير هنا أن رئيس اللجنة التى زارت مصر مؤخرا وهو ليوناردو ليو كان قد صرح الأسبوع الماضى بأن اللجنة مهتمة بوضع الحريات الدينية فى 72 دولة منها مصر مشيرا إلى أن مصر تدخل ضمن أخطر ست دول لا تحترم حرية العقيدة مع الصين وإيران والسعودية وميانمار.. وأشار ليوناردو إلى أن العقيدة لا تعنى بالنسبة لهم الديانتين المسيحية والإسلامية فى مصر.. وإنما أيضا مدى حرية ممارسة المذاهب والطوائف المختلفة فى الديانة الواحدة مثل العلاقة بين الشيعة والسنة والبهائيين والقرآنيين.. معتبرا أن هناك بعدا سياسيا يدخل فى إطار القيود على بعض الجماعات السياسية ومنها جماعة الإخوان المسلمين فى مصر. المثير أن كل التصريحات السابقة وغيرها والتى تناولت نشاط اللجنة الأمريكية فى مصر لا توضح حقيقة ما يحدث بل يطرح المزيد من علامات الاستفهام.. لذلك سألنا عددا من الخبراء فاعتذر البعض لسبب أو لآخر وأجاب البعض وجمعنا أكثر من مفاجأة.. د. عادل سليمان المدير التنفيذى للمركز الدولى للدراسات المستقبلية قال.. فى ظل العولمة وثورتى الاتصالات والمعلومات لم يعد العالم يعيش فى قرية واحدة بل أصبح يعيش فى مكان واحد بلا فواصل لدرجة أن قيام طالب أمريكى بإطلاق النار عشوائيا فى الجامعة على زملائه.. بسرعة يتم تصوير وقائع الحادث ولو بكاميرا موبايل ويتم نقلها عبر الإنترنت والقنوات الفضائية وفى لحظات يتابع العالم كله مشاهد الحادث.. وفى ظل النظام الدولى فى حالته الراهنة حيث تسعى الولاياتالمتحدة إلى قيادته وترى أنها يجب أن تهتم بما يجرى فى أنحاء العالم فى مجالات متنوعة منها الحريات الدينية.. المهم هنا أن نؤكد للعالم أن المسيحيين فى مصر ليسوا أقلية بل هم جزء من نسيج المجتمع المصرى وبالتالى فإن وجود بعض المشاكل التى قد يعانى منها بعض المسيحيين أو بعض المسلمين يمكن حلها داخليا فى إطار القوانين المصرية ومبادئ المواطنة وحقوق الإنسان.. أما الاستعانة بالخارج فهى مرفوضة من الجميع والكنيسة المصرية ترفضها.. ولكن البعض يسعى لإكساب أى مشكلة داخلية طابعا طائفيا لتحقيق بعض المصالح الضيقة وهو ما يتنافى مع مفاهيم الوطنية المصرية.. فمثلا هناك بعض الصراعات بين قبائل سيناء وحدث قتل وتعد على حقوق الآخرين ولم نسمع أن أى قبيلة اعتبرت ذلك تمييزا ضدها.. وإذا كانت الحكومة المصرية الحالية لا يوجد بها وزير صعيدى.. فهل يعتبر بعض الصعايدة فى ذلك تمييزا ضدهم ويستقوون بالخارج.. ونفاجأ بلجنة من ولايات الجنوب الأمريكى تزور مصر للبحث فى مشاكل الصعايدة.. هذا كلام فارغ وغير منطقى ومرفوض. وعندما سألنا د. أيمن سلامة أستاذ القانون الدولى عن مدى تداخل نشاط اللجنة الأمريكية بحدود السيادة المصرية.. وهل من الواجب التعامل مع أعضائها أم تجاهلهم؟ قال: اللجنة المذكورة هى لجنة وطنية أمريكية تقدم تقاريرها وتوصياتها للإدارة الأمريكية والكونجرس والرئيس أوباما.. وبالتالى لا علاقة لها بالقانون الدولى.. وهو القانون الذى حدد الهيئة والمجلس المفوض قانونا من قبل منظمة الأممالمتحدة فى مجلس حقوق الإنسان ومقره جنيف.. وهو هيئة مستقلة فى المنظمة الدولية.. وهو المجلس الذى أرسل لجنة دولية لتقصى الحقائق فى الانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطينى أثناء حرب غزة الأخيرة.. وأضاف: من المهم أن نشير هنا إلى أنه ما من أحد داخل مصر أو خارجها يستطيع أن يزعم أن هناك اضطهادا دينيا أو طائفيا أو سياسيا أو مذهبيا أيا كان فى مصر.. وللعلم... مصر قدمت منذ أسابيع قليلة لمجلس حقوق الإنسان تقريرها فى هذا الشأن وعرضه د. مفيد شهاب وزير الدولة للشئون القانونية.. وعموما لا يمكن أن تقارن حالة الحريات العامة والحقوق الأساسية للإنسان فى مصر بأى دولة أخرى فى الشرق الأوسط وذلك نتيجة التقدم والتطور والمراعاة الكبيرة لحقوق الإنسان فى مصر.. أما بالنسبة للتدخل في الشئون الداخلية للدول هناك مبدأ قانوني راسخ هو مبدأ لتدخل الإنساني في داخل الدول من قبل الجماعة الدولية ولا يتم إعمال هذا المبدأ إلا بقيود حددها القانون الدولي أهمها وقوع انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان داخل دولة ما ومنها جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وهي حالات لم تحدث علي وجه الإطلاق في مصر.. أما بالنسبة للجنة الأمريكية فموقفنا منها يجب أن يكون إيجابيا ومرحبا لأن مصر ليس لديها ما تخشى منه بخلاف دول أخرى تتخوف من قدوم مثل هذه اللجان.. بل إن قدوم مثل هذه اللجان إلى مصر يحقق مصلحة مصرية تتمثل فى تمكين السلطات المصرية لتوضيح الحقائق وعدم ترك القضايا الداخلية لمتاجرة الأقلام غير الشريفة أو الأبواق التى لها نوايا خبيثة وأهداف غير نبيلة. ومن ناحية أخرى أكد المفكر القبطى المصرى جمال أسعد أن أصل المشكلة هو تغلغل المناخ الطائفى وتعامل البعض على أساس مسلم ومسيحى وليس مصرى ومصرى.. والحل هو العودة إلى المناخ الوطنى لمواجهة الطائفية التى تناثرت فى الشارع المصرى وتتسبب فى تكرار حوادث الفتنة.. من هذه النقطة ظهر الاسقواء بالخارج والذى تواكب مع ظهور جماعات أقباط المهجر.. وخطورة هذا الاستقواء أنه يستفز الأغلبية الوطنية المسلمة كما يستفز الأقلية القبطية الوطنية.. لأنه لا يوجد فى مصر وطنى مخلص يقبل التدخل الأجنبى فى الشئون الداخلية المصرية.. لأن هذا التدخل يجعل الوطنيين المصريين يستعيدون لمصر الاستعمار وإن كان بصور مختلفة تحججا بحماية الأقباط.. وهو ما بدأ بالحملة الفرنسية ثم الاستعمار البريطانى.. وصولا إلى التدخل الأمريكى.. وهو الذى يتم وفقا للقانون الذى أصدره الكونجرس الأمريكى عام 1998 والخاص بالحريات الدينية.. وتستخدم الإدارة الأمريكية هذا القانون فى تغطية تدخلها فى الشئون الداخلية للدول الأخرى.. وينص هذا القانون على وجوب استعانة السفارات الأميركية حول العالم بعملاء لتقديم تقارير حول الحريات الدينية فى بلادهم.. ثم تقوم لجنة الحريات الدينية بزيارة تلك البلدان للتحرى عن أوضاع الأقليات والطوائف فى تلك الدول وتقدم توصياتها للإدارة الأمريكية.. ويمكن أن تتضمن تلك التوصيات تطبيق 16 عقوبة على الدول التى يزعمون أنها تضطهد الأقليات.. وحدد القانون ثلاثة شروط لتطبيق تلك العقوبات وهى أن تكون هناك أقلية مضطهدة.. وأن يكون الاضطهاد منظما وأن تكون حكومة هذا البلد وراء هذا الاضطهاد.. وحقيقة الأمر فى مصر أن هناك بعض المسائل التى يشكو منها الأقباط ولكنها لا ترقى إلى مستوى الاضطهاد المنظم.. ولا يمكن بأى حال اتهام الحكومة المصرية بممارسة هذا الاضطهاد المزعوم ضد الأقباط.. ولكن الحكومة فى تقديرى هى المسئولة عن حل بعض المسائل التى يشكو منها الأقباط.. وهى مسائل يمكن حلها داخلياً، وفى إطار الوطنية المصرية.. والكارثة أن بعض أقباط المهجر يحاولون إشعال الحرائق بالاستقواء بالخارج ليكتوى بنارها أقباط مصر قبل مسليمها. وأخيراً.. يبقى السؤال: لماذا يهتم الأمريكيون بالحريات الدينية حول العالم؟.. ولماذا تأتى لجنة أمريكية إلى مصر لمقابلة مشايخ الطرق الصوفية فى مقرهم.. وتجتمع مع قادة الطوائف المسيحية وناشطى المجتمع المدنى لمتابعة أحداث نجع حمادى؟.. وهنا يجب ألا نكتفى بالإجابات السهلة من عينة أن الولاياتالمتحدة تسعى إلى قيادة العالم.. وتهوى التدخل فى الشئون الداخلية للدول لتأكيد قيادتها.. الحقيقة أن هناك حقيقة لا يهتم بها بدرجة كافية أغلب المحللين فى مصر والمنطقة العربية.. وتتلخص فى أن معظم الشعب الأمريكى مسيحيون متدينون.. لمست تلك الحقيقة خلال زياراتى للعديد من الولاياتالأمريكية.. وتأكدت منها بعد قراءة العديد من الدراسات الأمريكية التى تناولت أثر توازن القوى الدينية داخل أمريكا على سياستها الخارجية.. ومنها دراسة مهمة للباحث الأمريكى وولتر روسيل والتى تكشف روح أمريكا أرض الرب التى جاء منها أعضاء لجنة الحريات الدينية لزيارتنا الأسبوع الماضى.. لنكتشف أن الدين عادة ما يلعب دوراً رئيسياً فى السياسة والهوية والثقافة الأمريكية.. فالدين يشكل شخصية الأمة ويساعد على تشكيل أفكار الأمريكيين عن العالم.. ويعلل الدين إحساس الأمريكيين بأنفسهم كشعب مختار.. وإيمانهم بأن عليهم واجب نشر قيمهم فى أنحاء العالم.. ورغم أنه لا يوجد اتفاق عام بين كل الأمريكيون على مثل هذه الأمور سواء كانوا من الأغلبية الإنجيلية أو الليبراليين الدينيين «ويحتلون المرتبة الثانية فى مستوى القوة والتأثير»، أو من الأصوليين أو المثقفون.. إلا أن غالبية الأمريكيين يعتقدون أن هذه الأفكار تؤثر بعمق على سلوك الشعب والإدارة الأمريكية فى الداخل والخارج.