مع نهاية العام - الذي يودعنا - تكمل وزارة النقل 67 يوما بدون وزير بعد الاستقالة غير التقليدية لرجل الأعمال "محمد لطفي منصور" التي قبلها الرئيس مبارك فور تقديمها، في أعقاب كارثة قطاري العياط التي راح ضحيتها 18 شخصا وإصابة 36 آخرين، والتي كانت قد وضعت الحزب الوطني في واحد من أصعب المواقف السياسية، فلم يبق وقتها علي المؤتمر السنوي السادس للحزب سوي عدة أيام، والذي كان يبني عليه آمالا كبيرة في إطار الاستعدادات المتواصلة للانتخابات البرلمانية في 2010 وكان قد أعد الحزب العدة بقائمة من المساندات الحقيقية لكل الفئات خاصة الفلاحين والمزارعين، إلا أنه فوجئ بهذه الأزمة تعطل كل مخططاته، فاستحق هذا الموقف أن يحصل علي لقب "الأزمة السياسية" لهذا العام. نجح الحزب الوطني في العبور بمؤتمره من هذه الأزمة حتي إنها لم تتواجد بشكل كبير إلا - وإلا فقط - عندما يستدعيها أحد من القيادات المشاركة لشكر ومدح الوزير المستقيل "منصور"، وهي حالات قليلة للغاية أبرزها كان د. أحمد نظيف رئيس الوزراء خلال كلمته أمام المؤتمر، حيث شكر منصور علي جهوده وإنجازاته طيلة فترة توليه الوزارة، والغريب أن كلام نظيف تجاوب معه كل الحاضرين حتي إنهم صفقوا للوزير المستقيل، الذي سافر في إجازة استجمام لأمريكا بعد تخلصه من الوزارة، 15 ثانية من التصفيق المتواصل، وكانت مفاجأة الأعضاء للغائب! وركز نظيف إشادته لمنصور علي الجهد الذي بذله لتطوير قطاع النقل والسكك الحديدية متناسيا كل ما ذكر حول التداخل بين منصب منصور الوزاري وكونه رجل أعمال وعلاقة ذلك بمشروعات تطوير السكة الحديد والجرارات الجديدة والمشروع المثير لتفعيل النقل النهري، بل حمل كارثة العياط إلي تراجع مستوي العنصر البشري في الهيئة والذي يحتاج إلي تطوير كبير يركزون عليه خلال الفترة الماضية، وقال إن الحوادث تقع بسبب عدم استكمال التطوير ودائما ما تطغي أخبار الحوادث علي أي إصلاح، مشيرا إلي أن ميناء شرق بورسعيد هو الأكثر نموا ليس علي مستوي المنطقة فقط، بل في العالم كله والفضل يرجع في ذلك لمجهود الوزير منصور! المثير للدهشة أن الموقف نفسه تكرر في الجلسة المتخصصة لتطوير النقل، والتي ضاع جزء منها في الإطراء بمنصور وإنجازاته، وكان هذا نموذجا لأزمة سياسية حقيقية كان من الضروري ألا تمر بطريقة عفوية بعيدة عن الدراسة، خاصة مع تكرار حوادث السكة الحديد، لكن الغريب في الأمر علي أساس أن الحوادث لم تعد غريبة، هو رد الفعل الجماعي علي الاستقالة، حيث تحول الكل من الأغلبية والمعارضة بكل أنواعها إلي مؤيدين في الغالب لمنصور بعد أن قدم الاستقالة وكأنه بريء مطالبين برقاب أخري، بل قالوا إنه ليس من الضروري الاستقالة ودعوه للتراجع هنا خاصة لأنها لن توقف الحوادث، رغم أنه قبلها بساعة واحدة كان عدوهم الذي يجب التخلص منه لأنه يسفك دماء المصريين وسبب كل هذه الانهيارات في مرافق النقل بأنواعها، وفتحوا له كل الملفات علي صفحاتهم الرئيسية، حتي استقال تحول كل شيء تماما، وهذا يؤكد أن هؤلاء المطالبين بالاستقالات كعقاب للمسئول أم إعلان رسمي لتحمل المسئولية، لا يفهمون مغزي ثقافة الاستقالات . وهناك من يري من المتابعين أن التغيير يعطل لأنه سبق أن حدث تعديل وزاري أبعد خلاله وزير الري المخضرم محمود أبوزيد وجاء بدلا منه محمد نصر علام، ودارت في الكواليس أحاديث حول خلافات كثيرة بين الوزيرين أبوزيد والزراعة أمين أباظة بسبب الصلاحيات، فيما ضم التعديل إضافة وزارة الأسرة والسكان التي تتولاها مشيرة خطاب! ويبدو أن البرتوكول الوزاري وضع وزير الكهرباء والطاقة د. حسن يونس في أصعب موقف بعد أن تولي هذا الملف المعقد، ولحظه أو نقول سوء حظه طالت المدة عكس المتوقع، وبالتالي كل شيء ملقي علي التنفيذيين والوزير يكتفي بالإشراف من بعيد، إلا أن الواقع يؤكد أن التخبط زادت وتيرته في الوزارة مع غياب القائد الأول فيها، فحتي قرارات الانتدابات التي كانت محسومة متوقفة، وبالتالي أعمال التطوير معطلة، فزاد الارتباك في المرفق والأعطال واكتمل المشهد السيئ بتصادم المعديتين في رشيد، لكن حاول يونس مواجهة ذلك بتعيين نائب لرئيس الهيئة للتعامل مع أعطال القطارات، مشددا علي معاقبة أي سائق يقود الجرار وهو يعلم أن به عطلا . لكن باستثناء ذلك نجحت المناورة السياسية التي قام بها الحزب الوطني في تمرير الموقف وتحويله لصالحه، بعد أن قاد الأزمة باحتراف، لكن بقيت أزمة أخري، فلايزال أمر الوزارة معلقا حتي الآن، بعد نقاش طويل ومقابلات قليلة للمرشحين، ثم هدأ كل شيء وكان لتداعيات أزمة مباراة مصر والجزائر دور كبير في تحويل الأنظار عن التعديل الوزاري الذي كاد يحدث، لولا بعض التعطيلات، التي أثيرت بعدها أحاديث حول نطاق التغيير المرتقب، وكونها أوسع مما كان يترتب له في البداية، فيما فسرتها علي أنه فشل جديد في هذا الملف المنحوس المليء بدماء المصريين الذين يموتون إما محروقين أو معجونين بين العجلات، أو أشلاء بين العربات التي تحولت لكوم من الحديد يخرج منه الضحايا بالكاد. ولن ننسي بالطبع حادثة غرق عبارة السلام ولا حريق قطار الصعيد خاصة أن هذا العام ذكرنا بمثل هذه الكوارث بخبر سار هو الحكم علي مالك العبارة الهارب للندن "ممدوح إسماعيل" بالسجن 7 أعوام في مارس الماضي، وهو ما رد علي كل الشائعات التي استبعدت سجنه لادعاءات تقربه من كبار القوم. والحديث يطول حول ماهية التغيير، لكنه يطول أكثر وأكثر علي الأسلوب الذي لا تستطيع الحكومة الاتفاق عليه لتطوير السكة الحديد. وحتي الآن لاتزال الحكومة تفكر ماذا تفعل في هذا المرفق الذي وفق المخطط من المنتظر أن يحقق أرباحا بعد أن كان يكبدنا خسائر خلال 3 سنوات، كما كان يتغني الوزير الراحل، ورغم الحملات الإعلانية المستفزة التي تتحدث عن قطارات لا توجد في مصر، من كراسي فخمة لمواعيد مضبوطة لتعاملات محترمة لإنارة موجودة، كانت نذير شؤم علي منصور، فما كادت تبدأ وتثير جدلا حولها حتي وقعت كارثة العياط، والأكثر غرابة من ذلك أنه أعقبتها حوادث عديدة وكأن هذا المرفق بوحوشه - أقصد قطاراته - لا يستطيع أحد ترويضه، حيث وقعت في العياط وحدها ثلاث حوادث أخري.. منها حريق شب بعد شهر من الكارثة وتم إخماده بالكاد دون إصابات، وإلا كان سيستقيل فيها رئيس الوزراء، ثم تعطل قطار الصعيد في العياط لمدة ساعة ونصف الساعة وكان يضم بين ركابه سياحا، أي أن فضائحنا أصبحت مشاعا، هذا بخلاف الصور الدموية التي تبثها وكالات الأنباء مع كل كارثة تقع، حتي أصبحت سمعة مصر في حوادث القطارات صعبة جدا، وكاد يهلل مسئولو الهيئة عندما وقعت حادثة كبيرة في قطار موسكو وراح فيها عدد كبير من الضحايا ليثبتوا أنه حتي الدول المتقدمة تقع فيها حوادث !.. لكن خاب أملهم بعد أن أثبتت التحقيقات أن الحادثة سببها عملية إرهابية أعلنت جماعة إسلامية مسئوليتها عنها! ومن الأفكار المطروحة أن يتم تعيين وزير للسكة الحديد فقط علي الطريقة الهندية، وتقسيم الصلاحيات لتسهيل الأمور علي من يتولي المنصب الذي تردد أنه يهرب منه كل الكوادر المؤهلة، فيما قيل في المقابل أنه لا يوجد كادر مصري يستطيع مواجهة هذا الموقف الصعب، لكن الحكومة نفت كل ذلك، وفضلت الدخول في ملفات أخري لعل الناس تنسي مع تحويل الأقصر لمحافظة وتطعيم التلاميذ ضد الأنفلونزا والجدل حول الضريبة العقارية، ليتفرغ المصريون للثرثرة في قضايا أخري، وينسوا حدوتة السكة الحديد حي تقع حادثة أو يتم التغيير الوزاري، أيهما أقرب.