كشف عام 2009 عن بداية اختفاء المدونات بمعناها المعروف مع سيطرة المواقع الإليكترونية الاجتماعية علي النت، لكن في الوقت نفسه فرضت مدونة السفير البريطاني علي موقع السفارة الرسمي نفسها كمدونة العام بما حوته من تدوينات مثيرة للجدل حول النقاب، التي اهتم السفير "دومينيك اسكويث" بنشر ردود محررة هذا الموضوع حولها، ثم ما أضافه من تدوينات تالية بشأن الغرب والإسلام وتدوينة وحيدة باللغة الإنجليزية تعلق علي أزمة المآذن السويسرية بعنوان "عامل الناس كما تحب أن يعاملوك به"! تدوينات السفير البريطاني تشي باهتمام خاص من جانبه بحوار الأديان والحضارات ونقاط التماس بين الشرق والغرب، فيما يتعلق بهذه القضايا وإن كنا لازلنا علي نفس تحفظنا الخاص بمنصبه الحساس الذي لايمكن اعتبار التدوينات في ظله بمثابة رأي شخصي؛ فضلا عن استضافة المدونة نفسها علي الموقع الإليكتروني الرسمي للسفارة البريطانية؛ وعلي جانب آخر فإن نشر التدوينات باللغة العربية يعكس اهتماما مقصودا من شخص السفير "دومنيك اسكويث«؛ وسعيا منه للتواصل مع شريحة من "المصريين" تمثل قطاعا من الشباب التفاعلي الذين قد يرتاد الموقع الإليكتروني للسفارة لسبب أو لآخر؛ وكذلك المثقفين الذين يهمهم الاطلاع علي المواقع الإليكترونية المشابهة، وباختصار فهو يستهدف التواصل مع "المصري" العادي المنشغل بقضايا الساعة في مجتمعه! وعقب تدوينتي عن النقاب باللغتين الإنجليزية والعربية والرد عليها - الذي سنتطرق إليه لاحقا - نشر السفير البريطاني تدوينة جديدة تحت عنوان "الغرب والإسلام - فهم كل منهما للآخر" باللغة العربية، معلقا علي هجوم الرائد الأمريكي "نضال مالك حسن" - الطبيب النفسي بالقوات العسكرية علي زملائه بقاعدة "فورت هود" واستشهد السفير البريطاني برأي المفتي الذي نقله "اسكويث" علي مدونته وجاء فيه "إن الرائد حسن لايمثل المسلمين ولا الإسلام، فإلقاء اللوم علي دين كامل بسبب تصرفات شخص وصفه - يقصد المفتي - بأنه "غير سوي" لايحقق أي هدف«؛ وأشار السفير البريطاني إلي اتفاقه الكامل مع رأي مفتي "مصر" بهذا الشأن؛ وأكد علي وجوب إقامة حوار شديد الأهمية حول رؤية كل من الغرب والإسلام لبعضهما البعض؛ ولكن "علينا توخي الحرص في الكيفية التي نستخدم بها حالة الرائد حسن في ذلك الحوار" حسبما يقول السفير البريطاني في مدونته التي شكك بوضوح خلالها في دوافع بعض التيارات التي قد تستغل حوارات مشابهة لإثبات وجهة نظر مسبقة، حيث يقول "قد يكون مغرياً" للبعض أن يستخدموا حالة بعينها لإثبات وجهة نظر يحاولون البرهنة عليها ولكنني أرتاب في دوافع من يفعلون ذلك؛ إن هؤلاء يريدون عادة إثارة المشكلات؛ وعلي وجه التحديد يريدون خلق العداوة بين المجتمعات أو المجادلة بأن الصدام بينهما حتمي؛ وعادة ما يكون هؤلاء أيضا منغلقي العقل - لقد استقروا علي رأي معين فلا يمكن أن يقنعهم أحد بالتفكير بشكل مختلف. في الفقرة التالية من التدوينة يركز السفير البريطاني علي فكرة ضبط ومراقبة رد الفعل. وفي هذا السياق يشير إلي قضية مقتل "مروة الشربيني" التي عبر عن صدمة الجميع لمقتلها المأساوي - حسب تعبيره - مضيفا "لكنني في ذلك الوقت قلت أنه من غير المفيد أن نتهم ألمانيا أو أوروبا أو الغرب كله بتلك الجريمة؛ إلا أن رد الفعل علي تصرف فردي قد يكشف عن مواقف معينة، لاتتطلب منا أعمال العنف الوحشية أن ندينها فقط ولكن أيضا أن نراجع كيف رأي الآخرون رد فعلنا؛ وهذا يتطلب فهما". أما في الفقرات الثلاث الأخيرة من تدوينة "الغرب والإسلام" فكتب المحترم - بحسب لقبه الرسمي - سفير "بريطانيا" عن لقائه بمجموعة من طلاب الأزهر الذين يدرسون الإنجليزية في أحد المراكز التي أسهم المجلس الثقافي البريطاني، في إنشائه؛ وهو اللقاء الذي أثير فيه تساؤل حول ما إذا كان الغرب والإسلام يتجهان إلي تصادم، وعبر "اسكويث" عن اتفاقه مع طلاب الأزهر بشأن نفي تلك الفرضية؛ ونوه عن رحلة لعدد من شباب الصحفيين إلي "المملكة المتحدة" للتحاور مع مسلمي "بريطانيا" والاستماع إلي خبراتهم؛ وأخيرا يشير "دومينيك اسكويث" إلي الدور الذي باتت تلعبه التكنولوجيا الحديثة في السماح "للناس ذوي الفهم الحقيقي بالتواصل بفعالية أكبر". أحدث تدوينات السفير البريطاني باللغة العربية تتحدث عن المؤتمر الدولي الذي نظمته كل من مكتبة الإسكندرية والمجلس الثقافي البريطاني حول تراث العالم الأشهر "تشارلز دارون" بمناسبة مرور 150 عاما علي نشر مؤلفه المثير للجدل حتي الآن "أصل الأنواع"؛ وتخلص التدوينة إلي رفض علماء الدين المسلمين والمسيحيين لنظرية النشوء والارتقاء التي وضعها "دارون" في نقاش عام بينهم قبيل جلسات المؤتمر دون "معرفة" الكثير عن العلم الذي اعتمدت عليه النظرية كأساس - حسبما يقول "دومينيك اسكويث"؛ وفي نهاية النقاش تساءل العلماء من الطرفين عن "سمعة العلم السيئة" برغم أن الدين أصلاً يشجع علي العلم؛ ورأي بعضهم أن الدين مبني علي الإيمان القوي، أما العلم فمبني علي الشك وعدم التأكد، ولذلك يجب النظر إليهما كموضوعين منفصلين يمكن أن يعملا بالتوازي دون تعارض! تجدر الإشارة إلي أنه عندما تناولت "روزاليوسف" آراء السفير البريطاني حول قضية النقاب لافتة إلي نهجه اللغوي في نشر مدوناته بالعربية، لم تمض أيام قبل أن يتجه "اسكويث" إلي نشر أولي تدويناته بالإنجليزية في ديسمبر الحالي تحت عنوان "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" - العنوان وهو موح بما يكفي ويتضح منه تماما شريحة القراء التي يستهدفها؛ قطاع المثقفين الذين يجيدون الإنجليزية ويهتمون في المقابل بصراع الهويات والانتماءات العقائدية وتقاطع الحضارات - إن جاز التعبير - وهؤلاء قد يكونون مصريين وربما لا؛ إلا أن عنوان التدوينة كما أشرنا له خلفية عقائدية وهوية إسلامية واضحة! هذه التدوينة تحديدا تسترعي الانتباه لأنها تعرض وجهة نظر السفير في مسألة "مذكرة مآذن سويسرا«؛ فهو وإن كان يرفض اعتبار القضية بمثابة "دليل آخر" علي صراع حتمي بين الغرب والإسلام، إلا أن تناولها إعلامياً قد أذهله إلي حد الصدمة نظرا لأن التعليقات - لدي الجانب العربي والإسلامي كما يتضح من سياق الحديث - كانت عميقة التأمل وأميل لنقد الذات في بعض الأحيان؛ وهو ما اعتبره سفير المملكة المتحدة شيئا مهما نظرا لأن كيفية رد الفعل الإسلامي سواء في الغرب أو في الدول ذات الأغلبية الإسلامية سيكون لها تأثير علي مستقبل العلاقة - بين الغرب والإسلام يقصد السفير البريطاني - حسبما جاء في الفقرة الأولي من التدوينة! في الفقرات التالية يهتم المحترم "دومينيك اسكويث" بالاستشهاد بآراء "مصرية" تصب في نفس اتجاهه التحليلي وهي آراء لفوزية العشماوي. ود.اتش إيه هيلر الأستاذ بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وجامعة ويرويك بالولايات المتحدة وعلاء الأسواني ومصطفي كمال السيد باعتبارهم أصحاب تجارب للحياة في المجتمعات الغربية، وآراؤهم إلي حد كبير تشابهت فيما يمكن اعتباره "لوم الذات" وليس نقد "الذات" فيما يتعلق بقضية المآذن؛ باستثناء "فوزية العشماوي" رئيس الجالية المصرية في سويسرا ورئيس المعهد الإسلامي الأوروبي التي رأي السفير أنها كانت واضحة في نصيحتها - حسب التعبير المستخدم - للحكومات والمؤسسات الدينية بعدم التدخل أو المبالغة، فالمسلمون في سويسرا يتمتعون بجميع حقوقهم ويتمنون أن يتركوا كي يحلوا مشاكلهم بأنفسهم دون التدخل بخطب ديماجوجية غير مفيدة؛ بينما يشير "د.هيتلر" إلي أن مسلمي الغرب في قلب المدينة ويفهمونها أفضل من نظرائهم الشرقيين". تعليقات الأسواني ومصطفي كمال السيد التي نقلها السفير البريطاني علي مدونته تصب في التساؤل عن مغزي الخطوة السويسرية بشأن مآذن المسلمين ودوافعها؛ وهي كما يراها "الأسواني" و"السيد" دوافع مفهومة في إطار الصورة السيئة التي رسمها المسلمون لأنفسهم أمام الغرب سواء عبر شخصيات إرهابية مثل "بن لادن" و"الظواهري" - كما يري الأسواني نقلا عن تدوينة "اسكويث«؛ أو من خلال إهانة المرأة وإنكار حقوقها في معظم دول الخليج حسبما جاء في رأي مصطفي كمال السيد الذي نشره السفير البريطاني علي مدونته باعتباره شخصية قضت نحو 10 سنوات في "سويسرا" بما يجعله قادراً - كما هو مفترض - علي فهم ثقافة ذلك البلد! يواصل السفير البريطاني تدوينته المعنونة "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به" محذرا من النفاق الذي انتشر في المجتمعات في "أوروبا" وخارجها؛ فالنفاق يراه "اسكويث" العقبة الأساسية في التفاهم فيما اصطلح علي تسميته بالحوار بين الحضارات!؛ ويؤكد في الفقرة الختامية من التدوينة أنه ليس من الكافي إدانة مذكرة حظر بناء المآذن فقط وإنما يجب دراستها وفهم أسبابها ودوافعها؛ ليبدأ حديثا قصيرا مدعماً بالإحصائيات عن "أزمة الهوية" ينتهي بأن 78٪ من مسلمي "بريطانيا" يعرفون أنفسهم كبريطانيين لترتفع النسبة إلي 94٪ بين أولئك الذين ولدوا علي أراضي المملكة المتحدة، في حين تبلغ النسبة 49٪ فقط في "فرنسا" وتنخفض تماما إلي 23٪ من مسلمي "ألمانيا" في إحصائية استغرقت عامين؛ ولم يفت السفير "البريطاني" أن يذكر في معرض إحصاءاته أن 54٪ من الفرنسيين يرون الإسلام لايتماشي مع مجتمعهم! الحقيقة أن السفير البريطاني لازال يستدعي لبسا فكريا لاجدال فيه بإصراره علي التطرق إلي موضوعات شائكة في تدويناته؛ بل إن عنوان تلك التدوينة الإنجليزية الأخيرة تحديدا يثير قدرا هائلا من الالتباس لدي المتلقي إذ من المقصود بتوجيه النداء أو الأمر بالمعاملة هنا؛ بعبارة أخري هل علي المسلمين أن يعاملوا الغرب كما يتمنون منه أن يعاملهم؛ أم العكس؛ وفي المقابل فإن الاتهام بالنفاق المجتمعي هو اتهام مطاط يشمل الجميع إلا أن معرض التدوينة يستثني الغرب ضمنيا من التهمة، فالسفير الإنجليزي لم يدخر جهدا للإشادة بالتيارات "الأوروبية" التي قدمت رد فعل يتسم بعمق التأمل من وجهة نظره فيما يخص انتقاد المذكرة المتطرفة؛ وكما سبق أن أشرنا فإن الآراء التي انتقاها كلها تجنح وبقوة إلي درجة ما بعد "نقد الذات" إلي "لوم الذات" أو حتي "الشماتة في الذات" بمنطق أن ذلك بما كسبته أيدي المسلمين؛ أما رأي رئيس الجالية المصرية السويسرية فلم يتعد كونه دعوة - طالما ناديت بها شخصيا بل وأوضحتها تماما في تعليقي علي مدونة النقاب - فهي دعوة إلي الفصل التام بين الجاليات الإسلامية؛ في المجتمعات الغربية وبين مسلمي العالم العربي والشرق أوسطي؛ وبعبارة صريحة "مانحسبهمش علي بعض"! وكما يتضح من الإحصاءات الأخيرة التي رصدها سفير المملكة المتحدة "دومينيك اسكويث" في مصر، فإن جزءا من ذلك الفهم الغربي المنشود للإسلام الذي يبشر الكثيرون به هو ذلك المتعلق بذوبان المسلمين في المجتمعات الغربية التي يعيشون فيها؛ وتلك قضية أخري قد يتشعب الحديث بشأنها كثيرا! أما أكثر ما يلفت الانتباه حول تناول قضية المآذن "السويسرية" علي مدونة بالموقع الإليكتروني الرسمي للسفارة البريطانية، فهي تجاهل الطرف الذي بدأ بتصعيد نوعي لتمرير المذكرة المتطرفة في "سويسرا" ونعني به حزب الاتحاد الديمقراطي اليميني المتطرف؛ بل إن نجاح التصويت علي المذكرة بأغلبية شعبية بين السويسريين هو أمر ينبغي قراءته مرات عديدة وتأمل سعي التيار اليميني المتطرف للي عنق القوانين الأوروبية الليبرالية بهدف استصدار قانون أو تشريع قانوني علي أساس ديني عنصري في دولة تعد من أكثر الدول تسامحا وليبرالية في العالم كله وليس في "أوروبا" فقط؛ إلا أن ذلك كله لم يخطر ببال المدون الدبلوماسي عندما قرر تسجيل وجهة نظره والاستشهاد بآراء الآخرين في تدوينة تحمل عنوان "عامل الناس بما تحب أن يعاملوك به"!! وأخيرا فحسبما أشارت رسائل البريد الإليكتروني الواردة من مسئولي السفارة فإن تأخر نشر التعليقات التي أرسلت ردا علي تدوينة النقاب يعود أساساً إلي مشاكل فنية بالموقع جري تداركها مؤخرا مما سمح بنشر التعليقات باللغتين، ولعل أحد أهم النقاط التي يمكن اعتبارها بمثابة "محور" حديث السفير في كل القضايا الشائكة التي تناولها هي تلك المتعلقة بإسقاط الأحداث علي "الجاليات الإسلامية الغربية" والصدام المفترض تلاشيه بينها وبين المجتمعات التي تحتضنهم وهو "محور" مفهوم تماما اهتمام الرجل به كدبلوماسي، معني أساساً بتلك القضية في إطار مهامه الرسمية؛ لذلك فإن مسألة النقاب أثارت بدورها لغطا بشأن تلك "الجاليات" التي جري استدراج مسلمي الشرق الأوسط والمنطقة العربية لتبني أجنداتها علي نحو منظم سقط في فخه مسلمو المنطقة بسذاجة؛ وقد جاءت تعليقات "فوزية العشماوي" وغيرها من قيادات الجاليات الإسلامية في "بريطانيا" و"فرنسا" و"ألمانيا" لتؤكد هذا المعني وتطالب مسلمي المنطقة بأن "يتركوا هذه الجاليات في حالها" إن قراءة الأحداث علي امتداد العقد ونصف العقد الأخير تشير إلي اختلاف أجندة المسلمين في الغرب عنها في الشرق؛ ففي حين تشكل أزمة الهوية مشكلة حقيقية لمسلمي الغرب فإننا - كشرق أوسطيين - لا نعاني منها لحسن الحظ في ظل الحرية الكاملة المكفولة لممارسة الحقوق العقائدية؛ بل إن الحجاب بغض النظر عن موقف الدين منه لم يجر فرضه علي المرأة بموجب قانون؛ ولم يتم تحريم ارتدائه بموجب تشريع؛ ويشهد المجتمع المصري تحديدا وأحيانا العربي مئات الحالات من ارتداء الحجاب وخلعه يوميا دون مساءلة أو عقاب؛ بعكس الدول الأوروبية المفترض تناول فيها مثل تلك القضايا في إطار من القوانين الليبرالية المعمول بها في الغرب؛ في الوقت الذي تم فيه "تصدير" أزمة مسلمي الغرب بهذا الشأن لتصير دوافع اندلاع المظاهرات في مصر والشرق الأوسط ضمن أجندة مسلمي الشرق؛ في حين لم تكلف أي من الجاليات الإسلامية الغربية نفسها عناء تبني قضايا مثل دعم المرشح المصري "لليونسكو" وإقامة المظاهرات لمساندته علي سبيل المثال!