لاشك أن المائة وخمسة عشر ألف مواطن سويسري الذين وقعوا طلب الاستفتاء علي حظر المآذن في سويسرا، زاروا مصر وعانوا من الضجيج المروع الذي تسببه مآذن مصر يوميا من طلعة الشمس حتي مغربها! ففي حينا بالمهندسين يحرص إمام الزاوية المجاورة (3 * خمسة أمتار) علي رفع الآذان لكل صلاة مرتين وفي كل مرة يقرأ بعض الآيات قبل الآذان ثم يقيم الصلاة كاملة في الميكروفون، ورغم وجود عدة مكبرات للصوت في ذلك الحيز المحدود، فهو يصرخ بأعلي صوته غير عابئ بما يسببه من صداع وتشتت وإزعاج للمرضي المسنين والطلبة أثناء الامتحانات. ولأنه في العمارة المجاورة تماما لعمارتنا، فقد أصبح من المستحيل التركيز أو إنجاز أي عمل أثناء لعلعلة صوت سيادته التي تخرق الآذان من الميكروفون. شكونا لوزارة الأوقاف وللشرطة ولكن أحدا من تلك الجهات لم يتحرك، ثم تجرأت وشكوت لصاحب العمارة التي تقع فيها تلك الزاوية فتلقيت درسا (مكتوبا) في صحة الإيمان ووجوب الميكووفونات كفرض لا يمكن الاستغناء.. إلخ!! ومازال الحال علي ما هو عليه وعلي المتضرر أن يخبط رأسه في الحائط! -- لم تعد المآذن مجرد رمز إسلامي وإنما أصبحت دليلا علي تسلط المتشددين وسطوتهم علي المجتمع. وبينما انهزم الضجيج في العالم أجمع، انتصر في مصر وربما في العالمين العربي والإسلامي كله. ولا أستبعد أن يطلع علينا عما قريب واحد من ادعياء الفضائيات (الدعاة المزيفين) إياهم بفتوي أنه لا إسلام بلا مآذن، وسيزايد عليه آخرون فيطالبوننا بالجهاد من أجل المآذن، وقد يقترح البعض إعلان الحرب علي سويسرا كما فعلوا مع الجزائر والدنمارك من قبلها، هذا بالإضافة إلي الدعوات التي ارتفعت فعلا تطالب بمقاطعة البضائع السويسرية وقطع العلاقات الدبلوماسية معها وإلغاء جميع التعاملات التجارية.. إلخ. أصبحنا مثل الشاب الذي كان يصيح من وقت لآخر الذئب.. الذئب فإذا ما هرع القوم لنجدته ابتسم في غباء وقال إنه كان يهزر وأما نحن فلا نهزر وإنما ننجرف إلي الهاوية كلما ألمت بنا محنة أو كارثة، ورغم ذلك لم يعد أحد يهرع لنجدتنا! انتهت الوسطية واختفت من قاموس المسلمين كلمات مثل ضبط النفس والاعتدال واحترام الآخرين. وكلما خفتت هوجة، اندلعت هوجة أخري وتسابق العاطل مع الباطل في المشاركة، ليس في إطفاء الحريق وإنما في تأجيج النار، الكل يريد إثبات أنه أكثر إيمانا والتزاما وحزما وصرامة في تطبيق الإسلام. وقبل أن ندلي برأي في الموضوع يجب أن نتأمل أوضاع سويسرا دولة وشعبا لكي نفهم بالضبط ما يجري علي أرضها اليوم من زلزال سببه المسلمون! فوفقا للدراسات الديموجرافية الرسمية لم يكن عدد المسلمين في سويسرا حتي عام 1970 يتعدي 300,16 نسمة، ومع ازدياد الاضطرابات الدينية والمد التطرفي في الدول الإسلامية فتحت سويسرا أبوابها للمضطهدين من أفراد الجماعات الدينية الفارين من جحيم الاعتقالات والتعذيب والتنكيل من الأنظمة الحاكمة، حتي وصل عدد المسلمين إلي ما يزيد علي 155 ألف مسلم في التسعينيات، وزادت الحكومة السويسرية من تعاطفها مع المسلمين المضطهدين في بلادهم فأصدرت قانون عام 1970 يبيح لمكتسب الجنسية استدعاء عائلته. وكانت النتيجة أن تدفقت أعداد كبيرة منهم حتي وصلوا عام 1980 إلي 56000 مسلم. وظل هذا العدد يرتفع باضطراد، وفي تعداد عام 1990 وصل عدد المسلمين في سويسرا إلي 152 ألف نسمة. وأثناء الحرب الأهلية في البلقان في التسعينيات التي عومل فيها المسلمون بوحشية من الصرب فتحت سويسرا أبوابها للمسلمين (البوسنة والهرسك والكوسوفيون) الذين فروا من المنطقة، واليوم وصل تعداد المسلمين إلي أربعمائة ألف (400000) مسلم أي أنه تضاعف عشرات المرات!! وقد انعكس هذا التنوع أو التنافر علي الأقلية المسلمة في سويسرا، كما هو حادث في كل الدول الأوروبية من تعدد وتنافس مؤسساتهم الدينية، لقد حمل المهاجرون في أمتعتهم كل ما ورثوه واكتسبوه من انقسامات وتعصب وجهل بالدين الحقيقي من بلادهم. فمسلمو سويسرا ليسوا كتلة صماء من البشر المتجانس، إنما هم جماعات من جنسيات مختلفة ولغات وطوائف متعددة، يعيشون في المنطقة المتحدثة بالألمانية وأغلبهم في المدن الكبري. إن أي جسم لابد وأن يقاوم بشدة الخلايا الجديدة، وإذا أخذنا في الاعتبار أن سويسرا بلد صغير لا تزيد مساحته عما يقرب من 16 ألف ميل مربع، أي 28,41 كيلومتر مربع أغلبها جبال يصعب السكن فيها، وأن تعداده الذي يقل عن ثمانية ملايين نسمة يتجمع في مساحة محدودة من الأرض. ورغم صغر حجمها، فسويسرا ليست دولة بالمعني المتعارف عليه، بل عبارة عن اتحاد كونفيدرالي مقسم إلي 26 كانتونة (إقليم أو ولاية) تتشكل من أربع جنسيات هي الفرنسية والإيطالية والرومانية، واللاتينية، وهي أيضا اللغات الرسمية للدولة ويحكمه هذا الخليط مجلس من سبعة أفراد ترأسه سيدة هي كورينا كازانوفا (من مواليد 4 يناير 1956)، وهي عضو في الحزب المسيحي الديمقراطي حزب الشعب في سويسرا وتتحدث سبع لغات: رومانشية، الألمانية، الفرنسية، الإيطالية، الإنجليزية، الأسبانية، والألمانية السويسرية. -- ولأن الشعب السويسري يخشي من التفكك والانشطار فقد رفعوا شعارا غير رسمي يقول الكل في واحد والواحد في الكل. فهل يمكن لمسلمي سويسرا أن يطبقوا هذا الشعار عليهم، أم تراهم سينعزلون إلي جيتو إسلامي ويقاومون الاندماج والتكامل الذي يسعي الكل إليه؟ سؤال صعب علي المسلمين أن يجيبوا عنه في أسرع وقت، وخاصة أنهم انتقلوا من دول فقيرة وشعوب متناحرة إلي الدولة بالغة الثراء، يبلغ دخل الفرد فيها ما يقرب من سبعين ألف دولار سنويا، وتعتبر مدينتا زيورخ وجينيف (حيث يتمركز المسلمون) أعلي ثاني وثالث مدينتين في العالم من حيث مستوي المعيشة ونوع الحياة. إن القلق الذي انتاب السويسريين علي بلادهم لايعود إلي التعصب الديني، ففي إحصاء أجري عام 2005 أعلن 27% من السكان أنهم لايؤمنون بوجود الله، أما المؤمنون فينقسمون بين الكاثوليكية (8,41%) والبروتستانتية (3,35%)، وقد أصبحت الأقلية المسلمة (3,4%)، أما الأرثوذكس الشرقيون فلا يتعدون 8,1%. علينا إذن أن نعترف بأن القضية اقتصادية سياسية أكثر منها دينية، وخاصة أن بلادهم دولة محايدة لم تدخل في حروب منذ عام 1918 وهم حريصون علي ذلك الحياد لدرجة أن بعض المواطنين سعي لإجراء استفتاء حول إلغاء الجيش والخدمة العسكرية الإلزامية ورغم أنها صورية وكل المجندين يلازمون بيوتهم ولا يستدعون إلا وقت الطوارئ، ولم يلق الاقتراح قبولا لدي المواطنين. إن المادة 136 من الدستور السويسري تعطي الحق لكل مواطن أن يدعو إلي استفتاء حول موضوع ما بشرطين أن يتضمن اقتراح الاستفتاء تغييرا في الدستور وأن يوقع علي طلبه مائة ألف مواطن علي الأقل، وأن توافق عليه 14 كانتونة من ال 26 (أغلبية مضاعفة). -- وطلب حظر المآذن وقع عليه ما يقرب من 115 ألف مواطن، ووافقت الأغلبية في مجلس الكانتونات علي الاستفتاء. منذ عشرين عاما لم يكن في سويسرا سوي مسجدين ومع تكاثر عدد المسلمين لم تمانع السلطات السويسرية في تشييد المساجد حتي وصل عددها اليوم إلي سبعين مسجدا، وهي مراكز ثقافية إسلامية تجري فيها جميع الشعائر الدينية. بني المسجد الأول عام 1963 كمقر لطائفة الأحمدية في زيورخ، وارتفاع مئذنته 18 مترا، ثم بني - المسجد الثاني عام 1978 وزاد ارتفاع مئذنته عن الأول فوصل إلي 22 مترا، وعلي مدي ثلاثين عاما شيدت عشرات المساجد بلا مآذن..! إن أزمة المآذن لم تبدأ إلا في عام 2005 عندما أضيفت مئذنة للمركز الثقافي الألباني، وبعدها بدأ نقاش حاد حول أهمية المئذنة وما ترمز إليه. لقد تغير الوضع كثيرا عما كان عليه في السبعينيات وعلي مدي ثلاثين عاما لحقت بالمسلمين صفات أو تهم التطرف والإرهاب والتعصب الديني، خاصة بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر في نيويورك التي خلفت أسوأ الانطباعات لدي الغربيين، وخلقت مخاوف أكدها للأسف، المسلمون بعشرات الأدلة والبراهين، منها علي سبيل المثال زيادة انتشار الحجاب والنقاب بين النساء المسلمات. وارتفعت أصوات تحذر من المد الإسلامي وتتهم المسلمين بمحاولة أسلمة سويسرا، وتساءل البعض: إذا كان المسلمون يطالبون بحرية العقيدة في بلادنا فلماذا يحرمونها في بلادهم، حيث لا حرية عقيدة ولا ديمقراطية ولا حقوق إنسان في أي بلد مسلم؟! وزعم البعض أن المسلمين يسعون حثيثا إلي فرض الشريعة الإسلامية علي سويسرا، واعتبر البعض المآذن رمزا للسلطة الإسلامية وتساءلوا هل يمكن بناء كاتدرائية في مكة، رغم أن روما سمحت للسعوديين ببناء مسجد علي مساحة 30 ألف قدم مربع كامل بالمئذنة؟! ولتهدئة الجو اقترح بعض الأتراك بناء مآذن رمزية لايزيد ارتفاعها علي خمسة أمتار مع حظر استخدامها في الآذان، ولكن الاقتراح رفض ثم تحقق نهاية يونيو ,2009 الأمر الذي خلق انطباعا بأن هناك حركة أسلمة للمجتمع السويسري. فهل تستحق المآذن أن يدخل المسلمون في صراع مع دولة رحبت بهم وآوتهم وقت أن كانوا في حاجة إليها، وهل سندخل في مهاترات مشابهة لما فعلناه في معركة الحجاب ونزعم أن المئذنة فرض عين علي كل مسلم؟ هل سنزعم أن فريضة الصلاة لا تكتمل في المسجد إلا إذا كانت به مئذنة؟ نحن اليوم، ومسلمو الغرب قبلنا، في حاجة لأن نؤكد القيم الأساسية للإسلام، قيم التآخي بين البشر والتعارف المبني علي المودة بين الشعوب، لأننا نحتاج لفترة طويلة نمحو فيها ما اقترفت أيدي الإرهابيين الذين نسبوا أنفسهم زورا إلي الإسلام وجعلوا شعوب العالم تخشاه وتناضل في سبيل محوه من بلادهم. الطريف أن الحكومة والبرلمان والعديد من الأحزاب السياسية والكنائس والطوائف الدينية كانوا أصدق ارتباطا بالتسامح الديني والديمقراطية فارتفعت أصواتهم تعارض الحظر، ووقفت إلي جانب المسلمين كل منظمات حقوق الإنسان خاصة منظمة هيومان رايتس ووتش دفاعا عن حرية العقيدة، كما أن الحكومة السويسرية أعلنت أن الحظر لن يتعارض مع حرية المسلمين في بناء مساجدهم وممارسة جميع شعائرهم. فلنكف إذن عن دس أنوفنا فيما لايعنينا ونترك الأمر للمتخصصين من رجال الدين المسيحي والإسلامي ولمسلمي سويسرا الذين خبروا الحياة في مجتمع ديمقراطي حقيقي ويعرفون كيف يحلون المشكلة.