دون كيشوت واحدة من أشهر وأمتع الروايات الغربية كتبها الأديب الإسباني الأشهر سيرفانتس في بداية القرن السابع عشر، بطلها نبيل إسباني يعيش في إحدي قري إسبانيا ينعزل عن العالم ويرفض الاختلاط بالمجتمع ويقضي وقته كله في قراءة كتب عتيقة عن فروسية القرون الغابرة حتي يصبح لايفرق بين الحلم والحقيقة أو بين الواقع والخيال. أصبح مهووسا بالفرسان القدامي وأعمالهم ومغامراتهم والقيم النبيلة التي كانت تسودهم، يقلدهم في كل شيء فيرتدي ملابسهم ودروعهم وسيوفهم، ويحلم بإعادة أمجادهم، ويقرر أن يسيح في مناكب الأرض مثلما كانوا يفعلون لكي ينشر العدل والحب وينصر الضعفاء ويدافع عن الأرامل واليتامي والمساكين. نشرت الرواية في وقت ميلاد العالم الجديد وانسلاخ أوروبا من القرون الوسطي المظلمة بعد أن تحررت من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية وانتهجت الإصلاح الديني وكنتيجة للاكتشافات الجغرافية والعلمية والثورة الصناعية، فلاقت نجاحا مدويا وأصبحت الرواية الأكثر شعبية في التاريخ ومازالت تعتبر أفضل رواية من بين أفضل مائة كاتب في العالم، شخصية دون كيشوت التي فتنت العالم الغربي وأثارت سخريته في نفس الوقت عادت إلي الحياة بعد ستة قرون هنا علي أرض الكنانة، حيث استيقظنا ذات صباح لنجد بيننا عدة آلاف مستنسخ من دون كيشوت، يتحركون بيننا في ملابس العصور الغابرة، ملوحين بالسيوف الصدئة كأنهم يصارعون طواحين الهواء. الفرق الوحيد بينهم وبين دون كيشوت أنه كان حالما مسالما لم يسئ إلي أحد، أما هؤلاء فقد تلوثت أيديهم بدماء الأبرياء من أبناء مصر ومحبيها ومؤلف كتاب الدنيا أجمل من الجنة واحد من هؤلاء المستنسخين من دون كيشوت، ثاب إلي رشده، وقرر أن يهدي التاريخ اعترافا بحماقة وسطحية ما كان يفعل هو وجماعته. -- الكتاب واحد من العديد من اعترافات التائبين العائدين من أرض الأوهام، يوتوبيا دار الإسلام التي تقام فيها أحكام الإسلام، ويحكمها أمراء الجماعة، فتية لم يتجاوزوا سن الرشد بعد، يدفعهم الجهل والغضب والفقر وشهوة الزعامة للتسلط علي الآخرين بدعوي أنهم القيمون علي هذا المجتمع، المحافظون علي أخلاقه الساعون لخيره. كأنهم أتوا بما لم يأت به الأوائل.. فلا الخلفاء الراشدون علي سمو أخلاقهم ونصاعة ضمائرهم ولا خلفاء الدولة الأموية أو العباسية أو الفاطمية، ولا حكام الأندلس أو أي دار من دور الإسلام في الهند والصين وأفريقيا.. استطاعوا أن يحققوا اليوتوبيا الإسلامية. وهم كبير زرع في عقول مجموعة يعلم الله من دفعهم إلي ذلك ومن مول حركاتهم ومن يحركهم من أعلي كما عرائس الماريونيت وكفل لهم السلطة المطلقة داخل الجامعات المصرية ليصولوا ويجولوا بلا رقيب أو حسيب. ويحكي مؤلف كتاب الدنيا أجمل من الجنة أن أعضاء الجماعة الإسلامية في كلية الطب بجامعة أسيوط، وهو واحد منهم، كانوا يعتمدون أسلوب ما سموه بتأليف القلوب بالهدية والزيارة وعيادة الطبيب وغير ذلك من وسائل لا حصر لها لمحاصرة الشباب وشراء أرواحهم والسيطرة علي عقولهم، وقد تكفلوا بجمع أوراق المحاضرات ونسخها في مطبعة وتوزيعها علي الطلاب بأسعار معقولة، وتنظيم دخول الطلاب إلي قاعة المحاضرات وخروجهم وتأمين أجزاء من هياكل عظمية لكي يدرس عليها غير القادرين من الطلاب، وتوزيع الهدايا علي الطلبة الذين سيلتحقون بكلية الطب لفتح سبل اتصال بينهم. يحدث كل هذا في العلن، بينما إدارة الكلية غارقة في النوم والأساتذة إما متواطئون أو غافلون نائمون في العسل يتركون الجماعة تتحكم دون وجه حق في الطلبة والطالبات ولما لا يجدون مقاومة أو مجابهة يتمادون في غيهم مسلحين بجنازير الدراجات المجهزة لترويع الطلبة وكسلاح أثناء العراك. ويشعر الفتي الغر بالزهو والفخار لأنه ينتمي إلي تلك الجماعة المنظمة كما أقوي سلطة شمولية، كأنها تعلمت من الشبيبة النازية التي تسير علي دربها، أو تنفذ حرفيا أسلوب الأنظمة الفاشية في تنشئة أبنائها، نظام صارم لايعرف الرحمة، يروعون به الصبية الأصغر سنا فينفذون حكم الجلد في شاب زعموا أنه لوطي، ويضربونه داخل المسجد أمام الجماعة ضربا مبرحا حتي ينزف، بعد أن رفضوا بحزم أن يؤم صلاتهم أو يخطب فيهم خطبة الجمعة، إن التجريس والطرد من الجماعة جزاء من يخرج عن طاعتهم، وحكم اللوطي في الإسلام أن يلقي إلي حتفه من مكان عالٍ. -- لقد تحول أولئك الطلبة من ذوي الخبرة المحدودة بالحياة إلي مندوبين للعناية الإلهية، وينفذون أحكام الإسلام عوضا عن فقهاء السلطان الذين يتبعون أهواءهم، وتنفيذا لفتوي ابن كثير بتكفير الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله، وأصبح تلميذ مدرسة الراهبات الفرانسيسكان أداتهم لتنفيذ الممارسات التي تعود بشبابنا ألف عام إلي الوراء. فيحفظ أجزاء من كتاب سيد قطب عن ظهر قلب ويقلد طريقة كتابته حتي إن الإخوة أطلقوا عليه لقب سيد قطب الصغير. وترتد آلة الزمن بطلبة الجامعة في واحدة من كليات القمة: كلية الطب، إلي الوراء.. إلي عدة قرون مضت وينفذ الراوي التعليمات بكل دقة: ثلاثة لا تهاون فيها جلوس الطالبات والطلبة متجاورين في قاعة المحاضرات، الدروس العملية المختلطة، والحديث المباشر بين طالب وطالبة، ويحكي مؤلف الكتاب كيف أنه نهي زميلا عن التحدث إلي زميلة ولما أخبره أنها شقيقته قال له بكل حزم وثقة حتي لو. الناس كما أنا لا يعلمون أنكما أخوان!! يفعل ذلك عن قناعة تامة بأنه يتبع قول الرسول الذي قيل له أن من أقواله: اتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء!! وليت الأمر يقف عند حدود كراهية المرأة والحض علي الابتعاد عنها، بل يتجاوزه إلي محاولة فصم عري الولاء والانتماء للوطن نفسه، وهو أخطر ما تمارسه تلك الجماعات المضللة علي الإطلاق، ويحكي المؤلف في كتابه الذي يفيض صراحة وشجاعة أن هتاف الصباح في المدارس تحيا جمهورية مصر العربية بالنسبة للجماعة تقديس ما لا يقدس من دون الله تعالي. لا وطنية في الإسلام إلا بمعني الدفاع عن أرض الإسلام الدفاع عن الإسلام في الوطن لا عن الوطن!!.. وأرض الإسلام هي كل أرض ارتفعت فيها راية الإسلام في الماضي أو الحاضر، وهذا يضم إسبانيا أو أجزاء من الصين إرجاعهما فرض عين علي المسلمين. وأن مكة أحب إلي قلوبهم من القاهرة. والقومية العربية صنم يجب هدمه!! إنهم لا يحرضون أتباعهم علي كراهية مصر الحاضر بسبب الاختلاف في الرؤي السياسية أو الاعتراض علي استبداد الحكم أو بسبب الحلم بوطن أكثر حرية واحتراما لأبنائه، وإنما هي تعليمات الممولين لتلك الجماعات بكشط ومحو واستئصال كل ما يصل الابن بأمه مصر في الماضي والحاضر والمستقبل. ولنقرأ معا هذه العبارة: اليهود أثناء الفراعنة والمسيحيون حتي البعثة المحمدية أولياؤنا لأنهم وقتها المدافعون عن التوحيد، وهم الآن أعداؤنا لأنهم لم يعترفوا برسالة محمد. العالم كله عدو لهم.. ولا أعرف من أين سيأتون بالأسلحة الجبارة والجيش العرمرم ليستعيدوا دار الإسلام من الصين ويعيدوا أمجاد الأندلس في إسبانيا ويقتحموا أسوار فيينا التي عجز العثمانيون عن اختراقها.. إلخ. إنهم يعدون عدتهم للخروج علي العالم بأسلحتهم القديمة المتآكلة التي ورثوها عن فقهاء عصر التتار والمغول مرتدين الخوذ والدروع، حاملين الرماح والسيوف الصدئة ممتطين جيادا عجفاء هزيلة صارخين في البرية واإسلاماه. -- هكذا فعل دون كيشوت، وهو يبارز طواحين الهواء، أما الفتي الراوي فلا يعدو أن يكون سانشوا بانزا، الفلاح البسيط الذي صدقه واتبعه بلا وعي. وهكذا فعل عشرات الآلاف من الشباب الغر الذي انساق وراء أوهام تلك الجماعات حالمين بيوتوبيا دينية لن تتحقق إلا في الحياة الأخري. شباب يعاني من أمية دينية تبيح لكل من يرغب أن يسطر ما يشاء فوق صفحة عقله البيضاء. وما هم إلا ضحايا تعليم لايشجع علي التفكير، ومدارس لا تفسح مجالا للابتكار والإبداع أو اكتشاف القدرات والمواهب، ومدرسون مضربون عن التدريس وجامعات مكدسة.. إلخ علي مدي ستة عشر عاما يتلخص التعليم في حفظ نماذج إجابات عن ظهر قلب، يلفظها التلاميذ فوق أوراق الإجابات في نهاية السنة الدراسية ثم تطير من عقولهم بمجرد أن يغادروا قاعات وسرادقات الامتحانات. النخبة المثقفة التي تهيمن علي الإعلام والأدب والفن تجاهلت التحول منذ بدايته وتركت الشباب يهيم باحثا عن نموذج وقدوة وأمل لم يجده في الحاضر فراح يلتمس الماضي، باحثا عن دور خارج إطار التهميش السياسي والاجتماعي والاقتصادي المفروض عليه. والمؤسف أن الدولة لم تجد من وسيلة لمقاومة طوفان الجهل الذي اجتاح جامعاتنا إلا بتسليط الأمن علي أعضاء الجماعات الإسلامية، وقد أدت تجاوزات رجال الشرطة وعدم احترامهم للقوانين، إلي رد فعل لدي الشبان يتسم بالتحدي والمقاومة العنيفة، فأسسوا دولة داخل الدولة، وردوا الإساءة بإساءة، فالحاكم كافر والمشاركة في انتخابات مجلس الشعب تمثل أشد صور الكفر بالله لأنه يسلب حق الله المطلق في وضع التشريعات للبشر ويمنحها لمجموعة من الناس، ولاسمع وطاعة إلا للخالق ثم لممثليه علي الأرض أي أمراء الجماعة. ولابد في النهاية أن نحيي الكاتب الشاب الذي ساعده عقله وذكاؤه علي اكتشاف الحقيقة، وأدرك، مثلما أدرك دون كيشوت في نهاية الرواية أن الثقافة القديمة لا يمكن أن تناسب العصر الجديد. ورغم النوايا الطيبة والرغبة الصادقة في مساعدة الوطن وهداية الناس فإن القيم البالية لاتصلح مطلقا لتحقيق الحلم الجميل وتفشل دائما في التواصل مع العصر. -- لقد كتب لرواية سرفانتس الخلود لأنها انتصرت للمستقبل وأثبتت أن الماضي لا يمكن أن يعود إلي الحياة، ذلك أنها انتهت يتبرؤ دون كيشوت المحتضر من أشباح الجهل السوداء التي جاءته من قراءة تلك الكتب البغيضة عن الفروسية. وندمه علي عدم قراءة كتب أخري يمكن أن تنير الروح.