لم يكن بين ريتا وعيون حبيبها الدرويش أكثر من بندقية، هكذا كانت الحكاية قبل عقودٍ خلت، كل ما عليك أن تفعله لتجد طريقك إلى الرضا عما تفعل، هو أن تأخذ أقصر الطرق بين حالة الاحتلال وحالة الحرية.. كما تقول القاعدة الرياضية الشهيرة إن الخط المستقيم هو الخط الأقرب بين نقطتين، يستثنى من هذه القاعدة حالتان لا ثالث لهما: الحب والسياسة. فى الحب عليك أن تتلاعب.. أن تسلك أية طريق إلا ذلك المستقيم الذى قد لا يوصل نقطتين ببعض أبداً طالما أن طبيعة النفس البشرية تتمنع على كل ما فيه رغبة واضحة وحاجة معلنة لتبادل روحى أو جسدى. فى الحب وحده تصبح الطرق الممكنة هى سيدة الموقف لا الطرق القصيرة، وتصبح فطرة الإنسان تجارية الأبعاد القائمة أصلاً، كما هو نظام التجارة الدولى على مبدأ التوازن بين العرض والطلب أو بالمعنى الرومانسى للجملة التوازن بين المشاعر والرغبات. فى السياسة الموضوع يتجه أكثر إلى التعقيد وقلة المصداقية، حينما يصبح الخط المستقيم الذى يفصل بين نقطتين هو أبعد الطرق وأصعبها، طالما أن ثمة بين كل نقطة ونقطة كماً من الحواجز والعوائق التى تعرقل مسيرة أولئك الذين يملكون عقلية الدون كيشوت فى بحثهم عن حلول نظرية لمشاكل تحتاج إلى الخبرة. فى السياسة يلزمك الكثير من الحنكة لتفاوض على نقاط لا ترغب فى الحصول عليها من أجل أن يمنحك الآخرون بدائل تبدو نظرياً غير مرضية فيما تكون هى أهدافك الحقيقية التى تركتها وراء ظهرك فى حركة تمويه ذكية. أما لماذا اليوم أبدأ كلامى بمجموعة جمل قد تبدو لكم غير مترابطة فلأن الحالة المقعدة التى وصلنا إليها من ضياع المفاهيم أوصلتنا إلى خلط بين مفاهيم لم نعد ندرك الخطوط الفاصلة بين أى واحد منها والآخر، الحب والسياسة والحرية هى أضلاع معادلة تهنا فيها قبل أن نصل إلى القرن الحادى والعشرين، أمة جاهلة حتى النخاع فى فهمها للسياسة شديدة السطحية فى فهمها للحب، قصيرة النظر فى نظرتها للحرية. هل سأل أحدنا نفسه كيف أنه اليوم يقبل مفاهيم فى حياته لم يكن فى يوم من الأيام يؤمن بها ثم تجرعها شيئاً فشيئاً حتى صارت جزءاً من حياته، إنها السياسة التى تلاعبت بالحب واستغلت حاجتنا إلى الحرية. لم يكن بين ريتا وعيون محمود درويش سوى بندقية.. معادلة بسيطة البندقية تأتى قبل الحبيبة من حيث إن الإنسان مسلوب الحرية لا يحق له أن يفكر فى رفاهية الحب طالما أن مقومات الإنسان لم تكتمل بعد لديه، الحب أمر لا يمكن أن يحدث عندما ينقصك وطن، مثلما أن السياسة أمر لا يحدث عندما تنقصك القوة. مع مطلع السبعينيات كنا كأمة قد دخلنا فى عصر الانفتاح ومع أننا لم نكن قد استرجعنا بعد وفى أى بلد من بلادنا ما كنا نعتبرها أرضاً محتلة، إلا أننا دخلنا فى السياسة.. فى السياسة ثمة عشرون بنداً متفاوتاً فى الأهمية بينك وبين البندقية أما بينك وبين ريتا، فلك الحق أن تبصق على قبرى إذا شعرت للحظة بأنك رجل إلى جوارها طالما أنك فى قرارة نفسك أضعت الحرية وخسرت كل أوراقك فى السياسة، إننا كأمة بدون أى استثناء غرقنا فى موجة من الانفتاح السياسى واعترفنا بإسرائيل بعضنا بشكل مباشر وبعضنا بشكل غير مباشر، فيما نحن نعلم جميعاً فى قرارة أنفسنا أن أولئك الذين اعترفنا بهم لن يعيدوا لنا شيئاً ذا قيمة مما أخذ منا، ولن يتنازلوا عن رغبتهم المعلنة فى أنهم يتحينون اللحظة المناسبة لشن حرب نهاية العالم، حيث تقول أساطيرهم أن لا أحد منا يجب أن يظل حياً بعدها، أليس من العجب أن نصدق مهما كنا بلهاء أن الحضارات القائمة أصلاً على محو بعضها بعضاً، يمكن أن تتحاور؟؟ ما علينا.. انتهى القرن العشرون بينما نحن نكاد بالكاد نذكر فلسطين وبينما نحن ننحسر فى قوتنا ويكاد نفطنا الذى لم نحسن استخدامه لفترة أن ينفذ، وبينما نحن قادرين على كل فنون العشق بعد ثلاثين عاماً من الإنتاج السينمائى الرومانسى الذى لم يبخل علينا بثنائيات الغرام التى تبدأ مع محمود ياسين ونجلاء فتحى ولا تنتهى مع أحمد السقا ومنى زكى، ولك الحق مرة أخرى أن تبصق على قبرى إن وجدت فى أى منها واقعاً يمكن أن يكون بجماله الذى تراه على الشاشة، طالما أنك تعرف أنك فرد من أمة منتقصة الكرامة.. اختارت أن تغلق مفهوم الطريق المستقيم الذى هو الأقرب للوصل من حالة لحالة واختارت بدلاً منه أن تدخل معركة السياسة بدون أية نقاط قوة وبمستوى متدنٍ من مهارات المناورة والتفاوض. هل علمتم الآن لماذا هنالك من يتحزم بالمتفجرات ليقف فى أية ساحة عامة ويفجر نفسه؟؟ إنه الإحساس بالعجز.. لا تطلبوا من الجميع أن يملك القدرة على التفريق بين الخطأ والصواب فى لحظة عجز. ببساطة.. لقد غرقنا ككيانات عربية فى ما اعتقدنا أنها السياسة كما غرقنا كأفراد فى ما نعتقد أنه الحب. إن مثلث الحرية والحب والسياسة هو ليس مثلثاً متساوى الأضلاع والزوايا كما نعتقد، إنه ثلاثة نقط تكاد تقع على خط واحد مستقيم تبدأ من الحرية وعليك أن تعلم أنك قطعاً لن تنعم بها وأنت سعيد بما لديك من ترفيه غرائزى يومى، بعد هذا تأتى السياسة لتضيف إلى أمة قوية مزيداً من القوة.. السياسة كطريق لكسب المزيد وليس لخسارة المزيد وأخيراً يجىء الحب.. عندها لا يعود بينك وبين ريتا ما يمنعك عنها أو يمنعها عنك، وخارج هذه المعادلة نكون كأمة بأكملنا كمن يرتدى ثياباً متناهية الأناقة ثم يرتدى فوقها الملابس الداخلية.