لا مفر من الهرب من أشواك التوتر الصاعق الذي تزدحم به أيامنا. نظرت حولي وسط الضجيج السياسي الزاعق فابتسمت، لأني مازلت أشاهد العشاق يواصلون رحلات الحب علي معظم كباري المحروسة، ولا أندهش من أن أغلب العاشقات المتراصات بين أيدي رجالهن من المحجبات، وأرق ما في ذراع كل شاب يحتضن أي بنت دعاء بأن يتذكر أي حزب سياسي مهمة إصدار برنامج يرسم فيه طريقا يمكن لقصص الحب أن تسير فيه لتعثر لنفسها علي حق العناق الحلال، ويرفض قلبي أن يصدق كلمات أي مرشح محتمل للمنصب الرئاسي، لأني لم أجد لأي منهم دراسة لاقتصاد مصر، لعلنا نخرج جميعا من زيف وعود مجيء المستثمر الذي لا يقترض من بنوكنا ليبني مشاريع يهرب بأرباحها خارج الوطن، وكأننا عدنا إلي زمن الامتيازات الأجنبية التي جاءت بعد احتلال إنجلترا لمصر عام1882 وأتأمل بطون النساء المنتفخة بأطفال قادمين، فيزعجني هذا الرغي السياسي الذي يتشابه مع شوارع المحروسة التي لم نستطع فك اشتباك ازدحامها بالسيارات ليل نهار ودون قدرة علي اكتشاف وسيلة لتنظيم المرور. وأرقب تزاحم الشباب الراغب في أن تكون له مكانة أو مكان، فتفاجئني الصحف بخبر احتجاز سلطات الشواطئ الإيطالية لمركبين بهما شباب مصري أراد أن يترك لنا البلد بكل ما فيها من وجع وعدم قدرة علي التآلف لنري أين نقف. وأسمع من بعض الشباب حكايات دامية، فمن بين الشباب المهاجر دون إجراء شرعي أسمع صوت أحدهم الذي أخذ حصيلة ما ادخره لخمس سنوات من العمل في مقاهي عمان، ومعه ثمن أسورة ذهبية كانت في ذراع والدته، وجمع من النقود ما يزيد علي سبعين ألف جنيه، ووافقه الأهل علي أن يدفعها كإيجار شقة لمدة تسعة وأربعين عاما، علي شرط أن يتسلمها طوبا أحمر ويقوم هو بتشطيبها، ومن يؤجره تلك الشقة هو من يبسمل ويحوقل، وله لحية تنافس لحي آل الريان الذين نهبوا ثم ألقوا الاتهام علي غيرهم. من يؤجر مثل تلك الشقة ويدعي التدين هو علي نفس درجة فساد استغلال أحمد عز، هذا الذي مازال يواصل الربح حتي وهو في ليمان طرة، فلم تتم مصادرة شركاته المنهوبة منا حتي كتابة هذه السطور. وكل من أحمد عز ومن يتاجر في استنزاف الشباب يدعي أن ما يدخل إليه ليس مالا حراما بل هو رزق من عند الله، رغم أن الشيطان بذات نفسه لم يملك تلك القدرة علي استنزاف البشر كما فعل صاحب هذا البيت، وكل هذا الاستنزاف يحدث لمجرد حلم شاب وفتاة لتحقيق الاكتمال، ولذلك فضل الشاب أن يدفع إيجار الشقة إلي صاحب مركب أعطاه الوعد بأن يصل به إلي إيطاليا، وهناك سيتعلم مثل أغلب المصريين إما العمل في جمع القمامة، أو صناعة البيتزا، وكل من العملين أقل شراسة من استغلال استئجار شقة لمدة تسعة وأربعين عاما، شرط أن يقوم الشاب بتشطيبها«!!». أبتسم لكل ذلك وأؤكد لنفسي أن السباحة في هذا البحر المتلاطم من الضجيج السياسي قد يتشابه مع مرارات ما حدث عند سقوط مصر بين أنياب الاحتلال البريطاني عام 1882 أو مع مرارة ما عاشه جيلي من مناخ أيام ما بعد هزيمة يونيو 1967 ،فمن المؤكد أن الجيل الذي عاصر بداية الاحتلال أو أيام ما بعد هزيمة يونيو دارت الدورة الدموية عكس دورتها في جسد أي شاب حساس من هذا الجيل أو ذاك، ورغم ذلك استطاع جيل ما بعد احتلال إنجلترا أن يهدينا محمد فريد ومصطفي كامل، واستطاع جيل ما بعد هزيمة يونيو أن يعيد لنا اكتشاف ما نملك من كنوز بشرية مثل الشهيد عبدالمنعم رياض وزمرته التي علمتنا أن نرفض الإحساس بالعجز رغم أنه كان يحيطنا. وأحكي عما يخص جيلي الذي اندفع أبناؤه يطلبون - ذات مرة - الانتقام من كل من تسببوا في تلك الكارثة، ويقفون في المرة الثانية علي خط النار كي يصنعوا عبور أكتوبر من عام .1973 فهل كانت رحلة إعادة بناء كل شيء من تحت رماد الهزيمة مجرد رحلة من صراخ؟ أقرر الآن - علي ضوء ما عشت - أنه وعلي الرغم من أن أصوات المدافع علي طول قناة السويس لم تهدأ طوال حرب الاستنزاف، إلا أن ليالي القاهرة لم تكف أيضا عن السهر والرقص وزيارة السياح لشارع الهرم. ورغم علو صوت واحد من المشايخ بلعن الكرة التي ألهت الشباب عن بناء أنفسهم إلا أن اللاعب محمود الخطيب كان في بداية تألقه كنجم تصفق له المدرجات. ولم تتوقف نجوي فؤاد أو ناهد صبري عن الرقص إما في كازينو هيلتون أو علي سطح فندق شبرد. وكانت المسافة من مصر الجديدة إلي السويس أو الإسماعلية أو بورسعيد ليست مجرد عدة كيلومترات، حيث يوجد المقاتلون، ولكن تلك الصحراء كانت ملجأ للعشاق؛ وتمر عبرها سيارات تحمل المقاتلين إلي الجبهة. كنت أندهش من نفسي في ذلك الليل الذي أنهي شهر ديسمبر لعام1968 وليبدأ عام 1969 وكان هذا الليل صاخبا بحفل أقمناه في شقة تحتل بدروم العمارة رقم واحد من شارع عمر بن الخطاب، كان معنا بعض الأصدقاء الذين كانوا في إجازة من الجبهة، وكان معنا بعض الأصدقاء الذين ينتظرون إنهاء إجراءات هجرتهم إلي الولاياتالمتحدة، وكان الجميع ينتظرون أن تهبط معجزة من السماء كي نخرج من تحت أحجار الانكسار. ولا أعرف ما الذي جعلني أجلس بجانب واحدة ترتدي ملابس سوداء كنت أظنها فستان سهرة احتفالا برأس السنة، ولاحظت أنها أغلقت البيك آب الذي تصدر منه الموسيقي الصاخبة، والسبب هو مقدم العميد عدلي شريف ضابط الاتصال المصري بيننا وبين الصليب الأحمر. وفوجئنا بأن السيدة الأنيقة تقترب من عدلي شريف سائلة إياه هل وجد أثرا لزوجها الذي كان مفقودا منذ حرب يونيو؟ لم أندهش حين علمت أنها أرملة واحد كان ضمن الذين أخذتهم الهزيمة في فمها المتوحش الذي كان له فك أسنان أمريكية وفك أسنانه الآخر اسمه التراخي في الاستعداد لتلك الحرب. تقدمت من السيدة لأجلس بجوارها، وجدتها تضع يدها علي كتفي قائلة «أنت كاتب شاب، وتندهش لأن واحدة من أرامل من استشهدوا علي رمال سيناء تحضر حفل وداع عام مع شلة أصدقاء، لاداعي أن تندهش، فالموت الذي ابتلع زوجي الذي بكيته دما، لم يستطع أن يجعلني أؤجل حقي في الحياة، وهذه أول مرة أسهر فيها خارج البيت بإذن أبي وأمي، فهما يعلمان أين أنا، ويعلمان أني قادرة علي الحفاظ علي نفسي أكثر من القادة الذين لم يحافظوا علي أجساد ضباطهم وجنودهم». وكان عدلي الشريف يروي لنا أن إسرائيل في رأي المقاتلين المصريين ليست هي العدو صاحب القدرة الخارقة، بدليل أن نوبات دخول المقاتلين الفدائيين لا تكف عن السباحة في قناة السويس وتعود بأسري منهم، والصليب الأحمر تقوم قيامته من أجل أن نفرج عن أسراهم. كان عدلي شريف قد أخبر نجلاء أن زوجها استشهد في دبابته ولم يترك سلاحه. وأن زملاءه مصممون علي القتال. وكنا ننظر إلي نجلاء بعيون حائرة، وهي تسود المكان بأنوثتها المتألقة وبحزنها المكتوم، ولذلك لم يجرؤ أحد علي الاقتراب منها سواي، لأن الجميع يعلمون أن لي قصة حب، وأن الحبيبة في بعثة إلي باريس وأني لن أتصرف بأي طريقة تزعجها، فهي بالنسبة لنا «أرض حرام». ولذلك لم تبتعد نجلاء عني ولم أبتعد عنها، ضحكت لها قائلا: «لا أعلم من منا في حماية الآخر؟ هل أحتمي بك من أجل ألا تزوغ عيوني علي الرقص مع أي واحدة تعاني من إحساس بالوحدة؟ أم أنك تحتمين بي كيلا يقتحمك أي شاب من الساهرين الراغبين في نسيان الزمن؟»، ضحكت نجلاء لتهمس: «حتي ضحكتي وضحكتك تسيل من داخلهما دموع، وكأنه مكتوب علي الضحك المصري أن يسيل منه الحزن»؟! أجبتها: «وكأنك تعرفين دقة التعبير عن المشاعر»، قالت: «مرارة ما عشته علمتني الكثير». والذي أعاد هذا المشهد إلي ذاكرتي سطور رواية أولي للكاتب حمدي عبدالرحيم، تلك الرواية التي تحركت سطورها من الورق المطبوعة عليه لتفترش قلبي بمناخ يمتلئ بالزهر، وتحمل لي من عطر سيدنا الحسين قصة ميلاد طفل قبل «كسرة» جمال عبدالناصر بعامين. ولم أجد عبر التاريخ الذي عشته كلمة أدق من «كسرة جمال عبدالناصر» التي عشناها نحن المصريين في نهاية أول عشر سنوات في تاريخنا الحديث ونحن دولة مستقلة تماما. ولابد لنا من أن نتذكر نحن المصريين أننا عبر القرن العشرين عشنا عشر سنوات كدولة مستقلة، بداية يوليو 1956 الذي تم فيه قرار تأميم قناة السويس، وحتي يونيو1967 التي ضاع فيها شباب رائع مثل زوج نجلاء، وفي تلك السنوات العشر استطعنا فيها بناء السد العالي وتشغيل كل من يتعلم علي أرض مصر المحروسة في مصانع أقمناها بمالنا دون انتظار لاستثمار أجنبي. وجاء ميلاد بطل رواية «سأكون كما أريد» لحمدي عبدالرحيم قبل عامين من انكسار جمال عبدالناصر، ووصل إلي عمر الدراسة وقت أن كانت القاهرة تغلي بمظاهرات تريد إنهاء احتلال سيناء، ومن يدقق النظر إلي النقاء والصفاء اللذين تحملهما كلمات الرواية، يمكنه التعرف علي جيل من هم في عمر أبنائي أنا الذي عشت مشاعر جيل سابق اقتحم دائرة الحلم بوطن مختلف، ولكن تمت سرقة الحلم من جيلي بعد أن تحقق النصر المعجز في أكتوبر من عام 1973 وها هو واحد من جيل الأبناء يقتحم دائرة الحلم بوطن مختلف عبر سطور روايته «سأكون كما أريد»، وما إن طالعت العنوان قبل أن أقرأ الرواية حتي قلت لحمدي: «لا أحد يستطيع الحياة كما يريد»، وكأني ببساطة ألقي علي كاهل روايته ما مر بي من عشق للحياة ومن رؤية رحلات تأجيل الحق في الحياة اللائقة لأجيال جاءت من بعدي. ويمكن رصد رحلات تأجيل حق الأجيال في مستقبل يليق بها من خلال إعادة النظر فيما فعله الانفتاح كسوس أخذ ينخر في إرادة سيادة أي منا علي نفسه ليكون أسير الاستهلاك، أو في تنافر العالم العربي الذي وصل إلي حد التقاتل الذي دهم به العراق الكويت، ثم دهمت أمريكا العراق بأكمله، وما الذي فعله التنافر بفكرة العروبة، من بعد أن دخلت مصر ثلاجة عصر مبارك، حيث تم تجميد إرادتها ليتبعثر أبناؤها من المحيط إلي الخليج بحثا عن الرزق بعد أن كانوا منتشرين كرسل تحضر وأمل. ولم أواصل إلقاء أحجار تجاربي علي أكتاف حمدي الذي أعرف نقاءه الفائق وقدرته غير العادية _ التي تلامس العبقرية _ حين أذاب في روايته تلك ثقافات وفلسفات تحتاج إلي أكثر من عمر كي يستوعبها إنسان واحد. وبدأت في قراءتها لتسرقني بداياتها بإشراقات الخديعة التي عشاها أي منا مهما اختلفت الأجيال، الخديعة التي يستقبلنا بها أب ودود وأم طيبة، يقسمان علي أن يقيدا أصابعهما شموعا لطريقنا. نري البيت الواقع في حي إضاءات الروح، حي الحسين بما يحويه من بيوت سبق وأنجبت نجيب محفوظ وجمال الغيطاني، ويلتقي عندها العالم بشرقه وغربه، أهل الشرق يطلبون من الحي مودة وقرابة، وأهل الغرب يبحثون في سيدنا الحسين عن رشفة إيمان تنقذ الروح المقتولة بسنابك تقدم لا يحترم التجلي لما في القلب من رؤي. ويولد الطفل ليكبر بمحبة أهل هذا البيت الذين تتنوع مشاربهم، ولكنهم يجتمعون علي مودة الصوفي والد الطفل، ويكبر بينهم ك «ديك البرابر» ولكنه ديك نقي تلمسه لا خطايا الأيام، اللهم إلا بالحضن البريء الطاهر لآمال بنت الجيران التي تشاغبه بأنوثتها المكتملة وهو طفل، فيتذكرها وهو ناضح عندما يري لوحة سلفادور دالي «فتاة النافذة» تلك اللوحة التي تضيء ألوانها بأنوثة امراة تعطينا ظهرها لكن تموجات الفستان تكاد أن تتطابق مع الملاءة اللف. ويكبر الولد تلميذا ناجحا وابنا وحيدا لتاجر من تجار هذا الحي، وهو من نكتشف عبر سطور الرواية أن هذا التاجر ليس إلا أجيرا عند مالك رحيم، فالرجل والد الطفل لا يملك المنزل، بل إقامته فيه هي هبة من صاحبه، لمجرد أن الأب متصوف نقي وصاحب المنزل من أتباعه. ونتعرف علي حقائق الواقع تباعا إلي أن نعيش مع الطفل رحلة نضجه التي تتماس بحرارة يكتشف بها ما فات عذابات أجيال مضت، فهو وإن كان حفيد الواقدي هذا المثقف العربي الذي رصد أحوال زمانه، ونتعرف من خلال رحلة حياة بطل الرواية علي تماس الماركسيين مع فنون الحياة بإبداعاتها التي أهدتها حضارة الغرب للإنسانية من موسيقي وأسلوب تناول الطعام،فضلا عن آداب الشرق والغرب، ونري في رحلة البطل كيف أن الإنسان الحق هو من لا ينسي جذوره ويتمثل ذلك في رصد التفوق في الخط العربي من خلال رشفات الروح لموسيقي صوت أم كلثوم وعود فريد الأطرش، وعيون الشعر العربي. وما أن ينضج بطل الرواية حتي نري له رفيقة روحه تسكب ساعات عمرها لرضاه دون أن يلتفت، فهي ابنة صاحب البيت الذي يقيم فيه مع عائلته وهو من يملك أيضا المحل الذي يدير منه الأب تجارته، وهي من تصحبه إلي لقاء عمها المناضل اليساري «رضوان» وهي من قبل ومن بعد من تزامله في كل أيام العمر دون أن يلتفت إلي محبتها. ونري كيف كان توقف القتال من بعد أسبوعين من حرب أكتوبر هو الصاعقة التي رفضها والد البطل، فكأنه رأي بعيون النقاء أن السادات سوف ينزع الخريطة المصرية من موقعها ليضعها في الجيب الأمريكي ولسوف يساعده في ذلك قادة العرب الذين يأتمرون بأوامر أصحاب القواعد الأجنبية. أضحك أنا كاتب السطور حين أتذكر كلمة قالها لي ابن ولي عهد دولة من الخليج، قال لي «هل تظن أننا نملك بترولنا؟ أنت واهم، فنحن لسنا إلا خفراء يحرسون للسيد المالك تلك الحقول ليغدق علينا بحياة مصنوعة كلها خارج بلادنا، وهي حياة قد تتوقف كأي لعبة من ألعاب والت ديزني، عندما ينضب البترول»، هنا قلت له «فال الله ولا فالك، أتمني ألا يحدث ذلك قبل أن نتواصل لننتج طعامنا وشرابنا وما يكفل لنا حياة مستمرة». قال لي «قبل أن تحلم هذا الحلم انظر إلي حجم الخلافات العربية - العربية». في سطور رواية «سأكون كما أريد» لمحات من كيفية بناء إرادة جيل يرفض التعامل مع ما يقدمه الغرب من ألاعيب كي يكسر بلاد العرب كاملة لتكون مرتعا للاستعمار الأمريكي الأوروبي وتكون وكيلته في ذلك هي إسرائيل. ويمكننا ببساطة أن نصف رواية «سأكون كما أريد» بأنها عمل فني شديد التماسك والرقي، رصد بدقة ونقاء أساليب تكوين مثقف ضد هذا الهلاك اللامع الذي يزين به الغرب طرقا متنافرة نسير فيها إلي مستقبل نصطدم فيه بحائط الانتحار. وعلي قدر خوفي طوال قراءتي لتفاصيل وأحداث الرواية من أن يقع كاتبها أسير الهتاف دون الالتفات إلي ما يطلبه الفن من رقي، إلا أنني أحسست بعد انتهاء سطورها أن مولودا جديدا جاء من بعد فتحي غانم وجمال الغيطاني ليكون هذا المولود مالكا لصفاء العبارة ودقة الوعي بالتاريخ. ولا أحد قادر علي تلخيص رواية مبدعة تبدو كأنها موسيقي من نقاء غلاب، ولكن الدعوة إلي قراءتها هي أمر شديد الأهمية فهي تخرج بك من مستنقع الضجيج الزاعق في شوارع المحروسة. ولن أشكر مؤلفها حمدي عبدالرحيم الذي شاء أن يتخيل لقاء وهميا بينه وبيني عبر سطور روايته، وفعل مثل ذلك مع أحبائي جمال الغيطاني وزوجته ماجدة الجندي، فقد شاء أن يشرفني بما كتب. وهو أمر لا يحتاج إلي شكر قدر احتياجه لرؤية هل جاء هذا في سياق فني أم لا. ولكن الشكر بالتحديد يتجه من قلبي إلي إبراهيم المعلم الذي نشر تلك الرواية بصفائها الشديد، وأتمني أن يواصل نشر الأعمال التي تضيف إلي الروح لا التي تخصم منه. ويا حمدي.. ياحفيد الواقدي المؤرخ المتسرب إلي وجدانك من العصر العباسي، ويا من شربت عشق العدل من بطلك رضوان وعشقت الموسيقي من عمك ويصا وعرفت كيف تصقل نفسك بثقافة الأقدمين والمحدثين قدمت ذلك بسلاسة نادرة نكشف لك بطون عمليات التجسس علي بلادك عبر مكاتب تدعي لنفسها الدفاع عن حقوق الإنسان، ولتكشف لنا مرارة تنقل أنثي شديدة الحيوية من رقي الأفكار إلي دنس السباحة في الذهب، وجسدت ذلك في شخصية رجاء التي ذهب بإيمانها ذهب تاجر بالدين يحلل التعامل مع العدو الإسرائيلي عبر اتفاقية الكويز، ويغطيها هذا الفاجر بملابس الخليج التي تنسدل علي المرأة فتفقدها حيوية التعبير عن نفسها، إليك يا حمدي مني محبة واحترام مع الاعتذار عن عجزي بمهمة تلخيص روايتك، فمن هو القادر علي اختزال هذا النقاء في بضع كلمات مهما كثرت، فهي ما ينطبق عليها المثل الذي أوردته أنت «الحب كالصيد رزق محسود» ومن المؤكد أن عملك الفني له أكثر من مرحب وأضعاف ذلك من الحاسدين. وهاهي روايتك تجعلني أسحب مقعدا لتجلس عليه روحي فترقب حركة أبطالك من نافذة أجسادهم وهم النابضون بالحياة.