منذ اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 1102 تزايد الحديث عن الانفلات الأمنى فى الشارع المصرى الذى أصبح واقعا معاشا على مختلف المستويات وفى جميع ربوع البلاد، وإن كان بدرجات متفاوتة، وفى حين ساعدت مجموعة من العوامل على شيوع هذه الظاهرة، تعددت التحليلات حول أسبابها، بل ذهب البعض إلى الحديث عن أنها ظاهرة متعمدة تهدف إلى إحداث، بل فرض، الردة عن الوضعية الثورية وتثبيت درجة من درجات الاستمرارية فى نهج قديم اندلعت الثورة للتخلص منه، وواقع الأمر أن المأزق الأمنى الذى تعيشه البلاد حاليا يمثل ملفا شائكا، ليس فقط بسبب تهديده اليومى للجبهة الداخلية والأمن القومى بمكوناته المختلفة، ولكن أيضا لارتباطه بمرحلة انتقالية بالغة الخطورة من المفترض أن تفرز معالم نظام جديد من خلال انتخابات يتطلع لها الجميع باعتبارها الأولى التى يتم تنظيمها بعد ثورة عبرت عن إرادة فى التغيير. وقد يكون من المفيد منذ البداية التذكير بحقيقة تناساها البعض وتتمثل فى أن الحديث عن الانفلات الأمنى فى أعقاب ثورة الخامس والعشرين من يناير قد سبقه نقاشات متعددة تناولت انتشار ظاهرة «العنف فى الشارع المصرى» قبلها، حيث كان هذا الملف موضوعا للعديد من المؤتمرات والندوات التى نظمتها مؤسسات مختلفة من بينها مركز بحوث الشرطة التابع لوزارة الداخلية، وقد تم آنذاك طرح العديد من المقولات الصحيحة التى تنطبق فى جانب كبير منها على الأوضاع قبيل أو بعد اندلاع الثورة. وبعبارة أخرى فإن الانفلات الأمنى الذى يتم الحديث عنه الآن لا يمثل ظاهرة جديدة على الساحة المصرية، حيث تم رصد ملامحه قبيل اندلاع الثورة وساعد المناخ الذى ساد فى أعقابها على تناميها لتفرض نفسها بشكل سافر على الساحة دون التقييد بمعايير الحذر والغموض التى ميزتها فى مرحلة سابقة. ففى أعقاب الثورة برزت على السطح معطيات جديدة صبت فى خانة تكريس نموذج سلبى للعلاقة بين المنظومة الأمنية والمواطن، سبق أن تم رصده قبيل اندلاعها بالرغم من الجهود التى سعت آنذاك لاستخدام التدريب كأداة لنشر مفاهيم حقوق الإنسان بين العاملين على إنقاذ القانون، وهى الجهود التى اصطدمت، على الرغم من إيجابيتها، بواقع وقف حجر عثرة أمام نجاحها وترجمتها الكاملة لتصبح واقعا ملموسا، خاصة فى ظل أولية مهمة تأمين النظام السياسى وحمايته على غيرها من المهام، مما فرض سلوكيات أمنية تحد، فى كثير من الحالات، من إمكانية الالتزام الكامل بمعايير حقوق الإنسان فى حالة اصطدامها مع التعليمات والأوامر. وقد حمل اختيار يوم الاحتفال بعيد الشرطة لإطلاق شرارة الثورة دلالة رمزية على شيوع هذا النموذج السلبى الذى لم ير فى الجهاز الأمنى سوى العصا الغليظة للنظام، مما يفرض حالة المواجهة معها. برزت فى أعقاب الثورة معطيات جديدة صبت فى خانة تكريس النموذج السلبى لطرفى العلاقة، على الرغم من أنه كان من المفترض أن تحدث القطيعة مع هذا النموذج ليحل محله علاقة التعاون بين الأمن والمواطن لتأمين الجبهة الداخلية والحفاظ على المكتسبات، حيث أثبت الواقع المعاش أن النموذج القديم لايزال هو السائد، بل تم إكسابه أبعادا جديدة من قبيل تغليب المشاعر الثأرية، على النحو الذى عكسته ظاهرة الاعتداءات المتكررة على مقار وأقسام الشرطة، فى وقت تلاشى التواجد الأمنى فى العديد من المواقع، وشاعت ظاهرة عزوف رجال الشرطة عن التعامل الحاسم مع المخالفين خشية الاحتكاك بالمواطنين وإمكانية التعرض لاتهامات قد تأخذ فى بعض الحالات صبغة سياسية، بل جنائية، وترتب على ذلك أن أضحت الساحة مهيأة لتفرض العناصر الخارجة عن القانون سطوتها، فيما أطلق عليه ظاهرة «البلطجة» فى وقت تضخمت فيه المكونات الاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية التى كانت وراء ما تم وصفه فى حينه بظاهرة «العنف» فى الشارع. فى خضم التطورات المتلاحقة والتجاذبات السياسية فى مرحلة انتقالية يغلب عليها طابع الارتباك، ترسخت لدى البعض حالة اللامبالاة بالقانون وتلاشت المعايير الأخلاقية فى ظل مفهوم خاطئ للثورة يرى فى الحرية أمرا مطلقا دونما رادع أخلاقى أو أمنى، وقد انعكس ذلك فى العديد من مظاهر السلوك السلبى التى وجدت من الفراغ الأمنى تربة خصبة للتمادى استنادا إلى القوة والعنف بجميع مظاهره. وبالتوازى ساعدت فجوة المعلومات السائدة لدى قطاعات عريضة من الشعب وعدم الفهم الدقيق لطبيعة التحديات التى تواجهها البلاد فى هذه المرحلة الدقيقة فى خلق مناخ ملائم لانتشار الشائعات من جانب، وإمكانية تعبئة الرأى العام ضد بعض المواقف خاصة ما اتصل منها بالمنظومة الأمنية من جانب آخر، حيث احتلت الصورة الذهنية السلبية موقع الصدارة ولم يكن من شأن إحياء شعار الشرطة فى خدمة الشعب وحده كافيا لتغييرها. وفى المقابل أدى شيوع الشعور العام بعدم الأمن إلى المطالبة المتكررة باستئناف جهاز الشرطة لمهامه المتصلة لتوفير الأمن، وكانت المحصلة النهائية لكل ذلك هى الوصول إلى المأزق الحالى، حيث تتعايش كل من المطالبة بتوفير الأمن من جانب، والنزعات الانتقامية منها من جانب آخر، فى ظل إطار عام من الشكوك المتبادلة بين طرفى المعادلة. وفى هذا السياق، خاصة مع أحداث الشغب التى دارت فى محيط السفارة الإسرائيلية وامتدت إلى مديرية أمن الجيزة، صدر مرسوم بقانون بإعمال جميع أحكام قانون الطوارئ الذى كان من المزمع إلغاؤه، بل توسيع دائرته، وعلى الرغم من أن الأمر يتصل بالفعل بحالة طارئة يلزم التعامل معها، فإن المرسوم تجنب تحديد المدة الزمنية للعمل به، مما أثار ريبة بعض القوى والائتلافات وتعددت التحليلات والتفسيرات حول حقيقة النوايا الكامنة وراءه. وإذا كان العرض السابق يلقى بعض الضوء على هذا الملف الشائك، فإن النظرة الموضوعية تؤكد على حقيقة أنه لا يوجد مجتمع يمكنه أن يعيش دون وجود جهاز يتولى مهمة حفظ الأمن والاستقرار، وتتلخص المشكلة فى تحديد نوعية وطبيعة العلاقة الناشئة بين هذا الجهاز والمواطنين، وفى ظل حالة الشك والريبة المترسبة فى الأذهان من ممارسات سابقة، وبروز متغيرات جديدة، أصبح من الضرورى إعادة تصحيح المعادلة ليس فقط من خلال تفعيل مواد قانون الطوارئ، لكن أساسا عبر مجموعة من الإجراءات تهدف إلى بناء الثقة المفقودة، ولعل من بين المقترحات التى تساعد على ذلك النظر فى إمكانية تعيين مفوض مدنى لحقوق الإنسان بوزارة الداخلية، توكل إليه مهمة تنظيم وتخطيط وتنفيذ عملية بناء قدرات العاملين بالجهاز للوصول إلى معادلة تحقيق الأمن دون الإخلال بحقوق الإنسان، ويكون المرجع فى جميع الشكاوى المتصلة بما يتم رصده من شكاوى أو اتهامات بالقيام بانتهاكات فى هذا الخصوص، ويتولى عملية مخاطبة الرأى العام بطريقة حيادية من شأنها جسر الهوة بين طرفى المعادلة، والخروج من هذا الوضع بالغ الخطورة.