مرة أخرى تعيش دمياط لحظة تاريخية.. تدعونا جميعا للفخر بأن مصر بها مثل هذا المجتمع المتحضر.. وما يحسب للمجتمع الدمياطى أن هذه الإنجازات التى شهدتها المحافظة لم تكلف موازنة الدولة جنيها واحدا، وإنما تم توفير نفاقاتها بجهود ذاتية ومشاريع بيئية وصناعية يمتلكها سكان دمياط أنفسهم.. وهو ما يترجم - مرة أخرى - المشاركة المجتمعية فى التنمية والنهضة الاقتصادية.. بل إن دمياط قد تصبح خلال السنوات القادمة قاطرة التنمية لباقى محافظات مصر فى شتى المجالات.. فهى محافظة حققت اكتفاء ذاتيا بل تقدم للدولة أيضا الكثير سواء على المستوى المادى أو التنموى أو الفكرى. لاشك أن ما حققته دمياط من إنجاز عالمى خلال السنوات الأخيرة لم يأت من فراغ وله جذور تاريخية وتراكمات مرت عليها سنوات طويلة توارث خلالها الدمايطة تقديس العمل وتحمل عبء الدفاع عن بوابة استراتيجية لمصر.. ولن يتخيل أحد أن تلك المحافظة التى حققت نجاحا عالميا فى سنوات بسيطة كانت تعانى من مشكلات »كارثية« ربما لم تتعرض لها محافظة أخرى فى مصر! ولكن دمياط لا تمثل استثناء وإنما باقى محافظات مصر هى التى تتخلف كثيرا عنها، ففى الوقت الذى استطاع فيه سكان دمياط تحويل مهن أسرية بسيطة مثل النجارة، وصناعة الحلويات والألبان وغيرها إلى استثمارات عالمية ناجحة خاصة صناعة الأثاث التى تعد العمود الفقرى للحياة والاقتصاد الدمياطى.. فوصلت للعالمية فى جودتها وإنتاجها » كما وكيفا « وأصبحت دمياط هى الأشهر فى هذا المجال بين مدن حوض المتوسط ووصل عدد الورش بها حتى الآن إلى ما يقرب من 40 ألف ورشة، و2000 صالة لعرض الموبيليا، وبلغ عدد المشتغلين فى صناعة الأثاث نحو 150 ألف عامل ولأن دمياط يتركز بها حوالى 70٪ من أسطول الصيد فى مصر »ثانى أهم مهنة فى المحافظة« فقد أثرت بشكل ملحوظ على كل أبنائها، سواء ممن يعملون بها أو فى غيرها، فتعلموا معنى الصبر واصطياد الرزق وتحمل أسوأ الظروف. هذا فى الوقت الذى نجد فيه أبناء باقى المحافظات من حملة المؤهلات ينتظرون فرصة للتعيين ويهدرون الوقت بحثا عن واسطة أو رشوة للالتحاق بوظيفة ثابتة.. ربما لأن السواد الأعظم من المصريين ينتمون إلى مجتمعات زراعية نشأت على ثقافة انتظار نضوج الثمار على الأشجار أو ربما لأنهم لايزالون مقتنعين بشعار »إحنا عيال الحكومة«! ؟؟ ربما لا يتخيل أحد أن دمياط منذ 4 أعوام، وتحديدا منذ 2005 كانت تعانى من مئات المشاكل المعقدة أبسطها مشكلة النظافة وانتشار القوارض، التى كانت تكلف المحافظة سنويا 600 ألف جنيه مبيدات لمكافحتها ولم تكن تقضى عليها، لأنها نتيجة طبيعية لوجود 13 منطقة عشوائية كانت عبارة عن برك ومستنقعات وقمامة وحيوانات ضالة.. فكان الحل فى شق طريق دائرى كبير فى منتصفها وتحويل خطوط الضغط العالى الهوائية إلى كابلات أرضية. ولكن صندوق المحافظة وقتها لم يكن به سوى مليونى جنيه، فتضافرت جهود أبناء المحافظة وانهمكوا فى العمل بأيديهم لتطوير تلك المناطق وتنفيذ المشروع تحت إدارة وتخطيط محافظ أجاد استثمار محفظة أصول المحافظة بشكل جيد.. وإعادة تدوير واستثمار أصولها، فأصبحت هذه المناطق بعد تطويرها ورشا للتصدير قدمت ملايين الدولارات للاقتصاد القومى! الدمايطة استثمروا رباعية » الإنسان والبحر والنهر والبحيرة « لتحقيق نهضتهم الحديثة، فالمشروعات التى تم إنجازها وغيرها سواء فى رأس البر أو فى دمياط - المدينة - من خلال شاطئ النيل تعد بالفعل معجزة، ليس فقط لأنها أصبحت أيقونة جمالية نادرة الصنع، لكن بل لأنها معجزة هندسية عالمية بكل المقاييس تم تنفيذها بعقول وأيادى دمياطية خالصة بعيدا عن »الشو الإعلامى« الذى احترفه الكثيرون! لم يكن هذا فقط لعدم إثارة الذعر بين أبناء تلك المنطقة، إذا ما علموا بالمخاطر التى تهددهم، لكن لأن المواطن الدمياطى اعتاد العمل فى صمت حتى تتحقق المعجزات.. لذا فقد جرى تنفيذ المشروع على اعتبار أنه مجرد إنشاء كورنيش للمدينة رغم أنه واحد من أكبر مشروعات تثبيت التربة وتدعيم جسر النيل! وفى سرية تامة انطلق فريق عمل من أساتذة الجامعات المتخصصين على أعلى مستوى لإعداد المشروع الذى تمت مراجعته من شيوخ المهندسين الإنشائيين وبالتعاون مع واحدة من أكبر بيوت الخبرة فى هولندا حيث تلخص المشروع فى دق ستائر معدنية من قطاعات صلب خاصة مصممة لهذا الغرض ومستوردة من أكبر المصانع العالمية بعمق يصل إلى 36 مترا على خط نهاية جسر النهر من جهة المياه.. وربط هذه الستائر بواسطة شدادات معدنية بكمرة خرسانية قوية مثبتة أعلى مجموعة من الخوازيق الخرسانية لضمان ثباتها فى وضع رأسى ثم ملء وتعلية الجسر حتى منسوب طريق الكورنيش القديم لتشكل الستائر الحديدية جدارا قويا يحول دون تحرك التربة أسفل أساسات البيوت فى اتجاه نهر النيل، وبالتالى تم تثبيت تربة جسر النيل وأنشئ عليه الكورنيش الجديد بعرض كبير بعد إضافة المسافة التى تم تعليقها من جسر النيل، وتمت هذه الملحمة فى زمن قياسى وكان العمل يتواصل » ليل نهار « حتى تم إنقاذ المدينة فى ثمانية أشهر، وإنقاذ منازل كانت مهددة بالانهيار! وكذلك الجاليرى العائم من خلال توظيف الكوبرى القديم الذى خطفه الدكتور فتحى البرادعى - محافظ دمياط - من أيدى تجار الخردة، وضخ فى عروقه وأوصاله الدماء ليكون مركزا ثقافيا عائما يكمل رسالة مكتبة مبارك التنويرية فى دمياط وضواحيها. والذى تم نقله فى موكب كبير » عائم« على سطح النيل، وهو ما انفردت »روزاليوسف« بنشر تفاصيله قبل افتتاحه بشهور ليكون بمثابة ملحمة شعبية جديدة لخصها أهل دمياط فى لافتة فى موقع بارز من الكورنيش » إحنا إللى نقلنا الكوبرى«! وعندما وقعت أزمة مصنع أجريوم الشهيرة لم تتحول المحافظة لساحة قتال كما حدث فى المحلة ولم توقف المصانع نشاطها، ولم نسمع عن إضراب أو اعتصام فقد قدم شعب دمياط مثالا رائعا للاحتجاج المتحضر دون أن يتوقف العمل ولو ساعة أو نرى مخربا يتلف مصباحا فى شارع، حتى انتهت الأزمة بحل يرضى جميع الأطراف! فى دمياط نجد ثقافة عميقة فى احترام العمل والعمل الحر فى مواجهة ثقافات انتشرت فى محافظات مصر كلها وكأنها الطاعون »إضرابات واعتصامات وتخريبا«.. وهى المفاهيم التى تجاوزت الفئات العمالية إلى فئات أخرى من المفترض أنها أكثر وعيا وثقافة مثل الأطباء والصيادلة وخبراء العدل! فالأطباء هددوا بالتوقف عن العمل - حسنا - سيمر يوم دون أن يفارق أشخاص الحياة بحقنة بنج أو يصاب آخرون بڤيروس )( عن طريق الخطأ؟!.. أو يغادر مرضى غرف العمليات وفى أحشائهم مشارط ومقصات وأدوات جراحية ؟! سيضرب العمال فى المصانع - حسنا - ما الفرق ؟!.. هل كانت المصانع تنتج أصلا؟! موظفو الضرائب مضربون ؟! فعلا خسارة.. أضاعوا على الدولة 27 دقيقة من العمل المتواصل يوميا حسب دراسة تؤكد أن هذه هى الفترة التى يعملها الموظف المصرى خلال يومه!! هذه هى الشرائح التى كانت تتندر على الدمايطة وتحاول أن تنال من نجاحهم وتفوقهم!.. متواكلون لا يعملون ويطلبون ما لا يستحقون.. بينما الدمايطة مواطنون يستمدون قوتهم من الإصرار على مطالبهم وحقوقهم.. من شعورهم بالقيام التام بواجبهم فى المجتمع، ولكن بلا توقف عن العمل، فالإضراب والاعتصام كلمة لا وجود لها فى قاموسهم!