نكشف تفاصيل أكبر عملية «فجور سياسي» للنظام المخلوع مهمة شاقة أن تحاول العثور علي الصندوق الأسود لإدارة البلاد .. تحليل البيانات وفك الشفرة وكشف النقاب عن الأسرار المخبوءة، ولحظات الصراحة الكاملة قد لا يستطيع أن يتحملها الوطن في الوقت الحالي .. سيولة وانسياب للمعلومات لم تشهدها مصر عبر تاريخها .. كل ورقة أو لقطة فيه تجعلك تقف أمام تقاطعات من الحيرة لأكبر عملية تزييف وتغييب سياسي في التاريخ لأكثر من 60 عاما وليس 30 فقط .. عندها فقط أيقنت أن «ليس كل ما يعرف يقال أو ليس كل ما يقال جاء أوانه» إلي آخر حكمة الإمام علي رضي الله عنه. في ذات اللحظة تملكتني الدهشة من ردة فعل المعارضة في مصر قبل عدة أشهر حين هاجت علي رئيس الوزراء الأسبق «نظيف» لما وصف المصريين صراحة بأنهم «غير ناضجين لممارسة الديموقراطية» وردوها في وجهه واتهموه هو بعدم النضج السياسي. رغم أن ما قاله الرجل في لحظة صدق وبجاحة، يكشف عن الرؤية التي تنظر وتدير بها الدولة عمليتها السياسية منذ ثورة يوليو 1952 في أطول وأكبر عملية تزوير سياسي تشهدها أمة، وشارك في حبكها الأحزاب والجماعات والتيارات السياسية التي لم تتنازل يوما عن كونها الجناح الثاني للنظام السابق عبر عصوره المختلفة والمتورطة والمتواطئة معه في كل جرائمه التي سرقت وابتذلت وباعت أصواتنا في مزاد قبض ثمنه غيرنا! تزوير الانتخابات ممنهج.. يسير تحت جلد الوطن.. يتم باحتراف منقطع النظير.. القصة كلها تعتمد تقارير أمنية وسيطرة وكنترول علي المزاج المصري.. للمعارضة فيها دور مرسوم تلعبه حسب قوتها أو مرونتها أو خضوعها لتكتمل التمثيلية.. تمر الانتقادات والحديث عن شبهات التزوير في حدود معدة وفقا لسيناريو معلوم أصلا. ما كان يجري سابقا كوم.. وما جري في خريف 2010 كوم آخر.. فما كشفته التقارير الخبيئة في الصندوق الأسود من وثائق أمن الدولة تؤكد أن ما حدث في الانتخابات البرلمانية الأخيرة والتي أشرف عليها «أحمد عز» هي ممارسة «فحش سياسي»! الفجور السياسي الذي احترفه «عز» من إقصاء شبه كامل للقوي السياسية التي ارتضت بالفتات، ولم يرض هو.. كانت رصاصة الرحمة للنظام السابق الذي سلمه عن طيب خاطر مفتاح الكرار.. حيث أغشاه الله.. فلم ير سوي هدف تجهيز المسرح السياسي للبلاد ليعتليه الوريث «جمال مبارك»، وكانت كفيلة بانسداد كل شرايين الدولة، وأصابت عقل وقلب عهد مبارك بجلطات لم تفلح معها أي عمليات قسطرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكتبت لتاريخه السياسي والعسكري شهادة وفاة للأبد! - الخطة الأصلية كعادته كان جهاز أمن الدولة - المنحل - قد أعد الخريطة الكاملة للانتخابات البرلمانية الأخيرة وحدد نسب نجاح ومشاركة القوي السياسية بميزان حساس.. رتب أوراقه، وستفها، وزورها بما يتناسب مع المشهد السياسي في تلك الفترة التي تستعد فيها البلاد لانتخابات رئاسية يأملون من ورائها أن يعتليها الوريث «جمال». الجهاز رأي في تقاريره التي اطلعنا عليها ونقلناها عن شهادات ضباط الجهاز وجوبية إعطاء مساحة أكبر للمعارضة لامتصاص غضبها، ونزع فتيل الاحتقان السائد عن عملية توريث الحكم بما لا يخل أيضا بكفة أغلبية الحزب الوطني، حتي لا تتعرض الحكومة لأي عمليات سحب ثقة أو إحراج تحت قبة البرلمان، وهو ما تم فعلا بالتنسيق بين الجهاز والحزب الوطني والقيادة السياسية. ملامح الخريطة التي كانت معدة ووضعها ضباط قسم الأحزاب بالجهاز المنحل ووافق عليها واعتمدها «حسن عبد الرحمن» - الرئيس السابق للجهاز- و«حبيب العادلي» وزير الداخلية الأسبق - تشير إلي ضرورة حصول حزب الوفد علي 30 مقعدا و15 للتجمع و5 للإخوان قابلة للزيادة حسب تعاون الجماعة مع النظام، ونسب أقل لأحزاب الناصري وغيرها من الأحزاب الصغيرة.. علي أن يحصل حزب الغد - جبهة موسي مصطفي موسي - علي مقعدين إلي ثلاثة.. في حين يحصل المستقلون علي ما يقرب من 69 مقعدا. اللافت استحواذ حزب الوفد علي 30 مقعدا كمكافأة لتعاون رئيسه «السيد البدوي» مع الدولة بعد تنفيذه التعليمات.. سواء دوره في تفخيخ جريدة الدستور بشرائها وإبعاد الصحفي «إبراهيم عيسي» عن رئاسة تحريرها أو مصالح البيزنس الخاص به مع شريكه «إيهاب الكردي» _ شقيق زوجة حسن عبد الرحمن - في شركة سيجما للأدوية والتي جعلته يمد العيادات الطبية بمقر مباحث أمن الدولة في أكتوبر بأدوية من الشركة مجانا ! بالفعل جرت مفاوضات مع «البدوي» لتحديد قائمة الوفد والأسماء التي ستدعم الدولة اختيارها ومنها نجاح اللواء «سفير نور» في دائرة الدقي وأيضا «رامي لكح» في شبرا في حين جري خلاف حول اسم «محمد مصطفي شردي» حيث طلب «البدوي» ضرورة نجاحه، وهو ما رفضه الجهاز ! من الأسماء التي كان مستقرا عليها من أحزاب أخري «الرشيدي» - مرشح حزب التجمع - في دائرة الحوامدية وأيضا «عزب مصطفي عزب» - مرشح الإخوان - في الجيزة والذي يتصف بالمرونة والتفاهم كما يري الجهاز! - شياطين التزوير الخطة تم تنفيذها كاملة قبل الانتخابات بشهر عن طريق تزويرها عبر طريقة مبتكرة لا تخطر علي بال الشيطان.. وليس كما يتصور البعض بالطرق التقليدية عن طريق تسويد البطاقات أو حرق الصناديق أو إلقائها في النيل فيما كان يوصف بالطريقة «البلدي» للتزوير.. فتطور جري في فكر الجهاز التزويري اعتمدها وتورطت فيها المطابع الأميرية التي تتولي طباعة أوراق التصويت - البطاقات الانتخابية - بالتسلسل الرقمي ثم تطبع نفس النسخة إلي جهاز أمن الدولة ويتسلمها ضباط الجهاز، حيث يتم اختيار مجموعة منتقاة منهم بعناية يتم عزلهم في غرف مغلقة تعد منطقة محظورة يقومون فيها بتسويد البطاقات حسب الأسماء المطلوب نجاحها من كل التيارات السياسية! الضباط يقومون بختم البطاقات بنسخة أخري متطابقة مع الختم الموجود أصلا في مديريات الأمن، وبعد الانتهاء من التسويد يقومون بوضعها في أظرف مغلقة تكتب عليها اسم المدرسة التي تضم اللجان التي سيجري التزوير فيها، وعادة ما كان يجري اختيار المدارس التي تضم فيها أكبر عدد من اللجان إنجازا للوقت، وتسلم هذه الأظرف إلي مجموعة أخري من ضباط الجهاز التي تتولي توصيله إلي داخل صناديق الاقتراع كل حسب ظروف لجنته صبيحة يوم التصويت ! فبعضهم يطلب من ضباط المباحث المسئولين عن تأمين اللجان إغلاق اللجنة لمدة 10 دقائق يستطيع خلالها القفز من علي سور المدرسة، وآخرون يبيتون مع المظروف في غرفة مدير المدرسة في ليلة الانتخابات حتي يسهل تنفيذه المهمة، وآخرون يمررونها عبر وجبات الأكل المقدمة لأفراد الخدمات لتسليم الظرف إلي رئيس اللجنة ووضع البطاقات المسودة مسبقا في الصناديق ويحصل منه علي نفس عدد البطاقات التي لم تستخدم في اللجنة حتي لا تكتشف عملية التزوير أثناء الفرز. يحسب للنظام السابق تفوقه فقط في عملية التزوير الممنهج أنه لم يكن يترك أي أمر لحسابات الصدفة.. فعملية اختيار رؤساء اللجان تتم عن طريق قسم الطلبة في جهاز أمن الدولة المنحل التي تنتقي العناصر المتعاونة لهذه المهمة ويتم الاجتماع بهم قبل يوم التصويت، وإبلاغهم بدورهم في تسهيل مهمة ضباط أمن الدولة والذين عادة ما يؤدون مهمتهم في منتصف يوم التصويت حتي لا تلفت الصناديق المملوءة نظر الناس إذا تم ذلك صباحا فيبدو الأمر أن إقبالا قد جري علي التصويت.. وبذلك تتم العملية في الخفاء ودون الأساليب الممجوجة والمكشوفة سابقا ودون التدخل أثناء نقل الصناديق أو الفرز كما كان يجري مسبقا في أزهي عصور الديموقراطية المزيفة التي كنا نعيشها! حتي علي سوء إدارة البلاد في السابق.. كانت تجري مواءمات وصفقات سياسية تمنع الانفلات أو الاحتقان السياسي.. ويبدو أن جهاز أمن الدولة الذي كان يدير الحياة السياسية في مصر أكثر ذكاء واتساقا وقوة مع الأوضاع في مصر، ويشترك معه في نفس المواصفات الحرس القديم من الحزب الوطني أمثال «كمال الشاذلي» و«يوسف والي» و«صفوت الشريف». - فجور «عز» الحرس الجديد الذي تولي قيادة الحزب الوطني إقصائي بالتخصص.. لم يحترف قواعد اللعبة.. انتشاء القوة أغشاهم فهم لا يبصرون.. سارعوا بتعجيل سيناريو التوريث.. فعجلوا بنهايتهم.. فبعد الانتهاء من تنفيذ خطة أمن الدولة لم يكن باقيا منها إلا تنفيذ الخطوة الأخيرة يوم إجراء الانتخابات نفسها وتجهيز الأظرف المملوءة بالبطاقات المسودة بمعرفة ضباط الجهاز.. حتي انقلب الأمر تماما بسبب الزيارة التي قام بها «أحمد عز» - أمين التنظيم في الحزب الوطني المنحل - مصطحبا ثلاثة من معاونيه إلي مقر أمن الدولة بمدينة نصر قبل الانتخابات ب 48 ساعة لمقابلة «حسن عبد الرحمن» للتصديق والتجهيز علي ما تم.. حتي فاجأه «عز» بأنه أتي في مهمة رسمية وتكليف من القيادة السياسية وقدم خطة جديدة وقائمة جديدة بالأسماء التي اختارها هو بنفسه بالاشتراك مع «جمال مبارك» لإنجاحها في البرلمان سواء من داخل الحزب الوطني أو خارجه! وهو ما اعتبره «عبد الرحمن» أمرا مستحيلا سياسيا وتنفيذيا لضيق الوقت، ورفع الأمر علي وجه السرعة إلي «حبيب العادلي» الذي رفعه بدوره إلي الرئيس السابق الذي جاء رده حاسما وصادما: «شوفوا أحمد عايز إيه»!! أسقط في يد «حسن عبد الرحمن» الذي نفذ أوامر القيادة السياسية وأعلن حالة التأهب القصوي بين ضباطه لإتمام خطة «أحمد عز» البديلة علي وجه السرعة خلال 48 ساعة.. وإن شهدت بعض التوترات والخلافات حول بعض الأسماء خصوصا «سفير نور»، حيث أصر الجهاز علي إنجاحه علي حساب «سيد جوهر» في دائرة الدقي، وكان أن قال رئيس جهاز أمن الدولة السابق إنه يكفي «عز» ما طلبه وعليه أن يترك لنا بعض الأسماء وتحولت مقار أمن الدولة وفروعها إلي خلية نشاط للانتهاء من تنفيذ مطالب عز في هذا الوقت القياسي. «عز» طلب صراحة إسقاط «حمدين صباحي» رغم أن ضباط جهاز أمن الدولة في كفر الشيخ لم يصدقوا التعليمات وأرسلوا إلي قادتهم معلومة تفيد استحالة إسقاطه، وكان تعليق أحدهم: «إن أسفلت الشوارع يحبه هناك».. وكذلك مصطفي بكري في مقابل إنجاح محمدعبد العال أبو سنة - حزب العدالة الاجتماعية - والذي يطارده 23 حكما ومسجل جنائيا وعادة ما كان يتعرض للقبض عليه في حملات تنفيذ الأحكام ! - كوميديا سياسية المشهد الأخير كوميدي بالأساس، حيث اصطفت قيادات الحزب الوطني يوم التصويت وأثناء الفرز وبعد النتيجة أمام الكاميرات في مقر الأمانة العامة للحزب التي احترقت بفعل فجورهم، ليعلنوا عن خطتهم المحكمة وشعبية حزبهم الجارفة وسياساتهم التي تداعب طموحات المصريين.. في نفس التوقيت كان ضحكات ضباط أمن الدولة أعلي من أصوات «عز» و«الشريف» و«عزمي» و«جمال» وهم شهود علي أكبر كذبة سياسية في تاريخ مصر كانت كفيلة بسقوط النظام. ذلك النظام الذي أسس بقراراته وسلوكه اليومي لدولة «بوليسية» بامتياز، يتولي فيها اللواءات كل المناصب القيادية، وتتحكم فيها تقاريرُ الأمن في كل شيء، من تعيين السعاة في المكاتب، وحتي اختيار العاملين في معامل الجامعات وإدارة الانتخابات البرلمانية. وهو نفسه النظام الذي جعل من الطبيعي أن يكونَ كلُ رجال الأعمال تقريبا منتسبين بالعضوية والمساندة والدعم المالي والإعلانات الصحفية المدفوعة إلي حزب السلطة المطلقة - الحزب الوطني المنحل - رغم أنه لم يدع يوما أنه حزب «رأسمالي» ليصبح معه ذلك «الزواجُ شرعيا». «عز» ومجموعته نجحوا في ربط النظام بالحزب بالأمن بمجموعة من المصالح المتشابكة التي تستولي بسلطتها أو بأموالها أو بنفوذها علي الإدارة ثم علي الحكومة ثم علي الدولة كلها.