العلاقة بين الفن والسياسة هى أشبه بالعلاقة التزاوجية، فهما وجهان لعملة واحدة، بل عضوان فى جسد واحد، إذا صلح حال السياسة، صلح حال الفن، وإذا أصيبت السياسة بوعكة صحية، أصبح الفن فى أسوأ حال، الفن مثله مثل الأدب والصحافة والإعلام لابد أن يخرج صوته من صميم عقله، وأن يكون هذا الصوت هو صوت الضمير الذى تقع عليه مسئولية إيقاظ الوطن عندما يكون فى حالة غيبوبة وألا تكون الوسيلة السائدة للوصول إلى الحاكم هى الطبل والزمر رغم أن هذه الوسيلة موجودة من عصور قديمة، عندما كان الشعراء يمتدحون الحاكم طمعا فى منحه وعطاياه، مثلما كان يفعل «المتنبى» مع «سيف الدولة الحمدانى» وإن كان موقف «المتنبى» عروبيا، عبد الوهاب لإحساسه بأن سيف الدولة الحمدانى هو الحاكم العربى الوحيد فى المنطقة وعليه مناصرته والوقوف بجانبه وصولا إلى الطبل والزمر عن طريق الغناء ليقف المطربون - المفترض أنهم ضمائر الشعوب - ليسيروا على موجة النفاق العام. للوصول إلى المنافع الشخصية، وإن كان هذا لاينفى وجود بعض الشرفاء من الفنانين الذين كان ولاؤهم للوطن أكثر منه للحاكم. علاقة الفن بالسلطة بدأت مع ثورة 1919 عندما نفى «سعد زغلول» - زعيم الثورة - للمرة الأولى إلى جزيرة مالطا، ولما عاد كان سيد درويش قد انتهى من تلحين أغنية لتلك المناسبة، وهى أغنية «مصرنا وطنا.. سعدها أملنا»، التى كان يخاطب فيها «سعد» نيابة عن ملايين المصريين بالاستمرار فى النضال والمقاومة ضد الاحتلال الإنجليزى، ولما نفى سعد زغلول للمرة الثانية إلى جزيرة سيشيل لحن له سيد درويش أغنية «يا بلح زغلول» ليغنيها له عند عودته عام 1923 إلا أن القدر لم يمهل درويش لتحقيق حلمه فمات قبل عودة «زغلول»، لتغنيها له سلطانة الطرب - آنذاك - منيرة المهدية. ام كلثوم «سيد درويش» الذى كان يحرض بأغانيه المصريين لطرد الملك فؤاد الأول ومن ورائه الإنجليز فيقول لهم: بنو مصر مكانكم تهيأ.. فهيا مهدوا للملك هيا.. وخدوا شمس النهار حليا».. ما فعله درويش بنضاله الفنى والغنائى فعل عكسه - أيام الملك فاروق - كل من أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب اللذين تغنيا فى حب فاروق بعد أن تولى عرش مصر عام 1936 فغنت أم كلثوم له عند زواجه من الملكة فريدة فى 20 يناير عام 1940 أغنية «لما جبينك لاح» من كلمات أحمد رامى وألحان رياض السنباطى، التى تقول كلماتها «يا بدر لما جبينك لاح على العيون اللى تراعيك.. تمت لنا كل الأفراح وفضلت الأرواح تناجيك»، وغنت له للمرة الثانية عام 1946 فى عيد جلوسه العاشر أغنية «الأمل.. لولاه علىّ كنت فى حبك ضحية»، وغنى له عبدالوهاب «الدنيا ليل والنجوم طالعة تنورها.. نجوم تغرى النجوم من حسن منظرها»، ثم قال «الفن مين يعرفه اللى فاروق راعاه»، وقد جنى أم كلثوم وعبدالوهاب ثمار غنائهما للملك فاروق، فبعد القضاء على الملكية وإعلان الجمهورية، عبد الناصر صب جمال عبدالناصر عليهما جام غضبه لمدة 3 سنوات حتى عام 1955 ففتح صفحة جديدة معهما ليظهرا ولاءهما لمصر بشكل أقوى مما يتصوره أحد بما قدمه عبدالوهاب من أغنيات حماسية للثورة وما بعد الثورة ومنها «دقت ساعة العمل الثورى» و«عاش الجيل الصاعد عاش» و«وطنى حبيبى الوطن الأكبر»، كما قدمت أم كلثوم أغانيها الوطنية، ولا ننسى موقفها الأعظم فى أعقاب نكسة 1967 عندما لفت الدول العربية لجمع التبرعات للمجهود الحربى، مع السنوات الأولى للثورة بدأ «عبدالحليم» يصول ويجول وكأن «ليس على الحجر غيره» وهو ما كان بالفعل، فكما أطلق على محمد ثروت الابن المدلل لمبارك، كان عبدالحليم حافظ هو الابن المدلل لجمال عبدالناصر، وقتها كانت الناس تتقبل أى مدح للحاكم الذى رأوا فيه أملهم وحلمهم القومى والعربى وراحوا يصدقون هذا المدح باعتباره جزءاً لايتجزأ من الولاء للوطن.. فغنى حليم «يا جمال يا حبيب الملايين» و«تفوت ع الصحرا تخضرها»، وأصبح عبدالحليم مطرب الثورة، وكانت مساحات النفاق الغنائية فى تلك الفترة تكاد تكون معدمة لا تذكر بخلاف العصر المباركى الذى كان النفاق فيه للركب، لذلك لم ينجح أحد، وكل من اقتربوا من السلطة أخذوا وقتهم ثم أكلهم «الوبا»، فلم تقم لأحد منهم قائمة رغم تعددية وسائل الإعلام ورغم دفعهم للنجاح دفعا، ورغم أن منهم من يتمتع بموهبة حقيقية، لكنه - للأسف - أضاعها فى النفاق حبا للمال والسلطة، وهو ما يؤكد الغباء الشديد الذى كانوا يتصفون به فى هذا العصر، وهى العدوى التى انتقلت إليهم من النظام. السادات فى عصر السادات كان النفاق أقل مساحة من عصر مبارك، وإن كان الغناء أيام السادات مازال صادقًا فغنى عبدالحليم حافظ «عاش اللى قال للرجال عدوا القنال»، باعتبار أن الأغنية لها علاقة بحدث تاريخى هو نصر أكتوبر العظيم، أما فى عصر مبارك فكانت الأغنيات بالكيلو والتى وصلت إلى أكثر من 500 أغنية وأوبريت خصته بالاسم ومن كل المطربين دون استثناء.. الغريب أن مسلسل النفاق استمر من هؤلاء الفنانين حتى بعد سقوط النظام وكشف فساده فهذا غير مقبول مثلما حدث ممن أطلق عليهم قائمة العار. نور الشريف الفن فى الأول والآخر وسيلة تأثير جماهيرية يجب أن تستغل في خدمة الوطن وليس فى خدمة الحاكم فأيام عبدالناصر فى الخمسينيات والستينيات كان انتشار الفن المصرى فى دول أفريقيا هدفا قوميا، كانت بعض الحفلات تستخدم كستار لعمليات انقلاب سياسية وعسكرية مثلما حدث، فى «زنجبار وتنجانيقا» عام 1964 عندما أمر عبدالناصر بسفر طائرة تحمل على متنها فرقة صلاح عرام الموسيقية والفنانين هدى سلطان وفايدة كامل ومحمد عبدالمطلب بصحبة أنور السادات الذى كان وقتها وكيلا لمجلس الشعب وحسن إبراهيم وزكريا محيى الدين وفرق من الكوماندوز وبعض رجال المخابرات على أنهم جميعا ضمن الفرقة الموسيقية بهدف ضم زنجبار وتنجانيقا لتصبحا جمهورية تنزانيا، وعزل السلطان ونقل السلطة إلى جوليوس نيريرى أول رئيس لتنزانيا ولم يعبأ أفراد البعثة بالمخاطر التى قد تتعرض لها حياتهم من أجل هدف قومى. عبد الحليم لاشك أن حجم المهام الوطنية للحاكم هو الذى يحدد علاقته بالفنانين، فجمال عبدالناصر الذى كان مهموما بحلم القومية العربية كان يجد وقته ضيقا للقاء الفنانين فكانت اللقاءات التى تجمعهما قليلة، إن لم تكن نادرة، أما السادات فكانت المساحة الزمنية عنده للقاء الفنانين أكبر من عبدالناصر فالسادات الذى تخلص من هم الوطن الأكبر بانتصار أكتوبر، تفرغ بعد ذلك وتحديدا فى أعقاب الانفتاح عام 1974 للفن والفنانين، وعيد الفن الذى كان يحييه كل عام ويحظى باهتمام كبير منه، بخلاف اللقاءات التى تجمعه بالفنانين فى بيته وفى مناسبات خاصة ومن بين الفنانين الذين كانوا دائمى الحضور فيها فريد شوقى ونور الشريف الذى كان يحلو له أن يأتى إلى المناسبة بالعباءة مقلدا بذلك السادات الذى كان يفضل ارتداءها أثناء تواجده فى مسقط رأسه «ميت أبوالكوم»، أما حسنى مبارك فكان يحب أن يكون حاضرا فى جلساته الخاصة بعض الفنانين، خاصة من الكوميديانات من أمثال المنتصر بالله وأحمد بدير ليكون دورهما فى الجلسة «المضحكاتية»، وبخلاف لقاءات الرئيس بالفنانين فى عيد الإعلاميين من كل عام، كان «جوبلز» إعلامه - صفوت الشريف - يوضب له «القعدات» مع الفنانين ويكرمهم مثل تكريم أحمد زكى وأبطال فيلم «السادات» وطلعت زكريا بطل فيلم «طباخ الرئيس» وغيرهما، فخلال 30 سنة عاشها بيننا «مبارك» نسى فيها الفنانون ولاءهم للوطن وأصبح ولاؤهم للحاكم. سيد درويش