60 دقيقة تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. السبت 23 أغسطس 2025    هل يحق لمكتسبي الجنسية المصرية مباشرة الحقوق السياسية؟ القانون يجيب    45 دقيقة تأخير بين قليوب والزقازيق والمنصورة.. السبت 23 أغسطس 2025    وزير الدفاع الإيراني: لو استمرت حربنا مع إسرائيل 15 يوما "لاختلف الأمر"    حكام مباريات الأحد في افتتاح الجولة الرابعة من الدوري الممتاز    شبورة كثيفة ورياح واضطراب حركة الملاحة، الأرصاد تحذر من ظواهر مقلقة في طقس اليوم    القاهرة تسجل 40 مجددا والصعيد يعود إلى "الجحيم"، درجات الحرارة اليوم السبت في مصر    مفارقة غريبة، كريم محمود عبد العزيز وزوجته ودينا الشربيني في حفل روبي بالساحل الشمالي (فيديو)    عايدة رياض: أعيش في رعب مع نبيلة عبيد| حوار    سيف الإسلام القذافي يعلن دعمه لتشكيل حكومة جديدة في ليبيا    القاهرة تُسجل 40 مئوية.. تحذير من حالة الطقس اليوم: ارتفاع «طارئ» في الحرارة    ضبط 50 محلًا بدون ترخيص وتنفيذ 40 حكمًا قضائيًا بحملة أمنية بالفيوم    قطع المياه 6 ساعات ببعض مناطق الجيزة لتحويل خط رئيسي    فلسطين.. جيش الاحتلال ينفذ حملة دهم واسعة في بلدة المغير شمال شرق رام الله    لمحبي الآكلات الجديدة.. حضري «الفاصوليا البيضاء» على الطريقة التونسية (الخطوات والمكونات)    إنقاذ حياة مريض بعمل شق حنجري بمستشفى الجامعي بالمنوفية    جامعة أسوان تهنئ البروفيسور مجدي يعقوب لتكريمه من جمعية القلب الأمريكية    كأس السوبر السعودي.. هونج كونج ترغب في استضافة النسخة المقبلة    الجرام يسجل أقل من 3900 جنيها.. أسعار الذهب والسبائك اليوم بالصاغة بعد الانخفاض الجديد    محمد النمكي: الطرق والغاز جعلت العبور مدينة صناعية جاذبة للاستثمار| فيديو    أهداف إنشاء صندوق دعم العمالة غير المنتظمة بقانون العمل الجديد    نوال الزغبي: ضحيت بالفن من أجل حماية أولادي بعد الطلاق    الأمم المتحدة تعلن المجاعة رسميًا.. ماذا يحدث في غزة؟    عصابات الإتجار بالبشر| كشافون لاستدراج الضحايا واحتجازهم بشقق سكنية    بورسعيد.. أجمل شاطئ وأرخص مصيف| كيف كانت الحياة في المدينة الباسلة عام 1960؟    فيفي عبده تعلن وفاة الراقصة المعتزلة سهير مجدي    عميد تجارة القاهرة الأسبق: الجامعات الحكومية ما زالت الأفضل.. وهذه أسباب تفضيل البعض للخاصة    تنسيق دبلوم التجارة 2025.. قائمة الكليات والمعاهد المتاحة لطلاب 3 سنوات «رابط وموعد التسجيل»    سهير جودة عن شيرين عبدالوهاب وحسام حبيب: «انفصال وعودة مزمنة.. متى تعود إلينا؟»    «الأستانلس أم التيفال»: هل نوع حلة الطبخ يغير طعم أكلك؟    بطريقة درامية، دوناروما يودع جماهير باريس سان جيرمان (فيديو وصور)    ويجز يغنى الأيام من ألبومه الجديد.. والجمهور يغنى معه بحماس    أطعمة تسبب الصداع النصفي لدى النساء ونصائح للسيطرة عليه    رسميا.. مدرسة صناعة الطائرات تعلن قوائم القبول للعام الدراسي الجديد 2025/ 2026    مدحت صالح يتألق بغناء حبيبى يا عاشق وزى المليونيرات بحفله فى مهرجان القلعة    بوتين: واثق أن خبرة ترامب ستسهم في استعادة العلاقات الثنائية بين بلدينا    التعليم تطلق دورات تدريبية لمعلمي الابتدائي على المناهج المطورة عبر منصة (CPD)    نشرة التوك شو| موجة حارة جديدة.. وشعبة السيارات تكشف سبب انخفاض الأسعار    رسميا.. جامعة الأزهر 2025 تفتتح أول كلية للبنات في مطروح وتعلن عن تخصصات جديدة    طارق فهمي: الإعلان الأممي عن تفشي المجاعة في غزة يعكس حجم الكارثة الإنسانية    تشيلسي يقسو على وست هام بخماسية في الدوري الإنجليزي (فيديو)    في ظهوره الأول مع تشيلسي، إستيفاو ويليان يدخل التاريخ في الدوري الإنجليزي (فيديو)    رياضة ½ الليل| إيقاف تدريبات الزمالك.. كشف منشطات بالدوري.. تعديلات بالمباريات.. وتألق الفراعنة بالإمارات    3 أبراج على موعد مع التفاؤل اليوم: عالم جديد يفتح الباب أمامهم ويتلقون أخبارا مشجعة    مصدر ليلا كورة: كهربا وقع عقدا مع القادسية الكويتي    غزل المحلة يبدأ استعداداته لمواجهة الأهلي في الدوري.. صور    وزير الري يشارك في جلسة "القدرة على الصمود في مواجهة التغير المناخي بقطاع المياه"    ارتفاع الكندوز 39 جنيها، أسعار اللحوم اليوم في الأسواق    إسرائيل تشن هجومًا على مخازن تابعة لحزب الله في لبنان    سعر الدولار الآن أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية السبت 23 أغسطس 2025    قدم لكلية الطب وسبقه القدر.. وفاة طالب أثناء تركيبه ميكروفون لمسجد في قنا    مقتل عنصر من الأمن السورى فى هجوم انتحارى نفذه "داعش" بدير الزور    خدعوك فقالوا: «الرزق مال»    هل يجوز شرعًا معاقبة تارك صلاة الجمعة بالسجن؟.. أحمد كريمة يجيب    هل إفشاء السر بدون قصد خيانة أمانة وما حكمه؟ أمين الفتوى يجيب    خطيب الجامع الأزهر: أعداء الأمة يحاولون تزييف التاريخ ونشر اليأس    شنوان.. القرية التي جعلت من القلقاس جواز سفر إلى العالم| صور    إمام مسجد بكفر الشيخ: لابد أن نقتدى بالرسول بلغة الحوار والتفكير المنضبط.. فيديو    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



العائلة الحاكمة من القصر إلي القبر
نشر في روزاليوسف الأسبوعية يوم 16 - 04 - 2011

قد تبدو المسافة بين عالم الخيال وعالم الواقع شاسعة إلي حد يستحيل الجمع بينهما، لكن في رحلة عائلة الرئيس السابق حسني مبارك من قصر العروبة إلي ليمان طرة تتلاشي هذه المسافة إلي مجرد «فركة كعب» شعرة هشة عبرتها العائلة الرئاسية في غمضة عين فانتقلت من سابع سما إلي سابع أرض كما في الأساطير اليونانية حين تحل لعنة زيوس كبير الآلهة علي المغضوب عليهم! المدهش أن الأستاذ فتحي رضوان المفكر المصري الكبير تنبأ بهذه النهاية التراجيدية بعد مقابلة دامت ساعتين مع حسني مبارك في قصر العروبة بعد شهر واحد من توليه السلطة في مصر. كان الرئيس السابق قد أصدر قرارا في نوفمبر 1981 بالإفراج عن المعتقلين السياسيين الذين وضعهم الرئيس الأسبق أنور السادات خلف القضبان في 5 سبتمبر من نفس العام، استقبلهم في القصر الجمهوري ومنهم الأستاذ فتحي رضوان!
عاد رضوان من المقابلة حزينا إلي حد الاكتئاب، والتف حوله تلاميذه ومريدوه يسألونه: لماذا كل هذا الحزن يا أستاذ!
رد بأسي: قلبي «واكلني» علي مصر، أمامكم مستقبل مظلم للغاية.
أنزعج الحاضرون من الرد، فالرئيس القادم بعد اغتيال السادات يوم ذكري نصره علي إسرائيل يحيطه تفاؤل عام وترحيب شعبي وكلام عن النزاهة وطهارة اليد والإصلاح الاقتصادي، ووصفته الصحف بعبارات أقرب إلي الغزل العفيف «إنه رجل دوغري لا يغفر أصغر الأخطاء، هادئ متماسك .. ذكي صريح يختصر المسافة إلي هدفه مباشرة كتوم، حذر، ودود، مشهور بدقة مواعيده، لا يميل إلي تضييع الوقت في الأحاديث الشخصية، نظيف اللسان واليد.
فما الذي دفع بك يا أستاذ رضوان إلي حافلة التشاؤم الذي يكاد يقترب من اليأس؟
رد الرجل بصوت خفيض كعادته: دماغه فاضية جداً.. وراح يروي رضوان أن الرئيس كان يسألهم عن «آخر نكتة» أكثر مما يسألهم في السياسة وأحوال البلد وحين فشل المفكرون والكتاب والشخصيات العامة البارزة القادمون من المعتقل في العثور علي نكتة أو تذكر واحدة في الأيام الخوالي، روي الرئيس بنفسه نكتة عارية وراح يقهقه عليها.
وقال رضوان ماذا ننتظر من رئيس يقابل صفوة مصر فينشغل بآخر نكتة!
بالطبع لن تكون النكتة وولعه بها سببا في الحالة التي قادت الرئيس السابق وعائلته إلي مصير أسود مازال نصف المصريين لا يصدقونه حتي الآن، بالطبع لم يكن الأستاذ فتحي رضوان يعرف من هي السيدة سوزان ثابت التي عرفت فيما بعد باسم سوزان مبارك، إنها ستلعب في حياة زوجها وعائلتها نفس الدور التحريضي الذي لعبته ليدي «ماكبث» في رواية وليم شكسبير الشهيرة التي تحمل نفس الاسم، فقادت زوجها إلي الهاوية.
لكن يمكن تقسيم عقل الرئيس ودور ليدي ماكبث في مصيره ومصير مصر إلي ثلاث مراحل منفصلة من فرط الغرابة في أحداثها قد تبدو كما لو أنها لا تخص شخصا واحدا علي الإطلاق.
حسني مبارك نفسه إنسان عادي جدا وبسيط، ولو لم يصل لمنصب الرئيس ما لاحظ وجوده أحد، صحيح أنه كان طيارا وقائدا ملتزما ومنضبطا لكن في النهاية هو من أصحاب الأداء الجيد مثل ملايين المصريين الذين يعملون بإخلاص وأدب دون إبداع وابتكار أو قدرات خاصة.
لكن في دولة مركزية يحكمها الاستبداد أو خليط من المستبد الظالم والمستبد نصف العادل تتبدل مصائر البشر بعشوائية فيصعد بعضهم إلي المناصب الرفيعة أو يسقط من قعر القفة كما يقول التعبير الشعبي بالمصادفة والحظ والنصيب والشلة.
المصادفة أوصلته إلي العرش، لكن قدراته وليدي ماكبث وتراث السلطة ورجال الحاشية أوصلته إلي طرد من الخدمة والمحاكمة!
ولو تصورنا أن الرئيس الأسبق أنور السادات قد قبل رغبة اللواء حسني مبارك بأن يعتزل الحياة العسكرية ويعين سفيرا لمصر في لندن فمن المؤكد أن تاريخ عائلة مبارك كان قد انقلب رأسا علي عقب!
لكن أنور السادات اختار أقل قواده طموحا وبروزا ليكون نائبا له وبعدها يصبح بطريقة آلية رئيسا لمصر.
البدايات الأولي لحسني مبارك كانت تشي بأشياء مختلفة عن سلفه، كانت مصر تمشي فوق صفيح ساخن منذ انتفاضة الخبز في يناير ,1977 بلد شايط الأعصاب متوتر، ترفع جماعات الإسلام السياسي السلاح في وجهه فكان في حاجة إلي قبطان أقرب إلي رئيس مجلس إدارة منه إلي قائد سياسي، فالصدمات التي كان يلجأ إليها أنور السادات قد أنهكته نفسيا، ويحتاج إلي بعض الهدوء فوجد ضالته في مبارك، لكن مبارك تحول من رئيس مؤقت إلي رئيس مؤبد مع سبق الإصرار والترصد.
وتاريخ حسني مبارك قبل الرئاسة لا يشي بأي حال من الأحوال بالنهاية التي وصل إليها، فقد كان ضابطا مستقيما بلا نزوات لا في سلطة ولا في الثروة ولا في النساء، وحين عين نائبا لأنور السادات كان تحت بصر السادات، فلم تتح له فرصة «الانحراف» أو الفساد ليختار هل يستمر علي مادرج عليه أو يميل بهواه إلي الطريق المعوج.
وقال في أول خطاب له أمام مجلس الشعب وأول حوار صحفي: لن يكون هناك مكان لمنحرف أو مكان لمتسيب ولا مكان إلا لطهارة اليد والذمة، لن تكون هناك مداراة أو السكوت علي لون من ألوان الانحراف مهما كان بسيطا، ويقول بكل الوضوح لا ينبغي لأحد أن يأخذ أكثر مما يستحق حتي يسلم الوطن من النفاق والانتهازية ومن الوصوليين، ولن أرحم أحدا حتي لو كان أقرب الأقرباء، فمصر ليست ضيعة لحاكمها أو لصفوتها. لكن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ولم يتمتع حسني مبارك بالسلطة المطلقة إلا في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي أو أوئل التسعينيات، فكان عصره واحدا من أكثر العصور فسادا في تاريخ مصر كله، ولم تكن مصر ضيعة لحكامها وصفوتها وإنما كانت أوقافا لهم، فالضيعة يحافظ عليها صاحبها من الخراب وينميها أما الأوقاف فهي تدار لصاحب المصلحة دون أن يتحمل أي مسئولية عنها حتي لو خربت بالكامل.
صحيح أن مصر دولة مستبدة إلا قليلا وهذا القليل يتمثل في شخصيات وطنية قوية، لم تعتد علي شغل الطاعة العمياء والنفاق الرخيص وكان الرئيس، أي رئيس والنظام يعملان لهم حسابا وتقديرا إلي حد ما، تقدير نسبي يحد من غلو هذا الرئيس في استغلال السلطة، وقد حدث هذا مع عبدالناصر، ثم حدث مع أنور السادات وحين أغفل هذه القاعدة واعتقل كل الشخصيات العامة لم يعش أكثر من 30 يوما بعدها!
واستطاع حسني مبارك رئيس مجلس إدارة مصر أن يتخلص تدريجيا سواء من الشخصيات الرسمية القوية، مثل فؤاد محيي الدين، كمال حسن علي، حسب الله الكفراوي، أو الشخصيات العامة البارزة فكانت المنغصات تطارد كمال القاضي وممتاز نصار وعلوي حافظ وغيرهم، وبالتدريج راحت الساحة تخلو من هؤلاء الكبار ولا يبقي فيها إلا الشلة وأصحاب المصالح والمتسلقون الذين يدورن في فلك السلطة والأجهزة الأمنية التي قبضت بيد من حديد علي مقاليد الوظائف والأدوار في الحياة العامة، ولم يكن يمر أي مصري إلي وظيفة مرموقة إلا بإذنها ومن تحت عباءتها إلا في القليل النادر!
واستغرقت عملية التجريف في الكفاءات والشخصيات القوية ما يقرب من عشر سنوات أو أزيد قليلا، لعب فيها رجال الرئيس المقربون الدور الأعظم حتي يمكن السيطرة علي البلد كله في تلك الفترة الأولي كان مبارك يستمع إلي مستشارين وخبراء يطلبهم بالاسم فكان كل واحد يدخل إليه حريصا علي الذم في الآخرين إلي درجة أنه سأل بعض المقربين منه هو مافيش حد كويس؟ ثم توقف عن الاستشارة والسؤال في الشئون العامة.
ومبارك نفسه شخصية تحب الصراع بين الشخصيات المقربة منه فكان يوقع بين رجاله ليعرف ماذا يضمر كل واحد في نفسه تجاه الآخر، وكانت الوقيعة العلنية تستهويه إلي حد الأدمان خاصة وهم يتعاركون أمامه ويتبادلون الاتهامات والكلام الساخن!
في فترة الرئاسة الثانية بدأ مبارك رحلة الابتعاد عن أهل مصر، ولم يعد يحب الاستماع إلي الشكاوي والمشكلات والأزمات وتسلل شعوره بالغربة عنهم إلي خطاب عيد العمال في ولايته الثالثة حين عاير المصريين باستهلاك كميات كبيرة من السكر في شرب الشاي ويبدو أنه نسي أصله الريفي، لأن الحلو في الأرياف قبلي وبحري والأحياء الشعبية القديمة هو الشاي سكر زيادة فالفقراء لا يحلون بالفاكهة كثيرا!
بانفصال حسني مبارك عن الشارع، راحت مرحلة جديدة ترسم حدودا مختلفة تماما، فالانفصال سهل علي الحاشية حبسه داخل الدائرة الضيقة والزن علي الودان أمر من السحر.
في الوقت نفسه اخضر عود الولدين علاء وجمال وشبَّا عن الطوق وقرر علاء مبارك دخول عالم البيزنس وكانت شركة الشرق الأوسط لاستصلاح الأراضي قد أهدت العائلة مزرعة دواجن وهي الشركة التي أسستها المقاولون العرب مع بعض المستثمرين وبنوك قطاع عام، مع الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينيات كانت نقطة ضعف حسني مبارك الولدين والأم والتي اصطاده منها شياطين الفساد فكان لابد أن يفرشوا الطريق بالدولارات والأملاك والاستثمارات والشركات والعمولات أمام الولدين حتي تتم عملية نهب مصر بطريقة منظمة ومستدامة دون أي ملاحقة قانونية.
كانت السيدة سوزان مبارك بنت الطبقة الوسطي المستورة جدا عاشت حياة عادية ربما لاتقل عن مستوي حياتها في بيت أبيها لمدة لا تقل عن خمس سنوات وهي السنوات التي عملت فيها مدرسة، تعين فيها أسرتها علي المعيشة مثل ملايين المصريات اللاتي يقفن بجانب أزواجهن في سنوات الزواج الأولي والرواتب شحيحة تسد تكاليف المعيشة بالكاد، الحياة بسيطة في شقة عادية، الطلبات والرغبات تلبي حسب القدرات والإمكانيات دون إسراف أو ترف. ولكن زوجة الرئيس لها طموح، ولماذا لا تكون مثل سابقتها جيهان السادات صاحبة الذوق الرفيع في المسكن والملبس والحياة المرفهة.
وضغطت الحاشية ورجال الأعمال وأصحاب المناصب الرفيعة علي الولدين والأم بالهدايا المستوردة باهظة الثمن.. «والنبي قبل الهدية» وليس لها أي معني آخر!
كما راح عدد من رجال الأعمال يتبرع للأنشطة الاجتماعية التي تشرف عليها السيدة سوزان.. وفي المقابل ترد «الرياسة» الهدية بأحسن منها، موافقات علي طلبات تبدو عادية بينما في جوهرها هي «استنزاف» يتجاوز قيمة الهدية بعشرات المرات، مستحقات مع مصلحة الضرائب، رسوم مع مصلحة الجمارك، إجراءات خاصة في عمليات استيراد، و«تسهيل» قروض من البنوك، وتخصيص الأراضي بأسعار علي المزاج.. إلخ.
كان الرئيس الأسبق أنور السادات يؤمن بالتجربة الأمريكية في تكوين الثروات بالفساد أحياناً، وقد سربها إلي عقله بعض المقربين منه مع سياسة الانفتاح الاقتصادي، وأدعوا أنها حدثت في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، ومسجلة في كتاب عن التنمية الاقتصادية ل«صمويل هنتجتون» صاحب نظرية صراع الحضارات، علي أساس أن البلدان حين تكون فقيرة وتحاول الاندفاع نحو التصنيع وبناء مجتمعات اقتصادية حديثة، فلن تنجح لأنها لا تملك رأس المال الاجتماعي الكبير لتدفع به في شرايين اقتصادها، ولا توجد وسيلة سوي القوة والفساد لتجميع هذه الثروات في أيدي جماعة من البشر، تستثمر هذه الثروات فيما بعد في تأسيس المصانع والورش والبنية التحتية، لأن الثروات الصغيرة والمدخرات المحدودة لا تكفي علي الإطلاق لصناعة نهضة اقتصادية، خاصة في مجتمع مثل مصر يستهلك أكثر مما ينتج، ويدخر أكثر مما يستثمر!
ولا يعرف علي وجه الدقة: هل سمع النائب حسني مبارك من الرئيس السادات هذه الفكرة أم لا؟!
عموما هي فكرة خبيثة جداً، فالفساد مثل وحش مفترس نهم طوال الوقت، يعيش علي دم المجتمع واستنزافه، فيظل هذا المجتمع مصابا بفقر الدم الاقتصادي إلي الأبد، وهو ما جري في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وبيع القطاع العام فيها، فانتهت التجربة باستيلاء المافيا الروسية علي الاقتصاد الروسي ولم يستطع الفكاك منها بعد!
وهذا ما حدث في مصر مع أوائل التسعينيات حتي قيام ثورة 25 يناير، وكانت العائلة الرئاسية هي رأس الحربة في يد «المافيا المصرية» التي دخل بعضها إلي ليمان طرة، ومازال البعض الآخر حرا طليقاً حتي الآن!
وعرف الرئيس السابق بكل ما يحدث في مصر، وكان يتدخل أحياناً لحل مشكلات تواجه رجال الأعمال بنفسه، فذات مرة طلب هشام طلعت مصطفي أن ينشأ «مارينا» أمام فندقه علي شاطئ سان استيفانو بالإسكندرية، وكانت موافقة القوات المسلحة حتمية.
لكن القوات المسلحة رفضت الطلب.. فهرع هشام إلي الرئيس يستنجد به، فقال له الرئيس: اذهب إليهم مرة ثانية.. وسوف يوافقون!
ولم يكذب هشام خبرا، وأسرع إلي المسئول، فسأله المسئول: ماذا تريد؟!
فرد هشام: المارينا؟
فقال المسئول: الطلب مرفوض لأسباب تخص الأمن القومي.
فعلق هشام: لكن الرئيس وافق.
فرد المسئول: لم تصلني موافقة مكتوبة!
خرج هشام غاضبا وعاد إلي الرئيس وروي له ما حدث، فرفع الرئيس سماعة التليفون وطلب الرجل وتحدث معه بخشونة أنهاها بقوله: موافقة المارينا لهشام تتم فورا.
كان علاء مبارك يهوي البيزنس.. فالثروة مصدر دائم من مصادر القوة!
بينما السيدة سوزان مبارك تهوي السلطة.. ففيها كل القوة والطريق الأسهل للثروة لكن عمرها قصير.. وكان يلح عليها سؤال في غاية الأهمية: كيف تحتفظ العائلة بالسلطة التي جعلت مصر كلها برجالها الكبار ومؤسساتها رهن إشارتها؟!
ومن هنا جاءت فكرة الوريث.. جمال.
جمال شاب ذكي درس الاقتصاد وإدارة الأعمال في الجامعة الأمريكية يتحدث بهدوء تلمع عيناه بالنفوذ والقسوة، والسيدة سوزان فيها هذا القدر من القسوة، فكان جمال الأقرب إلي فكرها.
لكن جمال هاجر إلي بنك أوف أمريكا فرع لندن في رحلة عمل، ولا يود العودة الآن إلي الوطن.. والتوريث يلزمه أن يتواجد جمال في القاهرة، يستعد ويتجهز ويحتل مكانة في صدارة المشهد السياسي.. لكن ما هي الإغراءات التي تقنعه بالعودة إلي القاهرة؟!
طلبت السيدة سوزان مبارك أستاذاً كان مشرفاً علي ابنها جمال في الجامعة الأمريكية، واستشارته وحامت فكرة التوريث في الحوار، فنالت قبولاً هائلاً إلي حد الإعجاب والإشادة! وعاد جمال إلي القاهرة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، منضما إلي مجلس الأعمال المصري الأمريكي كخطوة أولي إلي عالم القاهرة الاقتصادي والسياسي.. ثم إلي الحزب الوطني فلجنة السياسات.
لم تحاول الأم قط ولا ابنها الإجابة عن سؤال سهل للغاية: كيف تحكم مصر؟!
لأن هذه الإجابة كانت وفرت عشر سنوات ضائعة في مشروع التوريث الذي كان من المستحيل أن «يقع» بأي حال من الأحوال، فمهما بلغت سلطة الأب الرئيس فهو ليس كل النظام.. هو فقط الرأس.
وكان الأب يدرك إلي حد ما صعوبة تنفيذ الفكرة، ولم يوافق عليها أبداً، صحيح أنه جاري اللأم حين طرحتها عليه من باب «عدم وجع الدماغ»، ثم رضخ لها فيما بعد لكن المقاومة لها لم تتوقف علي الإطلاق، فمبارك في النهاية رجل عسكري ويفهم في قواعد اللعبة جيداً، وما أكثر المرات التي دارت فيها مناقشات عنيفة داخل الأسرة حول «دور جمال ومستقبله»، وخاصة أن الأخ الأكبر علاء أدرك منذ لاحت الفكرة مدي خطورتها علي الأسرة نفسها، لكن الأم لم تلن، ولم تتنازل عن رغبتها في وراثة حكم مصر، كانت فعلاً مثل الكيدي ماكبث التي حرضت زوجها علي قتل الملك والصعود إلي العرش، فلحقت به لعنة الخيانة وأجهزت علي كل منابع الراحة في حياته!
وذات مرة، ربما قبل عشرة أشهر، دار حوار ساخن علي العشاء بين الأب وعلاء من جانب، والأم وجمال من جانب، فزهق مبارك وقال: «أنا قايم أنام»!
وترك الأخوين والأم في جدل ونقاش..
وفي الصباح تحدث مع الكيدي ماكبث، أقصد السيدة سوزان، وحكاية الكيدي مجرد خطأ مطبعي مني، وقال لها: اعملوا اللي انتم عايزينه!
لم يكن مبارك يدرك أن ما تريده الأم والابن هو المسمار الأخير في نعش السلطة التي ظل يتمتع بها وعائلته 30 عاما متواصلا..
ولم يكن غريبا منه أن يصرخ فيهما وهو في شرم الشيخ: أنتم اللي مرمطتم تاريخي العسكري في الوحل!
قال هذا دون أن يخطر علي باله ولا في أشد كوابيسه قتامة أن المسألة لن تتوقف عند الطرد من الخدمة أو بطلب خلع من شعب مصر له، وإنما ستقفز إلي محاسبته عما اقترفه في حق شعب مصر. ولم يخطر علي بال السيدة سوزان مبارك التي لعبت الدور الأهم في مصير عائلتها الحالي، أن الشفاه التي قبلت يديها، هي أقل كثيرا من الشفاة التي ستنهال عليها وعلي زوجها وولديها بالسب والشتائم والسخائم والاتهامات التي قد تحفر لهم قبرا أو هاوية علي بعد ألف متر من سطح الأرض!
بالطبع لا مبارك ولا سوزان تصورا أن المسافة بين عالم الخيال وعالم الواقع مجرد فركة كعب، وأن الذي يفصل بين القصر والسجن سور وهمي سوف ينهار علي يد المصريين في لمح البصر!
بداية نهاية مؤلمة
الرئيس السادات
حسب الله الكفراوى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.