أصبح واضحًا للعالم كله، أن دولة الاحتلال لا تعيش إلا فى بيئة الصدام؛ وحين تتوافق لحظة سلام حقيقية، تبدأ تل أبيب فى هندسة الأزمات، والاستفزازات، وصناعة روايات جديدة، وابتكار مخارج ملتوية تعيد الصراع إلى نقطة البداية. من هنا يمكن فهم التسريبات الإسرائيلية حول «تنسيق مصرى – إسرائيلى» لفتح معبر رفح فى اتجاه واحد. والتى نفتها القاهرة بشكل قاطع وواضح وسريع، مؤكدة أنها مجرد مناورات هدفها الضغط وتشويه الموقف المصرى الصلب. لم يكن تصريح ضياء رشوان، رئيس الهيئة العامة للاستعلامات، مجرد بيان رسمى يضاف إلى أرشيف المواقف، بل كان بمثابة إعلان صريح عن الخط الأحمر المصرى الذى لا يقبل المساومة.. لا تهجير للفلسطينيين، ولا فتح لمعبر رفح ليكون ممرًا لاقتلاع شعب من أرضه. جاء ذلك بعد ساعات من إعلان الحكومة الإسرائيلية نيتها فتح المعبر خلال الأيام المقبلة لخروج سكان غزة إلى مصر، فى محاولة جديدة لإعادة تدوير سيناريو الترحيل تحت مسمى «التسهيلات الإنسانية». لكن القاهرة قالتها بلا تردد.. مصر لن تكون بوابة عبور لخطة تهجير، ولن تسمح لأى طرف مهما كانت الضغوط أو المناورات بأن يحول معبر رفح إلى ممر خروج جماعى ينزع الفلسطينيين من جذورهم. هذا الموقف ليس جديدًا ولا انفعاليًا، بل امتداد لثوابت لا تتغير؛ حق الفلسطينى فى البقاء على أرضه، ورفض أى مشروع يضرب حق العودة، أو يعيد تشكيل الجغرافيا والديموجرافيا بال«تشريد القسرى». رشوان أوضح أن إسرائيل تعرف جيدًا أن خطة السلام الأمريكية، المعروفة ب«خطة ترامب»، تتضمن بندًا صريحًا يمنع إجبار الفلسطينيين على مغادرة أراضيهم، بما فى ذلك سكان غزة.. وأن معبر رفح، وفق البند 12 من هذه الخطة، لا يمكن تشغيله من طرف واحد.. وبالتالى فإن أى فتح للمعبر من داخل غزة فقط، ومن دون تنسيق كامل مع مصر، هو مخالفة للاتفاقات القائمة ومحاولة لفرض أمر واقع يكرس التهجير ويقوض السيادة المصرية. وليس خافيًا على أحد أن إسرائيل كلما ضاق عليها مسار سياسى أو ضغطت عليها معادلة أمنية تلجأ إلى فتح جبهة جديدة، أو إعادة اشتعال جبهة قائمة، هكذا عاشت طوال عقود.. دولة تتغذى على الصراع، وتدير أمنها الداخلى والسياسى عبر خلق أزمات خارجية.. لتظل عقبة السلام الأولى فى الشرق الأوسط. مصر من البداية كانت واضحة.. المعبر يعمل فى الاتجاهين، ويخضع لمعادلة سيادية، وليس أداة فى يد الاحتلال لتنفيذ مشروع التهجير. ولأن الموقف المصرى لا ينطلق فقط من حسابات سياسية، بل من التزام قومى وإنسانى، فقد شددت القاهرة على دعمها الكامل للحقوق الفلسطينية غير القابلة للتصرف؛ الحق فى العودة، عدم التهجير، والحق فى إقامة دولة مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، هذه ليست شعارات، بل قواعد دولية راسخة، وقرارات أممية لا تملك إسرائيل صلاحية إسقاطها، ولا يمكن لأى ظرف سياسى أن يمحوها. التأكيد المصرى جاء أيضًا بالتوازى مع ما نقلته مصادر مطلعة حول أن تشغيل معبر رفح فى اتجاه واحد يخالف الاتفاقات المعتمدة، وأن أى خطوة أحادية الجانب ستكون بمثابة تكريس صريح لعملية التهجير، ومن ثم، ترفض مصر بحزم ووضوح أن تكون جزءًا من هذه المخططات أو أن تتحمل نتائجها التاريخية والأخلاقية. ظنت إسرائيل أنها قامت بمناورة إعلامية مكتملة الأركان، بالإعلان أن فتح المعبر سيتم بالتنسيق مع القاهرة وبعثة الاتحاد الأوروبى، فى محاولة لإضفاء غطاء دولى على «سيناريو التهجير»، لكن القاهرة قطعت الطريق على هذا التلاعب مبكرًا، مؤكدة أنها ملتزمة بالاتفاقات الخاصة بوقف إطلاق النار، بما يشمل استقبال الجرحى والمصابين لا فتح بوابة جديدة للهجرة القسرية. ورغم سريان وقف إطلاق النار منذ 10 أكتوبر الماضى، فإن إسرائيل، وفق بيانات وزارة الصحة فى غزة، قتلت وجرحت مئات الفلسطينيين، فى رسالة واضحة بأن الاحتلال لا يغادر منطق القوة، ولا يؤمن أصلاً ببيئة سلام حقيقى. سلام بلا عدالة هو مجرد هدنة مؤقتة، وسلام بلا حقوق هو استراحة بين حربين. فى هذا السياق يصبح الموقف المصرى أكثر وضوحًا وقوة.. مصر لن تمنح الاحتلال فرصة لإعادة رسم خرائط غزة عبر الإفراغ السكانى، ولن تكون شريكًا فى أى تسوية تتجاهل حق الفلسطينى فى أرضه. فالقاهرة تعرف أن التهجير ليس حلاً ولا يمكن أن يكون، بل جريمة، وأن اقتلاع الشعب من أرضه هو الوجه الآخر لتصفية القضية، وأن كل ما يُروّج تحت عنوان «إنقاذ المدنيين» ليس سوى محاولة لخلع جذور الفلسطينيين من وطنهم. ولذلك.. جاء صوت مصر عاليًا وواثقًا بأن السيادة المصرية ليست محل مساومة.. ورفح ليست معبرا للتهجير.. والقضية الفلسطينية ليست ملفًا قابلًا للتفكيك. وإذا كانت إسرائيل تحاول دائمًا إعادة تشكيل الطاولة قبل أى مسار تفاوضى، فإن مصر تعيد ضبط البوصلة.. الأرض لأصحابها، والتهجير خط أحمر، والسلام الحقيقى لن يتحقق إلا حين تتوقف إسرائيل عن سياسة افتعال الأزمات، وتواجه الحقيقة التى تهرب منها دائمًا.. أنها عقبة السلام الأولى فى المنطقة.