جلسنا مجموعة من الأصدقاء الصحفيين على مقهى فى وسط البلد، بعد ندوة أدبية عن الرواية التاريخية، وكنت معترضًا على التسمية، فالرواية عمل فنى قد يختار فيه الكاتب شخوصه، ويربطها بأحداثٍ عامة من زمن سابق قريب أو بعيد، وينسج الحكاية مُطلقًا لخياله القدرة على تصور تصرفاتهم وردود أفعالهم الإنسانية، منسوبة إلى ذلك الزمن حسب قراءاته عن تلك الفترة سواء منحازًا لأفكارها أو رافضًا لها، وهذا ليس تاريخًا ولا يمكن أن يكون، هذا فن أيًا كان الزمن الذى وقعت فيه أحداثه، ولا علاقة له لا بالتاريخ، لا علمًا ولا تفسيرًا. فرفع أحدهم مؤيدا: هذا أقرب إلى الصحة، ويشبه إلى حد كبير الفرق بين المؤامرة ونظرية المؤامرة التى يدمنها الشرق! ضحكت متسائلا: ما علاقة الفن بنظرية المؤامرة؟ قال: نحن شعوب متعلقة بنظرية المؤامرة، نتعلق بها كما نتعلق بقشة وسط أمواج الحوادث والأزمات المحيطة بنا، لأنها مريحة وترفع عنا عناء البحث العلمى الجاد والمكلف عن فك هذه الأزمات وإصلاح أحوالنا! قلت: لا اتفق معك.. المؤامرة جزء من حركة التاريخ، جانب من إدارة الصراع فى العالم أفرادا وجماعات ودولا منذ عرف الإنسان الملكية، دول تتآمر على دول، ملوك تتآمر على ملوك، مؤامرات داخل العائلة الملكية الواحدة، محاولات اغتيال، انقلابات، الإطاحة بحكومات..إلخ، ولماذا تؤسس الدول أجهزة مخابرات، قطعًا ليس لجمع المعلومات فحسب، بل ترصد مؤامرات وتحيك مؤامرات. المؤامرة إحدى أدوات الصراع الخفى، حين تفشل المواجهات الصريحة المباشرة فى تعديل «المواقف» بين أطراف المصالح المتناقضة. قال غاضبًا: أنت إذن من مؤيدى أن 25 يناير 2011 كانت مؤامرة وليس ثورة شعبية، تريد أن تحرم المصريين من حقهم فى تعديل أحوالهم المعوجة؟، أنت من المصابين ب«هوس» المؤامرة، أنت «مؤامراتى» ،كما تصفك المراجع العلمية!! قهقهت بشدة إلى درجة فرت فيها الدموع من عينى.. قال: لم ترد. قلت: مؤكد أن 25 يناير كانت مزيجًا من غضب شعبى حقيقى ومؤامرة خارجية من جهات أجنبية بالتنسيق مع أطراف داخلية بينها تناقض إلى حد الموت وهما الفوضويون الاشتراكيون ومؤيدوهم والإخوان المسلمون وأتباعهم، وقد استغلوا هذا الغضب من أجل مصالحهم الضيقة، وحولت المؤامرة المشهد العام إلى وليمة للذئاب، كل طرف يحاول أن ينهش أكبر قدر ممكن من الوليمة بسرعة، لكن طبيعة المصريين وموقف المؤسسة العسكرية أجهضا المؤامرة. سكت محدثى برهة ثم أخرج من جيبه تليفونه المحمول الحديث الذكى، وقلب فى برنامج ذكاء اصطناعى، وراح يقرأ: ثم عوامل نفسية واجتماعية لانتشار نظرية المؤامرة.. 1 - الحاجة إلى التفسير والمعنى: وفيها ينجذب البشر إلى القصص التى تمنح معنى للأحداث المعقدة أو المأساوية، خاصة عندما تكون التفسيرات الرسمية غير مرضية وغير مقنعة. 2 - الشعور بعدم الأهمية أو الضعف: وقد يتبنى الأفراد الذين يشعرون بالضعف أو العجز نظريات المؤامرة لاستعادة شعورهم بالفهم والسيطرة على عالمهم. 3 - عدم الثقة بالسلطات: يرتبط الإيمان بالمؤامرة غالبا بمستويات منخفضة من الثقة فى المؤسسات الحكومية أو الإعلامية أو العلمية. 4 - التحيز التأكيدى: يميل الناس إلى البحث عن المعلومات التى تؤكد معتقداتهم المسبقة وتجاهل الأدلة التى تتناقض معها. 5-التبرير: فى المجتمعات المهزومة أو التى تعانى من مشكلات داخلية تستخدم نظرية المؤامرة لتبرير الفشل وإلقاء اللوم على قوى خارحية بدلا من نقد الذات. وتوجد كتب عديدة حول نظريات المؤامرة منها موسوعة المؤامرة، وكتابات ماثيو ردينث التى تتناول الجوانب الفلسفية لها وتقييم الأدلة فيها. سكت محدثى وصب نحوى نظرة شماتة كما لو أنه ألقمنى حجرًا، وقال: عليكم أن تتخلصوا من نظرية المؤامرة التى تلبستكم! سألته بصوت خفيض منكسر من باب الخداع: هل تعلم من هو صاحب نظرية المؤامرة ومتى ظهرت على نطاق واسع؟ لاحت علامات دهشة على وجه، وقال: سوف أسال البرنامج. قلت: لا ضرورة..نظرية المؤامرة اختراع غربى مئة فى المئة، وظهرت أول مرة عام 1863 فى رسالة إلى محرر صحيفة نيويورك تايمز، كتبها تشارلز أستور بريستد، يفسر فيها لماذا تقف بريطانيا فى صف «الجنوب» ضد الشمال فى الحرب الأهلية الأمريكية التى امتد من سنة 1861 إلى 1865 من أجل إضعاف الولاياتالمتحدة وإفشال تجربة الاستقلال، ثم عادت إلى الظهور فى عام 1909 فى مقال نشرته مجلة (أمريكان هيستوريكال ريفيو)، وبعدها استخدمها الفيلسوف كارل بوير فى كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» المنشور سنة 1945، ثم شاعت بعد مقتل الرئيس جون كنيدى فى 22 نوفمبر 1963، إذ لقى مصرعه بين حرسه الخاص، وأمام عشرات الملايين على شاشات التليفزيون فى مدينة دالاس بولاية تكساس، واتهم فيها (لى هارفى أوزولد)، الذى اعتقلته الشرطة وقتل بعد أيام قليلة دون أى تحقيقات مسجلة معه، على باب المحكمة بسهولة مفرطة من مواطن عادى قال إنه ينتقم لرئيسه المحبوب، ثم مات القاتل مريضًا فى السجن بعد سنوات، هذا غير ما باحت به كريستين كيلر، فتاة الليل اللعوب، التى أسقطت وزير الدفاع البريطانى جون بروفيمو فى الستينيات، وكانت على علاقة عارية معه، وفى نفس الوقت مع الملحق العسكرى السوفيتى فى لندن، إذ قالت فى كتابها «أخيرا الحقيقة..قصتى» الصادر فى 2001: رويت كل شىء للقاضى اللود ديننج، لكنه نشر شيئا مخالفا، وهددنى بأن أغلق فمى، لأنه وجد فى الجنس حلا سهلا، وتجاهل ما قلته من حقائق تمس مجلس الوزراء البريطانى والبيت الأبيض الأمريكى، فقد أطلعته على ما سمعته بأن الرئيس كنيدى سوف يغتال فى دالاس بعد عدة أشهر ولم يهتم! هل هذه مجرد مصادفات مذهلة؟! خذ عندك أحداث 11 سبتمبر 2001، يعتقد 23 % من الأمريكيين أن الهجمات عملية داخلية وأن الحكومة متورطة فيها، وهى الهجمات التى ضربت فيها الطائرات برجى مركز التجارة العالمى فى نيويورك، ومبنى البنتاجون فى واشنطن، وراح 3000 إنسان ضحية لها. وفى 2015 رصدت جامعة كمبرديج البريطانية أن أكثر من نصف البريطانيين وافقوا على الأقل على واحدة من قائمة تضم خمس نظريات مؤامرة،وكانت النظريات تتراوح ما بين وجود مجموعة سرية تتحكم فى الأحداث العالمية إلى مجموعة أخرى تؤمن بالكائنات الفضائية. ويقول البرفيسور كريس فرنتش عالم النفس بجامعة جولد سميث فى لندن: إن من يؤمن بنظرية المؤامرة هم من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية ومن كلا الجنسين. يعنى العرب والشرقيون عمومًا براء تمامًا من اختراعها، وإن أسرفوا فى استخدامها مثل الأمريكيين، الذين ألف عنهم جو أوسينسكى كتابًا عنوانه «نظريات المؤامرة الأمريكية» فى 2014. سأل منزعجا: ماذا تقصد؟ قلت: ببساطة علينا أن نفرق بين المؤامرة كحدث حقيقى ثابت، ونظرية المؤامرة كنوع معين من تفسير الأحداث الغريبة التى يكتنفها غموض يبدو متعمدا، فالمؤامرة حقيقة موجودة تاريخيًا وواقعيًا، أما الأحداث التى تغيب فيها الأدلة الدامغة أو الموثقة، فتتعدد نظريات تفسيرها، التى تحاول ربط المصادفات ببعضها أو تستند إلى الأدلة الظرفية. حتى على المستوى الفردى، التخطيط لعمليات سطو مسلح، تهريب المخدرات، الاحتيال المالى المنظم، جرائم القتل العمد.. إلخ. رفع أحد الجالسين يده معترضًا، كفاكم..أريحوا عقولكم قليلا وتمتعوا بهذا الليل الشتوى الخفيف مع عصير البرتقال نصف المثلج، بلا مؤامرة بلا يحزنون. سكتنا..لكننى قررت أن أحاور «كوبايلوت» عن المؤامرة ضد العرب عندما أعود إلى منزلى؟ للحديث بقية 1666