يقع الفنان فى فخ التنميط حينما يقرر تناول أحد الأعلام الفنية؛ فعادة تفرض عروض السير الذاتية شكلا مقولبا للأعمال الدرامية، خاصة إذا كانت هذه الشخصية علما من أعلام الغناء العربى مثل كوكب الشرق «أم كلثوم»؛ فى هذه الحالة أمام صاحب هذا العمل الفنى المتورط فى سرد سيرة ذاتية طريقين؛ الأول المبالغة فى الإطراء بذكر خصال هذا الفنان الحسنة الحقيقية والمتخيلة عنه؛ ثم اختيار الأقرب له فى الشكل وإكراه هذا الفنان على محاولة محاكاة حركات وأداء والزمات الشخصية الأصلية؛ أو الطريق الأصعب إخضاع هذا الرمز إلى مادة الدراما وتجسيد روح الشخصية ورمزيتها وتلك قضية شائكة. عرض (دايبين فى صوت الست).. حول قضية «أم كلثوم» الغنائية برمزيتها الفنية والوطنية ومن حولها من عازفين وملحنين إلى مادة درامية ثرية؛ ليخرج منها عمل فنى ضخم يتحمس لإنتاجه القطاع الخاص مع تخليه عن الاعتماد على نجم؛ بينما اعتمد وبقوة على صياغة دراما غنائية رفيعة المستوى؛ بجانب اكتشاف مجموعة من الوجوه الجديدة وإعادة اكتشاف بعض الوجوه المعروفة.. اختار المخرج المسرحى «أحمد فؤاد» أصعب الطرق والأشكال المسرحية ليحكى قيمة «أم كلثوم»؛ وقيمة «أم كلثوم» هنا تعنى أن هذه السيدة ليست مجرد مطربة صاحبة صوت عذب عبر فى مجال الغناء العربى بل هى فى حد ذاتها قيمة فنية كبرى؛ صاحبة منهج وأسلوب فى العمل والاختيار والغناء ثم مراحل تطور هذا الغناء على مستوى اللحن والكلمة؛ كيان ومؤسسة فنية مكتملة؛ امرأة صنعت مسيرة ملهمة؛ كانت قضيتها الأولى الوصول إلى وجدان الجماهير دون مواربة.. وقضيتها الثانية تحويل هذا الأثر إلى سلاح كبير تكافح به مع الجيش المصرى لتأييده فى معركته ضد الأعداء؛ تمتعت بحس ووعى وطنى وغنائى كبير؛ وبالتالى تناول مثل هذه الشخصية بأبعادها الإنسانية والفنية منذ نشأتها ومراحل تطورها الغنائى حتى رحيلها عن عالمنا واستمرار أثرها ليس بالأمر اليسير؛ كل هذه العوامل كانت الحافز الأكبر للمخرج «أحمد فؤاد» والمؤلف والمنتج «مدحت العدل» على إطلاق مشروعهما مسرحية (أم كلثوم.. دايبين فى صوت الست) دون الاعتماد على أسماء براقة سوى اسم وصورة «الست»! عقد هذا العرض شبه مصالحة مع إمكانية إحياء المسرح الغنائى فى صياغة درامية حقيقية.. من حيث بناء مشاهد تحمل مزيجًا من المتعة الغنائية والصراع الدرامى المبنى على الحوار الداخلى للشخصية أو مع الآخر؛ بدأ العرض بحكى أشكال الصراع النفسى والذهنى مع العائلة لاحتراف الغناء والبقاء فى مصر؛ ثم معاركها الفنية مع «منيرة المهدية» فى بداية مشوارها و«محمد عبدالوهاب» وكذلك «أحمد رامى» و«القصبجى» و«رياض السنباطى»؛ كل هذه العلاقات الشخصية والفنية ولحظات العصف الذهنى والوفاق العاطفى والإنسانى قدمها المخرج معتمدا على تصميم مشاهد مسرحية غنائية شديدة الروعة والإبهار سواء على مستوى الصورة المسرحية أو أسلوب الحكى بالحوار الغنائى فى شكل اللحن والتوزيع والإخراج الموسيقى مع الملحن «إيهاب عبدالواحد» و«خالد الكمار»؛ قدم فى تلك المشاهد نموذجا وبناء سليما للدراما الغنائية كيف تم الحكى وبنيت المشاهد فى تشكيل موسيقى فخم بتنوع الأصوات ودرجاتها والألحان ومزج تلك الأصوات معا لتنسجم فى وحدة درامية موسيقية واحدة على مدار تتابع مشاهد العرض.. ثم تنفيذها على مستوى الصورة بالتمثيل والأزياء والديكور بدقة ومهارة كبيرة.. مشهد الصراع بينها وبين منيرة المهدية عندما يتحول الديكور وتتنقل البطلة من التلصص عليها بالمسرح إلى منزلها ثم مشهد صراعها مع «محمد عبدالوهاب» على منصب النقيب كيف دار صراع غنائى ممتع بينهما؛ كل هذه المشاهد وغيرها أتقنها صناع العمل جميعا بإجادة فنية عالية خاصة فى ضرورة الحرص على دقة نقاء الصوت بالغناء «اللايف» سواء شارك بالغناء مطربين أو ممثلين قاموا بأداء غنائى فى مشاهد محددة مثل «أحمد رامى» وزوجته. نجح المخرج وفريق العمل فى تقديم عمل غنائى استعراضى يحكى سيرة «أم كلثوم» باعتبارها رمزًا من رموز الغناء العربى؛ كما خضع المخرج والمنتج إلى قوانين القطاع الخاص فى منطق تقديم هذا العمل الغنائى الضخم؛ لم يغفل «فؤاد» النوع الفنى الذى يقدمه للجمهور؛ ففى الوقت الذى يقدم فيه عمل عن سيدة بحجم وثقل «أم كلثوم» إلا أنه مع نهاية العرض اختتمه بمشهد ربما كان صادما للبعض لانحرافه وشذوذه غنائيا ودراميا عن حالة العرض الأصلية؛ عندما اختتم باستعراض مبهج وأغنية أشبه بنهايات عروض القطاع الخاص العادية؛ هذه الخاتمة على قدر نمطيتها وجرأتها فى صدمة التناقض بينها وبين حالة الشجن التى انساق إليها الجمهور مع جنازة «أم كلثوم» إلا أنه فضل أن يدهشك ويربكك بنمطية مبررة تحوى معنى أعمق من التنميط فى حد ذاته؛ ففى التناقض معنى وإشارة إلى أنه برغم هذا الإيقاع الغنائى السريع المشتت أحيانا بواقعنا الحالى إلا أننا ما زالنا «دايبين فى صوت الست»!