قبل خمسة وأربعين عامًا، وضعت حرب أكتوبر أوزارَها، وبدأت الأرض تهتز تحت أقدام اللاعبين الكبار فى الشرق الأوسط. من بين الدخان والنار، خرجت القاهرة وهى تحمل راية النصر، وتعيد رسم خرائط القوة والكرامة فى المنطقة. كانت واشنطن يومها تُصغى جيدًا لصوت مصر الذى دوَّى فوق ركام الأساطير، فمدّت يدها لتفتح بابًا جديدًا للتاريخ. ومن كامب ديفيد وُلدت العلاقات «المصرية- الأمريكية» رسميًا فى مارس 1979، فى زمن بدا وكأن العالم يُعاد تشكيله على ضوء المعجزة المصرية. لكن هذا الميلاد الأول لم يكن طريقًا مفروشًا بالورود. فقد كانت العلاقات- منذ لحظتها الأولى- مشدودة بين شد وجذب، بين شريك يريد التوازن، وقوة عُظمَى تميل إلى الوصاية. غاب السادات سريعًا، وجاء مبارك محافظًا على شعرة معاوية مع واشنطن، يراوغ السياسة بدهاء الفلاح المصرى الذى يعرف متى يلين ومتى يتصلب. ومع تعاقب الإدارات الأمريكية، ظلت القاهرة مركزًا للثقل والعقل معًا، حتى جاءت سنوات الارتباك فى عهد بوش الابن وأوباما، حين حاولت واشنطن أن تُعيد صياغة الشرق الأوسط وفق خيالها السياسى، فكانت مصر حجر العثرة، ثم صارت الحائط الذى تصطدم به المشاريع القائمة على صعود الإخوان سدة الحكم! ثم جاء عام 2013، ليكتب فصلاً جديدًا فى علاقة مصر بالعالم. ثورة الثلاثين من يونيو لم تُسقط حكم الجماعة فحسب؛ بل أنهت زمن التبعية، وأعلنت ميلاد دولة جديدة تسترد إرادتها من براثن الفوضى. وحين تولى الرئيس عبدالفتاح السيسي القيادة، كانت المهمة مزدوجة؛ إنقاذ الدولة فى الداخل، وإعادة تعريفها فى الخارج. لم يذهب الرجل شرقًا أو غربًا؛ بل اختار أن يقف فى منتصف الطريق، رافعًا شعار «الندية لا التبعية.. المشاركة لا المغالبة». أعاد رسم خريطة العلاقات الخارجية على أسُس واضحة؛ احترام السيادة، توسيع دوائر الحركة، تثبيت الثقل الإقليمى، والقدرة على المناورة فى كل الاتجاهات. وفى القلب من هذه الخريطة كانت الولاياتالمتحدة، التى لم تعد مركز القرار وحدها؛ لكنها بقيت ركيزة أساسية فى توازنات العالم. سنوات من التبايُن والاختبار مرّت، حتى بدا أن واشنطن بدأت تقرأ مصر الجديدة بعيون مختلفة، دولة واثقة، تتحدث بلغة القوة الهادئة، وتعرف ماذا تريد. ثم جاءت لحظة شرم الشيخ؛ لتعلن أمام العالم أن صفحة جديدة قد فُتحت بين القاهرةوواشنطن. حين هبط دونالد ترامب إلى أرض السلام، لم يكن المشهد بروتوكوليًا باردًا؛ بل بدا أقرب إلى مشهد تاريخى تتصافح فيه المَصالح مع الاحترام. اعترف ترامب علنًا بمكانة مصر كحليف استراتيجى للولايات المتحدة، وأقر بأن استقرار الشرق الأوسط يبدأ من القاهرة، وأن لا توازن فى الإقليم دونها. فى تلك اللحظة، بدت شرم الشيخ وكأنها تعيد كتابة ما بدأ فى كامب ديفيد قبل نصف قرن، لكن بلغة جديدة؛ لغة الندية، والعقل، والشراكة. فى اللقاء الذى جمع الزعيمين، تلاشت بقايا الخطاب القديم الذى كان يرَى فى مصر تابعًا، وظهرت فلسفة سياسية جديدة تُعيد تعريف العلاقة بين دولتين تلتقيان عند المَصالح الكبرَى، وتختلفان باحترام عند التفاصيل. القاهرة لم تعد تنتظر رضا أحد؛ بل تصوغ مكانتها بعملها واستقرارها وإنجازها الداخلى. وواشنطن بدورها أدركت أنّ مَن يريد شرقًا أوسط آمنًا؛ لا طريق له إلاّ عبر البوابة المصرية. لقد كانت شرم الشيخ ميلادًا ثانيًا للعلاقات «المصرية- الأمريكية»، ميلادًا يقوم على المصارحة لا المساومة، وعلى احترام الإرادة لا فرض الوصاية. ومثلما كان السادات فى كامب ديفيد يرسم خريطة سلام جديدة، جاء السيسي ليُعيد صياغة مفهوم الشراكة الاستراتيجية، ويمنح للعلاقة بين البلدين روحًا جديدة تنبع من قوة الدولة المصرية وثقة قائدها. وهكذا، من كامب ديفيد إلى شرم الشيخ، تمتد خيوط التاريخ بين ميلادَيْن..الأول وُلد من رحم الحرب، والثانى انبثق من رحم السلام والثقة المتبادلة. وفى الحالتين؛ كانت مصر- ولا تزال- هى مركز الجاذبية الذى يدور الشرق الأوسط حوله، والدولة التى إن تحدّثت أنصَت العالم، وإن تحركت تغيّر مسار الأحداث.