فى الساعات الأولى من يوم الإثنين الماضى، ودّعت بيروت الموسيقار «زياد الرحبانى» خرجت السيارة التى تحتضن نعشه من باب مستشفى (فؤاد خورى) بشارع الحمرا، وانطلق خلفها موكب كبير، فى مشهد مهيب، سار فيه محبو «زياد» على الأقدام، يتبعون النعش، ويلقون عليه الورد وحبات الأرز، كانت الزغاريد فى تلك اللحظات تعانق الدموع، وفى الخلفية تصدع مكبرات الصوت بكلماته التى أبت أن ترحل برحيله. وفى كنيسة (رقاد السيدة بكفيا) تجمع الأحبة، والفنانون، والساسة، والمجهولون الذين تربوا على صوت «زياد» وفنه، كان الجميع فى انتظار جثمانه، وكانت العيون كلها تبحث عن «فيروز» تلك السيدة التى حملت بصوتها تاريخًا، واليوم تحمل فى قلبها وجعًا لا يحتمل.
علاقة معقدة دخلت «فيروز» الكنيسة بهدوء يشبه حضورها، ترتدى السواد، وتضع على عينيها نظارة سوداء تحاول من خلالها أن تخفى وجعا أكبر من أن يخفى، فعلاقة «فيروز» بالحزن علاقة قدرية، فقد فقدت ابنتها «ليال» فى سن مبكرة عام 1988، بعد صراع مع المرض، وهى لا تزال فى عمر الزهور، وظلت طوال سنوات عمرها ترعى ابنها «هلى» الذى يعانى من إعاقة عقلية منذ ولادته، أما علاقتها ب«زياد» فقد كانت أبعد من كونها علاقة أم بابنها، حيث مرت بمنعطفات إنسانية وفنية عديدة، كانت فيها «فيروز» رمزًا للثبات والصبر، وكان فيها «زياد» عنوانًا للتمرد والقلق، ورغم مرور علاقتهما بمحطات من التباعد والصمت، لم تكن «فيروز» ترى فيه إلا أنه امتداد لعبقرية موسيقية لا تتكرر، وهى عبقرية والده الموسيقار «عاصى الرحبانى» التى تم اكتشافها مبكرا جدا، حيث انطلقت العلاقة الفنية بينهما من أغنية (سألونى الناس) والتى لحنها وهو فى الرابعة عشرة من عمره، بينما كان والده «عاصى» على فراش المرض، يعانى من نزيف بالمخ أثناء التحضير لمسرحية (المحطة) وحينها غضب «عاصى» خشية أن تكون الأغنية متاجرة بمرضه لكن بعدما حققت نجاحا ملفتا آمن مثلما آمنت «فيروز» بأن ابنه امتداد لمسيرته الفنية. توالت نجاحات الثنائى، وتوالت خلافاتهما أيضا، بعضها تسرب للعلن، وبعضها بقى حبيسا لصدريهما، ومختبئا بين نظرة عتاب وصمت طويل، لكن يبقى خلافهما فى عام 2013 هو الأبرز، لا سيما أنه قد تسبب فى قطيعة بينهما دامت لسنوات، حيث صرح «زياد» حينها بأن والدته معجبة بالأمين العام لحزب الله «حسن نصر الله» والعقيد الليبى «معمر القذافى» والدكتاتور السوفييتى «جوزيف ستالين» وزعيم النازية «أدولف هتلر» الأمر الذى أغضب الفنانة «فيروز» وشقيقته «ريما» حيث لم تكن (جارة القمر) ترغب فى الكشف عن ميولها السياسية، ما دفع «ريما» إلى إصدار بيان أكدت فيه أن ما صرح به «زياد» ليس أكثر من مجرد (اجتهادات زيادية لا تعبر عن فيروز). وفى عام 2018 أعلن «زياد» خلال لقاء تليفزيونى عن عودة العلاقات إلى طبيعتها مع والدته بعد إجرائه مكالمة هاتفية كانت السبب فى زوال الخلاف، وإنهاء القطيعة التى عاتبته أمه على طول مدتها، وهكذا ظلت هذه العلاقة المعقدة فيها من الرفقة ما يفوق الخصام، وفيها من التوتر ما يعادل الحب، حتى اشتد مرضه، فعاد الابن طفلاً، وعادت الأم أما كما لم تكن من قبل.
المشهد الأخير كان «زياد الرحبانى» طوال حياته، رافضا للقيود، سواء فى الفن أو فى الحياة. وعندما ألم به المرض رفض الخضوع للعلاج، وفضل أن يقاوم بطريقته، دون تدخل جراحى، حيث كان كبده المصاب بالتليف فى حاجة إلى عملية زراعة عاجلة، لكنه تعامل مع الأمر كمن يكتب نهاية كتابه بنفسه، قيل إنه فضل العزلة، وقيل إنه انسحب فى أيامه الأخيرة إلى بيت أمه، لم تكن هناك كاميرات تصور ما حدث، ولم تصدر «ريما» بيانات توضح من خلالها الحقائق، لكن ما بقى مجرد مشاهد متخيلة لأم كانت ملاذا لابنها فى ساعاته الأخيرة، ولابن لم يكن بحاجة إلا لصوت واحد، رافقه منذ المهد، فاكتفى بأن ينطفئ على مهل بين أحضانها، وتحت سقف البيت الذى شهد صراعاته وألحانه وضحكاته الصاخبة. هكذا تحولت «فيروز» إلى ممرضة فى عامها الحادى والتسعين، بالطبع لم تكن ترتدى معطفا أبيض، ولم تكن تضع سماعة فى أذنيها، ولم تكن تعطى الحقن، أو تبدل الضمادات، لكنها كانت تفعل ما لم يقدر عليه أحد، كانت تضىء آخر عتمة فى حياة ابنها بينما كان جسده المنهك يتآكل فى صمت، كانت تودع بنفسها من تبقى من أسطورة الرحبانية، وتطوى بيديها صفحة الجيل الذى غنى للحياة رغم الحرب، وللحرية رغم القهر. 2 3 4