"لأول مرة ما بنكون سوا".. لم تكن تعلم جارة القمر فيروز أن الكلمات التي تغنت بها يومًا من ألحان نجلها الراحل زياد الرحباني، سيمهلها القدر لأن تعيشها كواقع مرير مرة أخرى بعد رحيل رفيق دربها، وشريك نجاحاتها، ليس فقط الابن، بل الموسيقي الثائر بإبداعاته الغنائية والمسرحية التي عكست واقع المجتمع اللبناني في أحلك فتراته الزمنية، وكان صوت فيروز الشجي بمثابة ظِله الذي رافقه للتعبير عن أفكاره وهمومه، هو الذي اقتحم عُزلتها بعد وفاة والده عاصي الرحباني، واستطاع أن يُعيدها إلى المسرح مرة أخرى بكامل توهجها وتألقها، مُستكملًا معها رحلة الأخوين رحباني، لكن برؤية أكثر عصرية وجرأة. عكس مشهد الوداع الأخير مدى ترابط العلاقة الفنية والأسرية بين الأم والابن البِكر، حيث اختصر مظهرها الهادئ الصامت الكثير من مشاعر الحزن والألم على فراق ابنها البِكر أولًا، وأحد أبرز مُبدعي الموسيقى والمسرح العربي ثانيًا، في الظهور الأول لها منذ سنوات طويلة، فهي التي اعتادت أن تخرج من عزلتها من أجل زياد فقط، في حياته ومماته. جلست فيروز في الصف الأمامي داخل كنيسة رقاد السيدة في بكفيا تُصلي بصمت أمام نعش نجلها على وقع ترنيمة "أنا الأم الحزينة"، مُحاطة بالذكريات، تنظر إلى الكواليس حيث كان زياد يرافقها في جولاتهما الفنية، وكيف كان يلحن لها أغانيه الأولى، تتذكر ضحكاته وأفكاره المُبدعة، في لحظات مؤثرة، قبل أن يوارى الثرى، وتتناثر الألحان في الهواء، لكن سيبقى إرثهما الفني خالدًا عبر السنوات، شاهدًا على أبرز المحطات في تاريخ الفن العربي، ومؤثرًا في العديد من الأجيال السابقة والقادمة. "التعاون الأول" انطلقت شرارة التعاون الفني الأول بين فيروز وزياد الرحباني في أغنية "سألوني الناس" التي صدرت عام 1973، من تأليف منصور الرحباني، وتوزيع إلياس الرحباني، وبرهنت على ولادة موهبة جديدة داخل عائلة الرحابنة، حيث لحنها زياد وهو لم يتجاوز ال 15 عامًا من عمره، لكنها أولى التجارب اللحنية التي عكست خبراته الموسيقية، وامتزاجه بالنغم والشعر منذ نعومة أظافره، وحققت الأغنية آنذاك نجاحًا كبيرًا حتى أصبحت واحدة من الأغنيات الخالدة التي ساهمت في تعزيز مكانة فيروز في العالم العربي. تعكس الأغنية مشاعر الحزن والحنين، حيث تسرد فيروز قصة سؤال الناس عن حالها، وعما يدور في قلبها، بعد الأزمة الصحية التي تعرض لها زوجها عاصي الرحباني، ودخل على أثرها إلى المستشفى بعد إصابته بنزيف في المخ، أثناء الإعداد لمسرحية "المحطة"، حيث غاب عن بروفات وعروض المسرحية التي أدت فيروز فيها الدور الرئيسي، وهو ما كان يحدث للمرة الأولى، إذ كان يحرص على التواجد في كل عروض المسرحيات والحفلات، ولاحظ شقيقه منصور تأثر فيروز بغياب زوجها، فكتب "سألوني الناس" التي كانت بمثابة رسالة شوق وانتظار من فيروز إلى زوجها المريض، لكن غضب عاصي من الأغنية على اعتبار أنها استغلال لمحنته، وقرر حذفها من المسرحية، لكن نجاحها الكبير جعله يتراجع عن قراره فيما بعد، وللأغنية مواقف أخرى حيث انهمرت فيروز في البكاء في إحدى حفلاتها الغنائية وهي تُغني مقطع "بيعز عليً غني يا حبيبي.. لأول مرة ما منكون سوا" وذلك بعد وفاة زوجها عاصي الرحباني، وكان لحن الأغنية في البداية مصنوعًا للمطرب اللبناني مروان محفوظ، وكانت هناك كلمات أخرى لهذا اللحن، لكن حينما استمع عمه منصور الرحباني إلى اللحن، أخبره أنه يريده ليضع عليه كلمات أغنية "سألوني الناس". أيضًا لعبت الصدفة دورها في غناء فيروز لأغنية "ع هدير البوسطة" من كلمات وألحان نجلها زياد الرحباني، حيث لم تكن لها من الأصل، وغناها جوزيف صقر قبل أن تُعجب عاصي الرحباني الذي أصر على أن تُقدمها فيروز بصوتها، وهو ما حدث بالفعل عام 1979، وحققت الأغنية نجاحًا كبيرًا، ولعل أكثر ما ميزها هو جرأة مفرداتها، حيث لم يتوقع أحد أن يسمع لأول مرة صاحبة الصوت الملائكي تغنى "يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين"، أو" واحد عم ياكل خس و واحد عم ياكل تين.. في واحد هو ومرته ولوه شو بشعة مرته". ومن بعدها، توالت عشرات الأعمال والنجاحات الفنية بين فيروز وزياد، حتى أنه أصبح أحد أكثر المؤثرين والمُبدعين في مشوارها الفني الطويل والممتد بأفكاره المُغايرة، وأسلوبه الفريد في المزج بين الموسيقى الشرقية والغربية، والأنماط التقليدية والحديثة، وهي المدرسة التي قدمت فيروز بشكل مختلف عن مدرسة الأخوين رحباني في الشعر والموسيقى، حيث ابتكر لنفسه مشروع فني مستقل، لكنه ظل محافظًا على أصالة الألحان، وعمق الكلمات في أغنيات (حبيتك تنسيت النوم، قديش كان فيه ناس، البوسطة، معرفتي فيك، وحدن، أنا عندي حنين، عودك رنان، الوداع، حبو بعضن، يا جبل الشيخ). "نقطة تحول" كان تعاون فيروز وزياد نقطة تحول في مسيرة كلايهما، لاسيما بعد وفاة والده عاصي الرحباني عام 1986 -أحد أعمدة مدرسة الرحابنة – حيث تسلم الراية من بعده، وأنتجا سويًا العديد من الأغنيات الخالدة حتى يومنا هذا، منها (عندي ثقة فيك، صباح ومسا، أنا فزعانة، تتذكر ما تنعاد، سلملي عليه، ضاق خلقي، بعتلك)، وغيرهم الكثير. وقالت فيروز عن موهبة نجلها في أحد لقاءاتها الإعلامية السابقة : "زياد مثل آلة تصوير، بتلقط الصور اللي ما بيقدر يشوفها حدا، الصور اللي موجودة بالعتمة، وعنده قدرة على مراقبة الأشياء بدقة غريبة، مثل ما عنده تأمل طويل لعلاقة الأشياء ببعضها، كل شيء بالحياة له وجهه الساخر، وعظمة زياد إنه قادر يلقط ويصور هالوجه الساخر، لأنه عميق كتير بمعرفة الوجه المأساوي لهالشئ". وأضافت : "ما كنت بالأول قادرة أشيل لقب الأم، ولا كان عاصي قادر يشيل لقب الأب من خلال نظرتنا لزياد، بس زياد شال الأم والأب على جنب، وحط فيروز الفنانة وعاصي الفنان، ولهالسبب كان في ضرورة إنه زياد يختار بحرية الاتجاه الأنسب لفنه"، وتابعت : "سلاح زياد بالفن نظرته للإنسان والوجود، سلاحه الشك العميق اللي بيخلق جمالية الفن، والقسوة الصعبة اللي بتخلق الأشياء اللي عم تنمى قدام الأشياء اللي عم بتختير". "إلهام" كانت فيروز بصوتها وكلماتها مصدر إلهام لزياد الذي قال عن صوتها : "قادر يخليك تفكر في اللامنطوق"، وهو الإلهام الذي دفعه لكتابة وتلحين أغنية "كيفك انت" أحد أبرز وأشهر وأنجح الأغنيات في تاريخ فيروز، بعد عودته من السفر، ولقاءه بوالدته صدفة، حيث وجهت له عتابًا وسؤالًا بعدما هاجر من لبنان ليتزوج بحبيبته دلال كرم، قائلة : "كيفك انت عم بيقولوا صار عندك ولاد، أنا والله كنت مفكرتك براة البلاد"، استوحى كلمات الأغنية من حديث عفوي دار بينه وبين والدته، حتى استهل كتابة الأغنية كاملة ولحنها، ثم عرضها على فيروز التي رفضت غنائها في بادئ الأمر بسبب غرابة بعض الكلمات منها (ملا انت)، لكنها وافقت على غنائها بعد 4 سنوات من عرضها عليها، حتى صدرت عام 1991، وحققت نجاحًا مدويًا حتى اليوم. "تشجيع" شجع زياد والدته على تقديم أغنيات "زوروني كل سنة مرة"، و "أهو ده اللي صار" لفنان الشعب سيد درويش، لكن كانت تقابل محاولاته التشجيعية بالرفض، وأكد في تصريحات سابقة أن اقناعها بها كان أمرًا صعبًا للغاية، ولكن بعد تقديمها لها، تعامل الجمهور معها وكأنها كُتبت ولُحنت خصيصًا لفيروز. "خلافات" علاقة فيروز وزياد لم تدم على نحو هادئ طيلة الوقت والسنوات، بل تسللت إليها الخلافات والمشكلات، خاصة بعد تصريحات زياد عام 2013، وكشفه عن ميول والدته السياسية، حيث قال أنها مُعجبة بالأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، والعقيد الليبي معمر القذافي، والدكتاتور السوفييتي جوزيف ستالين، وزعيم النازية أدولف هتلر، إضافة إلى الرئيس جمال عبدالناصر، الأمر الذي أغضب الفنانة فيروز وشقيقته المخرجة ريما، وما أغضبها أنه أعلن ذلك دون الرجوع إليها، حيث إنها لم تكن ترغب في الكشف عن ميولها السياسية، ما دفع ريما إلى إصدار بيان أكّدت فيه أنّ ما صرح به زياد ليس أكثر من مجرد اجتهادات زيادية لاتعبر عن فيروز، لكن نفى زياد أن تكون تصريحاته عن والداته السبب في القطيعة بينهما، والتي استمرت لسنوات، رفضت فيروز خلالهم محاولات زياد للصلح بينهما، وأرجح السبب في طريقة إدارة شقيقته ريما لأعمال والدته، وما نتج عنها من خلافات مع أبناء عمه منصور الرحباني. وأوضح زياد خلال إحدى المقابلات الإعلامية أنه استخدم حيلة للتصالح تستخدمها والدته، حينما ترغب في أن يجيب على اتصالاتها، إذ تتصل وتصمت من دون أن تتحدث، انتظارًا لحديثه هو، وقام زياد بهذه الحيلة مع والدته، واتصل بها وصمت، وحينما بادرت السيدة فيروز بالحديث، أجابها "حمدا لله ع السلامة"، مُنهيًا عامين من القطيعة، مشيرًا إلى أن والدته عاتبته على القطيعة حينما التقى بها لاحقًا. "إرث فني خالد" ترك الثنائي فيروز وزياد إرثًا فنيًا خالدًا، استطاعا من خلاله بث رسائل إنسانية وإجتماعية تتعلق بالهوية والانتماء، حيث تُعد أغانيهما مرآة للواقع اللبناني والعربي، ما جعلها تتجاوز الزمن، وسيظلا رمزًا للشراكة الفنية الناجحة من خلال إبداعاتهما، وقصة نجاح لن يمحوها الموت، إذ سيظل تراثهما الفني حيًا في ذاكرة الأجيال القادمة، ويستمر في إلهام الفنانين في كل أنحاء العالم العربي. رحل زياد الرحباني عن عالمنا عن عُمر ناهز ال 69 عامًا، لكنه سيبقى حيًا في قلب فيروز الأم، وقلوب جميع مُحبيه في الوطن العربي، فكان ومازال للتمرد عنوان، سواء في أفكاره، كتاباته، آرائه، وموسيقاه، وبرز هذا الملمح عن شخصيته في سن مبكر، وظهر في سلوكياته وتصرفاته، بعدما قرر مغادرة منزل أبويه (عاصي وفيروز) وهو في الثالثة عشرة من عمره، بسبب تصاعد حدة التوترات والخلافات بينهما التي قال عنها سابقًا : " لم أعش طفولة طبيعية، وفتحت عيوني على مشاكل والدي عاصي الرحباني وفيروز، وذات يوم بلغ غضبي ذروته، وحاولت الحصول على مسدس وأطلق النار عليهما حتى استريح، وغادرت البيت وعمري حوالي 13 عامًا، وعملت عازفًا للبيانو، وانتقلت إلى منزل صديقي ورفيق مسيرتي الفنية جوزيف صقر". اقرأ أيضا: a href="https://akhbarelyom.com/news/newdetails/4663101/1/%D9%85%D8%B1%D9%88%D9%89-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D8%B9%D9%8A-%D8%B2%D9%8A%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AD%D8%A8%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%AA%D9%88%D8%A7%D8%B3%D9%8A" title="مروى اللبنانية تنعي زياد الرحباني وتواسي فيروز: "خسارة لا تُعوَّض""مروى اللبنانية تنعي زياد الرحباني وتواسي فيروز: "خسارة لا تُعوَّض"