منذ إعلان استقلال دولة فلسطين فى الجزائر عام 1988، لم تتوقف الجهود السياسية والدبلوماسية الفلسطينية الرامية إلى نيل الاعتراف الدولى الكامل بحقها فى الوجود كدولة مستقلة ذات سيادة. ورغم أن أكثر من 147 دولة حول العالم اعترفت بفلسطين رسميًا، لا يزال هذا الاعتراف منقوصًا داخل المنظومة الدولية، خصوصًا فى ظل غياب العضوية الكاملة لدولة فلسطين فى الأممالمتحدة بسبب اعتراضات سياسية، أبرزها من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. تأتى هذه المساعى فى وقت يتصاعد فيه الوعى العالمى تجاه معاناة الشعب الفلسطينى، خاصة بعد العدوان المتكرر على قطاع غزة والضفة الغربية، والانتهاكات المستمرة التى تطال المدنيين الفلسطينيين. ومع تصاعد الحملات الشعبية والرسمية فى عدد من الدول الأوروبية للمطالبة بالاعتراف بدولة فلسطين، بدأ المشهد الدولى يشهد تحولات ملموسة، كان أبرزها إعلان إسبانيا، أيرلندا، والنرويج مؤخرًا نيتها الاعتراف رسميًا بفلسطين، فى خطوة رمزية وسياسية كبرى تعيد فتح النقاش حول العدالة الدولية والمعايير المزدوجة فى التعامل مع حقوق الشعوب. لا تُختَزل مساعى الاعتراف بفلسطين فقط فى مقعد بالأممالمتحدة أو علم يُرفع فى مقر دولة، بل هى معركة من أجل الكرامة والهوية والعدالة، تعكس تطلع شعب محاصر منذ أكثر من سبعة عقود إلى نيل أبسط حقوقه كبقية شعوب العالم: أن يعيش حرًا على أرضه، تحت راية دولته المستقلة، وبحدود معترف بها، وعاصمة فى القدسالشرقية. ورغم العراقيل، تستمر الدبلوماسية الفلسطينية، مدعومة بحركات التضامن العالمية، فى خوض هذا النضال السياسى سعيًا لتحويل الاعتراف الرمزى إلى واقع قانونى وسياسى لا يمكن تجاهله، وفى 22 مايو 2024 أعلنت كل من النرويج وأيرلندا وإسبانيا اعترافها رسميًا بدولة فلسطين اعتبارا من ال28 من الشهر نفسه. وقبل هذا التطور اعترفت 8 بلدان أعضاء فى الاتحاد الأوروبى بدولة فلسطين، وهى بلغاريا وبولندا والتشيك ورومانيا وسلوفاكيا والمجر وقبرص والسويد. وتأسست «مجموعة مدريد+» لدعم فلسطين بوجه الإبادة الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة، وتضم فى عضويتها عددًا من الدول الأوروبية والعربية والإسلامية، بينها إسبانيا والنرويج وسلوفينيا وأيرلندا وتركيا وفلسطين وقطر والسعودية والأردن ومصر والبحرين. واجب أخلاقى واعتبر الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون أن الاعتراف بدولة فلسطينية ليس «مجرد واجب أخلاقى؛ بل مطلب سياسى». كما أكد ماكرون أن على الأوروبيين «تشديد الموقف الجماعى» حيال إسرائيل «فى حال لم تقدم ردًا بمستوى الوضع الإنسانى خلال الساعات والأيام المقبلة» فى قطاع غزة، وشدد على أن فرنسا تريد حل الدولتين للقضية بين إسرائيل والفلسطينيين. وقال إنه لا توجد معايير مزدوجة فى السياسة الفرنسية تجاه الشرق الأوسط، وأن الحل السياسى وحده هو الذى سيجعل من الممكن استعادة السلام والبناء على المدى الطويل. وفى هذا السياق، رأى المحلل الفلسطينى الدكتور أيمن الرقب أن الحراك الدولى لدعم الشعب الفلسطينى الذى تقوده فرنسا مع مجموعة من الدول الأوروبية مثل النرويج وإسبانيا والمجموعة العربية برئاسة مصر والمملكة العربية السعودية والأردن والإمارات كله يأتى فى سياق دعم الشعب الفلسطينى. وأضاف فى تصريحات لمجلة روزاليوسف، أن الجهة الوحيدة القادرة على الضغط على إسرائيل لقبول حل الدولتين وإيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية هى الولاياتالمتحدةالأمريكية، ومع ذلك فهى لا تقدم رؤية اتجاه حل الدولتين أو اتجاه حل هذا الصراع بشكل جذرى وبالتالى كل هذا الحراك معنوى. وأشار إلى أن كل هذا الحشد الدولى أمر مهم لرفع معنويات الشعب الفلسطينى وإكمال المطالب الفلسطينية بضرورة قيام دولة فلسطينية تعيش بجانب دولة الاحتلال، فهذا الحق سيتجسد ويفضح الاحتلال والولاياتالمتحدة التى تدافع عن إسرائيل باستماتة، لكن هذا الدعم الدولى بمثابة إقرار لحقوق الشعب الفلسطينى وتعرية للاحتلال ومن يقف معه ضد وجه الشعب الفلسطينى. عضوية كاملة دعت أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا إلى منح فلسطين عضوية كاملة فى الأممالمتحدة والاعتراف بدولتها على أساس حدود 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، وجددت التزامها بحل الدولتين. وقالت الخارجية الإسبانية إن الاجتماع الذى عُقد فى مدريد يهدف إلى تجديد وتعزيز الالتزام الدولى بحل الدولتين، مشددة على أن الدولة الفلسطينية القابلة للحياة والمتصلة جغرافيًا ضمن حدود معترف بها دوليًا وتشمل قطاع غزة والضفة الغربية وعاصمتها القدسالشرقية هى السبيل الوحيد لتحقيق السلام والأمن وتلبية التطلعات الوطنية المشروعة للشعبين الفلسطينى والإسرائيلى. وأشارت أيرلندا والنرويج وسلوفينيا وإسبانيا إلى أن مؤتمر تسوية القضية الفلسطينية سلميًا وتطبيق حل الدولتين المقرر عقده فى 17 يونيو الجارى برعاية الأممالمتحدة وبرئاسة مشتركة من فرنسا والسعودية لا يعد مجرد مناسبة تحظى بأعلى درجات الشرعية الدولية، بل يمثل أيضا الإطار المناسب للمضى قدمًا فى تنفيذ حل الدولتين. وكان نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية الإيطالى أنطونيو تاجانى أكد أيضًا أن هناك انتهاكًا واضحًا من إسرائيل للقانون الإنسانى الدولى، مطالبًا بالتوقف الفورى عن القصف الإسرائيلى لغزة وإطلاق سراح المحتجزين. وأكد الوزير أن إيطاليا ستعترف بالدولة الفلسطينية، مشيرًا إلى ضرورة إجراء عملية تفاوضية مع إسرائيل تعترف فيها الدولتان ببعضهما البعض. وأشار إلى أن إيطاليا صوتت على قرار منظمة الصحة العالمية الذى يدعو إنهاء حالة الطوارئ الصحية فى غزة، مشددًا على ضرورة أن تتوافق مع المعايير الدولية. كما حذر وزير الخارجية الفرنسى جان نويل بارو من أن قطاع غزة أصبح «فخًا للموت»، ودعا الحكومة الإسرائيلية إلى «العودة إلى رشدها» وتسهيل مرور المساعدات الإنسانية للقطاع، فى وقت تظل فيه فرنسا «مصممة» على الاعتراف بفلسطين كدولة. كما أكد وزير الخارجية الإسبانى خوسيه مانويل ألباريس خلال لقائه مع نظيره الأمريكي، مارك روبيو، فى أول اجتماع رسمى لهما فى واشنطن، أن هناك ضرورة لكسر الحصار على غزة، وتمكين سكان غزة من الحصول على المساعدات الإنسانية دون عوائق، بالإضافة إلى أنه وصف ما يحدث فى القطاع بأنه غير مقبول. وقال نعمان توفيق العابد - الباحث فى العلاقات الدولية: إنه بعد الاحتلال الطويل للأرض الفلسطينية وما تقوم به حكومة الاحتلال من إبادة فى قطاع غزة وأيضًا ما تقوم به من إجراءات تهويد لمدينة القدس والمسجد الأقصى فى محاولة لشطب القضية الفلسطينية وإنهاء الحلم الفلسطينى بإقامة دولته، هناك حراك عربى إسلامى تطور ما بعد العدوان الإسرائيلى الأخير وتم تشكيل اللجنة الوزارية العربية للوقوف خلف القرارات التى اتخذتها القمة الطارئة التى عقِدت فى القاهرة برعاية الرئيس عبدالفتاح السيسى. وأضاف أن هذه التحركات أتت بنتائج إيجابية حيث تغير الموقف الدولى وهذا ما يلمسه العالم من الاتحاد الأوروبى وتحديدًا الموقف الفرنسي، وكانت زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون لمصر مهمة؛ حيث أدرك خلالها أن ما تقوم به إسرائيل ضد الفلسطينيين خطر أمنى واستراتيجى على المنطقة وتحديدًا على دول الاتحاد الأوروبى. وطالب نعمان العابد باستمرارية هذه التحركات وأن تنتقل من مجرد بيانات والتهديد بالاعتراف إلى اعتراف حقيقى يتم تجسيده على أرض الواقع من خلال وقف الحرب وإجبار الاحتلال على المثول لمتطلبات السلام والقانون الدولى. عقبات فى الطريق رغم التقدم الأوروبي، لا تزال الولاياتالمتحدة تقف حجر عثرة أمام المساعى الفلسطينية لنيل الاعتراف الكامل فى الأممالمتحدة، مستندة إلى حق النقض (الفيتو) داخل مجلس الأمن. أما إسرائيل، فترى فى أى اعتراف بدولة فلسطينية تهديدًا مباشرًا ل«حقها فى الدفاع عن نفسها» ولوجودها كدولة «يهودية ديمقراطية»، بحسب ما يصفه الخطاب الرسمى الإسرائيلى. هذا الموقف المزدوج - الاعتراف بإسرائيل كدولة ذات سيادة مقابل حرمان الفلسطينيين من الحق ذاته - يعكس خللًا جوهريًا فى النظام الدولي، ويضعف من مصداقية المؤسسات الأممية فى نظر الشعوب، لا سيما فى العالم العربى والإسلامى. لذلك لن ينهى الاعتراف الدولى بدولة فلسطين الاحتلال، لكنه يشكّل خطوة حاسمة على طريق تثبيت الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ويمنحه أدوات سياسية وقانونية أقوى لمحاسبة الاحتلال الإسرائيلى فى المحافل الدولية. كما أنه يفتح الباب أمام انضمام فلسطين إلى معاهدات ومنظمات دولية، ويُعزز مكانتها القانونية أمام محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، ومن ثم فإن الاعتراف هو إعلان رمزى بأن العالم يرى الفلسطينيين شعبًا يستحق الدولة والحياة والسيادة، وليس مجرد «قضية إنسانية» تحتاج إلى مساعدات طارئة.