إن التأرجح أو التناقض الذى يميز العلاقة بين فرنسا ودولة إسرائيل منذ تأسيسها بقرار أممى سنة 1948، هو ما دفع معهد واشنطن لدراسات الشرق الأوسط أن يصف تلك العلاقة الفارقة، ب«البندولية». وهو وصف يختزل أيضًا ملامح العلاقات الفرنسية - العربية فى العديد من محطاتها بحكم الارتباط الشرطى، الذى جعل أى دعم فرنسى للحقوق العربية فى فلسطين، تباعدًا وجفاءً مع دولة الاحتلال. فهذا هو الإطار الجامع لهذه العلاقة الثلاثية المعقدة، والذى يجعلها دائما تبدو متأرجحة من جميع الزوايا، رغم أن فرنسا للإنصاف تجتهد كثيرًا لتبدو متوازنة بين الطرفين (العرب وإسرائيل) بما لا يتعارض بالطبع مع مصالحها. تمرد «ديجول» وقد تبلور هذا الدور الفرنسى (المتأرجح)، مع انطلاق عهد الجمهورية الفرنسية الخامسة، التى أسسها الرئيس شارل ديجول (1959: 1969)، وكانت فرنسا قبلها منحازة بالكامل لصالح إسرائيل، فقد سبقت العديد من دول العالم فى الاعتراف بها سنة 1949، وشاركت فى تسليح جيش الاحتلال وقدمت لإسرائيل أهم خدمة فى تاريخها عندما ساعدتها فى بناء مفاعلها النووى فى ديمونة بعد أن رفضت أمريكا ذلك، وتوجت هذه العلاقة الخاصة بين البلدين بمشاركتهما مع إنجلترا فيما عرف بالعدوان الثلاثى على مصر سنة 1956. ويؤكد ألان غريش الباحث الفرنسى المتخصص فى شئون الشرق الأوسط: «أن فرنسا فى فترة الخمسينيات كانت الحليف الأوفى لإسرائيل، مزودة جيشها بالأجهزة المتطورة وبطائرات الميراج، ومساعدتها على اكتساب التكنولوجيا العسكرية النووية». فيما يعتبر الكاتب الفرنسى رومان ديفيد «أن فرنسا حاولت فى علاقاتها بإسرائيل أن تختط لنفسها مسارًا مختلفًا يمكنها من الحفاظ على تلك العلاقة مع الإبقاء على شعرة صداقة مع العالم العربى من خلال ما وصفه بمحاولة تبنى موقف متوازن من الصراع العربى الإسرائيلى». جاء ذلك فى دراسة له بعنوان «فرنسا وإسرائيل: 70 عامًا من العلاقات بين التقارب والفتور». وبحسب موقع قناة «الجزيرة»، فإن الرئيس ديجول «مع وصوله إلى السلطة نهاية الخمسينيات تبنى مواقف سعى عبرها للنأى ببلاده عن المظلة الأمريكية المهيمنة على المواقف الغربية، وهو ما جعله يضع حدًا لذلك التقارب الكبير الذى كان قائمًا مع إسرائيل التى تحولت مع الوقت إلى ابنة أميركا المدللة». ويقول ديجول فى مذكراته: «لقد وضعت حدًا لممارسات التعاون المسيئة على المستوى العسكرى مع إسرائيل». وكانت فرنسا خلال الفترة من 1956 1967 المورد الرئيسى للسلاح الثقيل إلى إسرائيل. ثم تغيرت السياسة الفرنسية تجاه إسرائيل على أعقاب عدوان يونيو سنة 1967، وعبر الرئيس الفرنسى عن غضبه من رفض إسرائيل مشورته فى عدم شن الحرب، بفرضه حظرًا مباشرًا على شحن الأسلحة إلى إسرائيل. وعملت الجمعيات والمؤسسات اليهودية (اللوبى اليهودى فى فرنسا) على إسقاط ديجول فى العام التالى سنة 1968، وكذلك حاربت هذه المؤسسات خليفته جورج بومبيدو بسبب «سياسته العربية»، ما شكّل تغيرًا جذريًا مع حقب سابقة. ماكرون فى مواجهة نتنياهو التناقض فى العلاقات بين إسرائيل وفرنسا امتد مع رؤساء الجمهورية الخامسة، وصولا إلى عهد الرئيس ماكرون الذى يوصف بأنه «المسئول الأوروبى الأكثر تشددًا فى التعاطى مع نتنياهو»، بحسب ما ذكرت صحيفة «الشرق الأوسط»، فقد طالب ماكرون بوقف تزويد إسرائيل بالسلاح الذى تستخدمه فى حربها على غزة وعلى لبنان، برغم أنه كان فى مقدمة قافلة القادة الغربيين الذين زاروا إسرائيل للتعبير عن دعمهم لها بعد السابع من أكتوبر سنة 2023. وقد زادت الخصومة بين البلدين بعد اندفاع إسرائيل فى حربها ضد لبنان فى سبتمبر 2024، وتصاعد العمليات العسكرية فى الجنوب وصولا إلى العاصمة بيروت وامتدادها إلى جميع أرجاء الدولة اللبنانية، التى انهارت تحت رحى المعارك الطاحنة، والعربدة الإسرائيلية فى سمائها المكشوفة بعد تراجع قدرات حزب الله. وفشلت كل جهود الوساطة الفرنسية، والدولية، لردع إسرائيل عن المضى فى إشعال المنطقة، ووقفت باريس عاجزة عن حماية لبنان التى تمثل عصب النفوذ الفرنسى فى منطقة الشرق الأوسط. تدهور النفوذ الفرنسى كما تلقت فرنسا فى العامين الأخيرين عدة ضربات متتالية، بتراجع واضح ومشهود لنفوذها التقليدى وعمقها التأثيرى فى إفريقيا، فقد شهدت منطقة غرب إفريقيا (المعروفة تاريخيًّا بإفريقيا الغربيَّة الفرنسيَّة)، عددًا من الانقلابات والتحولات السياسيَّة، نتج عنها سُقوط أربع حكومات موالية لفرنسا فى بوركينا فاسو ومالى والجابون والنيجر، واستبدالها بأنظمة عسكريَّة مُعادية لها، واستتبع ذلك انسحاب القوات الفرنسيَّة وانتهاء مهامها فى هذه الدول. وتمثل هذه التحولات مؤشرًا واضحا على تدهور النفوذ الفرنسى وتراجُعه فى إفريقيا وايذانًا بانتهاء الهيمنة الفرنسيَّة. سحر الشرق فى مصر ويبدو أن الرئيس الفرنسى الذى كان التاريخ محورًا لزيارته إلى مصر، قد أزاح قبل حضوره إلى مهد الحضارة التراب عن تراث بلاده منذ قيام الثورة الفرنسية نهاية القرن الثامن عشر الميلادى، وراجع مذكرات حكام فرنسا العظماء من نابليون إلى ديجول، وخلص إلى أن مصر درة الشرق هى طريقه الوحيد لاستعادة مجد بلاده ودورها وتأثيرها العالمى، ساعده فى ذلك التحرر الإجبارى الذى فرض على فرنسا الابتعاد عن «المظلة الأمريكية» التى تحاصر القرار الأوربى منذ عقود، فى ظل سياسات ترامب الجديدة التى تتوقف فيها أمريكا عن سداد فاتورة احتضان القرار الأوربى متنازلة عن فرض الوصاية الأبوية على بلدان القارة العجوز. لقد جاء ماكرون إلى القاهرة مبشرًا بفرنسا الجديدة، التى تحتاج إلى مصر بقدر احتياج مصر إليها، فى تكافؤ نادر سمح بعلاقة استراتيجية، ربما تنجح فى فرض معادلات جديدة على مسرح العمليات فى الشرق الأوسط. الوضع فى القاهرة أما مصر فقد أمست تحشد قواها لتنجو من الحصار المفروض عليها منذ طوفان الأقصى، والذى أثقل اقتصادها بأكثر مما تحتمل دولة مجتهدة، كانت تستعيد عافيتها بعد سنوات الفوضى والإرهاب، قبل أن تلاحقها الأزمات الكبرى الخانقة من جائحة كورونا إلى حرب أوكرانيا، وصولا إلى دائرة النيران المشتعلة تحاصر حدودها من كل الاتجاهات خلال العامين الأخيرين فى غزة والسودان، فيما بقى الوضع فى ليبيا قابلًا للانفجار فى أى لحظة، ويستدعى الانتباه والترقب. بند واحد فى فاتورة الخسائر ممثلا فى عوائد قناة للسويس التى تراجعت بفعل اضطراب الملاحة فى البحر الأحمر، يكشف حجم التحديات التى تواجه مصر واقتصادها. ومعركة سياسية أخيرة مثل خطة التهجير القسرى للشعب الفلسطينى من غزة والتى يعاد إنتاجها كل فترة بصيغ متنوعة يكشف حجم الجهود الأمنية والعسكرية والدبلوماسية، الملقاة على عاتق الدولة المصرية. لقاء غير مسبوق لقد حرص البلدان، مصر وفرنسا، على إبداع برنامج غير مسبوق لزيارة الرئيس الفرنسى إلى القاهرة، زيارة تليق تفاصيلها ومحطاته بطموح البلدين فى هذه اللحظة التاريخية الفارقة، لقد زار ماكرون مصر قبلها أربع مرات، والتقى الرئيس السيسى 12 مرة فى أماكن ومناسبات مختلفة، لكنك تشعر أنهما فى إبريل 2025، يلتقيان معا للمرة الأولى، تفاهم وتناغم واضح، ظهرا كحليفين، تقاربت بينهما المعطيات والأهداف، تساوت الطموحات فتعاظمت النتائج.