عندما كنت طالبة كانت صورة فرنسا فى مصر والعالم العربى؛ هى الدولة المستعمرة التى تستخدم أقسى الأساليب للسيطرة على سكان مستعمراتها واستنزاف ثرواتها. وبالطبع كان المثل أمامنا هو الممارسات الوحشية الفرنسية فى الجزائر ضد زعماء المقاومة الذين قبضت عليهم فرنسا، وهم فى الطائرة فى طريقهم الى أسبانيا فى 20 أكتوبر 1956، وكان منهم بن بيلا! كما امتدت الإجراءات الفرنسية غير الإنسانية الى أعضاء المقاومة الجزائرية من قتل وسجن وتعذيب؛ حتى عُرفت الثورة الجزائرية «بثورة المليون شهيد»! ومازلت أتذكر قصة جميلة بوحريد وزميلاتها، وكيف كانت ملهمة لنا نحن البنات العربيات اللاتى عشن عصر التحرر من الاستعمار. ولن أنسى عندما قال لى والدى فى صباح يوم من أكتوبر 1962: إنه استضاف جميلة ورفيقاتها فى مصر - وكان ذلك بعد التحرير- وأنها ستأتى الى منزلنا، وسوف نقابلها. كانت فرحتى لا توصف وأنا أضع يدى فى يد رمز الحرية والمبادئ السامية والوطنية بالنسبة لجيلى. أولا: مرحلة استمرار العداء العربى لفرنسا: وقد عاد ديجول الى حكم فرنسا للمرة الثانية فى يونيو 1958 بعد الانقلاب العسكرى فى 13 مايو فى نفس العام، وقدم دستورا جديدا بدأ به الجمهورية الخامسة الفرنسية. وفى هذا العصر كانت فرنسا تعانى داخليا من الانقسام وعدم الاستقرار الى درجة التهديد بالحرب الأهلية. أما خارجيا فقد قاومتها الحركات الوطنية فى مستعمراتها فى إفريقيا وآسيا خاصة فى الجزائر. وفى العالم العربى، فإلى جانب ثورة الجزائر التى كانت تُقمع بشدة من جانب الفرنسيين فى ظل استنكار شديد، كانت العلاقات لاتزال مقطوعة بينها وبين مصر، حيث مرت سنتان فقط على العدوان الثلاثى، الذى كانت فرنسا - الجمهورية الرابعة - أحد أطرافه، الى جانب بريطانيا واسرائيل. وفى الواقع فإنه فى تلك الفترة كانت الكراهية متبادلة بين فرنسا والعرب؛ حتى وصلت الى درجة التآمر فى سيفر مع طرفى العدوان الآخرين، ثم بدأ الهجوم المسلح على مصر، وكان الجنرال كيتلى يقول: إن السبب فى اشتراك فرنسا فى هذا الغزو هو الجزائر، وأنه كان يهدف الى هزيمة الجزائر فى القاهرة! ومما زاد فى عداء فرنسا لمصر فى ذلك الوقت.. 1- فشل العدوان الثلاثى وخرجت مصر منه أقوى دوليا وداخليا. 2- تمصير البنوك والشركات الفرنسية فى مصر بعد العدوان الثلاثى. 3- المقاومة العنيفة من جانب أهل بورسعيد لقوات الاحتلال وخاصة الفرنسى؛ لدرجة أنهم أبلغوا عن فقد 350 من عسكرييهم الذين نزلوا المدينة بالسفن الحربية وبالمظلات، وطلبوا معونة البريطانيين! 4- لقد كانت دائما العلاقات قوية بين فرنسا واسرائيل، وكانت الدولة الأولى التى تمدها بالسلاح والطائرات فى ذلك الوقت، بل ساعدتها فى بناء المفاعل الذرى فى ديمونة. إذاً وصل ديجول الى الحكم والموقف بالنسبة للعلاقات بين فرنسا ومصر والدول العربية عموما، لايمكن أن يكون أسوأ من ذلك! ما الذى حدث بعد ذلك؟ ثانيا: الترقب العربى: لقد استعان الجنرالات الفرنسيون بالمارشال ديجول؛ بهدف الإبقاء على الجزائر فرنسية والقضاء على الثورة الجزائرية! ولكن بعد زيارة ديجول الى الجزائر فى أكتوبر 1958، اتبع سياسة المرونة والتهدئة؛ فدعا الثوار الجزائريين فى نفس الشهر الى إلقاء السلاح دون شرط! ثم طبق عدة مشروعات عسكرية واقتصادية بهدف استسلام جبهة التحرير الجزائرية وجيشها، كما استمر فى التوسع فى السجون، وتفنن العسكريون الفرنسيون فى وسائل تعذيب الجزائريين أتباع المقاومة الوطنية! وأكثر وأقسى من ذلك، فإنه فى فبراير وإبريل 1960 قامت فرنسا بتجربتين نوويتين فى الصحراء الجزائرية! وعندما فشلت كل محاولات ديجول للقضاء على الثورة الجزائرية حاول تطبيق حلول وسط؛ تقوم على بقاء الجزائر فرنسية من عدة أوجه، مع منح الجزائريين حق تقرير المصير. ولكن أمام إصرار الجزائريين على الاستقلال، أعلن ديجول فى 16 نوفمبر 1960 أمام مجلس الوزراء الفرنسى، عن قراره بإجراء استفتاء حول تقرير المصير فى الجزائر؛ مما أثار معارضة قوية فى فرنسا، خاصة من أنصار «جبهة الجزائر فرنسية» و«الجبهة الوطنية الجزائرية الفرنسية». وفى نفس الوقت قامت مظاهرات فى الجزائر فى 11 ديسمبر 1960؛ تؤكد حق الشعب الجزائرى فى تقرير مصيره، ومناهضة لسياسة ديجول الهادفة الى إبقاء الجزائر كجزء من فرنسا. واشتركت «جبهة التحرير الجزائرية» فى هذه المظاهرات رافعة شعار «الجزائر مسلمة مستقلة». ثالثا: المرحلة الفاصلة: رجع التغير الأساسى فى العلاقات العربية الفرنسية وعودة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وفرنسا الذى تم فى 1963، الى اعتراف ديجول باستقلال الجزائر فى يوليو 1962. وبذلك بدأت فرنسا تحتل مركزا مميزا ومختلفا عن باقى الدول الغربية التى ناصبت مصر والعرب العداء جهرا، بعد أن انتهت القضية الأساسية فى التقارب مع الشعوب العربية، وهى حرب الجزائر. وفى مايو 1965 أعلن ديجول أثناء الحملة الانتخابية الفرنسية، عزمه على أن تتخذ فرنسا سياسة التوازن الدولى؛ معتمدة على استقلالها، ورفض سيطرة أى من القطبين الكبيرين على المسرح السياسى العالمى. وبعبارة أخرى أراد ديجول أن تستقل السياسة الفرنسية عن الولاياتالمتحدة، على خلاف بريطانيا التى أصبحت تابعا للمصالح الأمريكية! وقد حيا عبد الناصر ديجول عندئذ، لأن مصر عارضت بشدة سياسة الاستقطاب الدولى مع يوغوسلافيا والهند، منذ مؤتمر باندونج فى إبريل 1955، من أجل مبدأ عدم الانحياز الذى جذب معظم دول العالم الثالث. وفى الواقع فإن عبد الناصر كان معجبا بتاريخ ديجول الشخصى ومواقفه الوطنية منذ ماقبل ثورة 23 يوليو 1952، فقد قال: «لقد بدأ إعجابى بديجول أثناء الحرب العالمية الثانية، وأتذكره يستعرض القوات فى الشانزليزيه عند تحرير باريس. وأثناء الحرب أعجبت بالضابط الذى صمم على الكفاح بالرغم من كل الصعوبات. وفى نفس الوقت، فإن ديجول كان شجاعا فيما يتعلق بالجزائر حيث واجه الموقف بدون مواربة، إنها مسألة كرامة. إننى أعتقد أنه رجل مبادئ، وبالرغم من الصعوبات فإن العلاقات معه تختلف عن العلاقات العادية مع السياسيين. إنها لميزة كبيرة أن يكون الإنسان على علاقة مع رجل مبادئ». وقد وضع ديجول سياسته المحايدة، المخالفة للمعسكر الغربى محل التنفيذ، فعارض سياسة الولاياتالمتحدة فى فيتنام، مؤكدا رغبته فى أن يرى شعب فيتنام متمتعا بحق تقرير المصير، وأن تتبع دولة فيتنام سياسة عدم الانحياز. وكان منطق ديجول يقوم على تجنب المواجهة المباشرة بين القوتين الأعظم؛ ولتحقيق ذلك يجب إقناع أكبر عدد ممكن من الدول الصغرى بأن تؤثر على الكتلتين الكبيرتين. وهذا يتسق تماما مع سياسة عدم الانحياز التى كان عبد الناصر أحد قادتها. وقد اتخذ ديجول إجراءات عملية لإعادة تشكيل التوازن الدولى وإنهاء المواجهة بين القطبين المتعارضين. لقد قام بتقوية العلاقات مع موسكو وأوروبا الشرقية. ومن جانب آخر لم يتوقف عن الدعوة للوحدة الأوروبية، والعمل على إبعاد أوروبا عن السيطرة الأمريكية، ومن أجل تحقيق ذلك عارض ديجول بريطانيا بشدة. وبالطبع فإن هذه السياسة خلقت تقاربا متبادلا بين دول عدم الانحياز - ومنها مصر - وفرنسا، ليس فقط بالنسبة لقادة هذه الدول وإنما أيضا بالنسبة للرأى العام فيها، وبالتالى حدث تغير جذري فى صورة فرنسا عند المصريين والعرب فى عهد عبد الناصر. وفى نفس الوقت قام ديجول بوضع الأمور فى نصابها فيما يتعلق باسرائيل؛ فأوقف كثيرا من نواحى التعاون العسكرى والذرى الوثيق معها، الذى كان موجودا منذ ماقبل العدوان الثلاثى على مصر. وهذا الاتجاه الجديد للسياسة الفرنسية فى عهد ديجول عقب عليه عبد الناصر فى خطابه فى 26 مايو 1967 قائلا: «الغرب واقف مع اسرائيل، فرنسا - بفضل شخصية الجنرال ديجول- لم يتحيز،لم يأخذه الخط الأمريكى ولم يأخذه الخط البريطانى، ولم يتحيز بالنسبة لاسرائيل». رابعا: فرنسا تؤيد القانون والعدالة: وقد كان موقف فرنسا فيما يتعلق بالعدوان الاسرائيلى ضد البلاد العربية فى 5 يونيو 1967 نقطة فاصلة فى العلاقات المصرية - الفرنسية؛ هذا الموقف الذى أداره ديجول بنفسه، وقرب بين الفرنسيين والعرب. لقد بعدت فرنسا عن التحالف التقليدى والانحياز الى اسرائيل، وأصبحت تتبنى القانون والعدالة. فلقد فهم ديجول جيدا أن مصلحة فرنسا فى المدى الطويل هى فى التقارب مع العالم العربى. وعلى هذا الأساس اتخذ ديجول الموقف الآتى بالنسبة للصراع العربى الاسرائيلى فى 1967.. منذ البداية وقبل الاشتباك العسكرى، أعلن ديجول أن فرنسا لن تساند أيا من الطرفين فى الصراع العربى -الاسرائيلى، وأنها ستدين المعتدى. وقد استمر ديجول متمسكا بهذا الموقف، بالرغم من الضغوط عليه من جانب اسرائيل والمنظمات اليهودية فى فرنسا؛ لكى يمد الدولة الصهيونية بالمعدات العسكرية، بل وتحدى التأييد الذى حظيت به اسرائيل من أغلبية المؤسسات الصحفية الفرنسية. وفور انتهاء العمليات العسكرية، أعلن ديجول أن فرنسا ترفض الاعتراف بالوضع القائم نتيجة للاحتلال الاسرائيلى بالقوة، ثم قام بفرض حظر على تسليم الطائرات الميراج وقطع غيارها الى اسرائيل، التى كان قد تم التعاقد عليها قبل العدوان الاسرائيلى. وفى نفس الوقت أرسل ديجول رسالة الى عبد الناصر، قال فيها: «الى الرئيس جمال عبد الناصر.. إن النصر والهزيمة فى المعارك عوارض عابرة فى تاريخ الأمم، ومايهم هو الإرادة. وفرنسا فى وقت من الأوقات كما تتذكر كان نصفها تحت الاحتلال المباشر للنازى، ونصفها الآخر خاضعا لحكومة عميلة. ولكن فرنسا لم تفقد إرادتها، وظلت طوال الوقت تسير واثقة وراء قيادتها المعبرة عن إرادتها. إن الشجاعة الحقيقية فى مواجهة المحن، وأما الأوقات السعيدة فإنها لا تستدعى هذه الشجاعة. إن سلام العالم العربى يقتضى جهودك، وأنا أول من يتفق معك على أن الأمر الواقع الذى قام عندكم الآن لا يعطى أساسا صحيحا لمثل هذا السلام». ومضى ديجول فى مساندة موقف مصر؛ القائم على أساس أن حل أزمة الشرق الأوسط لا يمكن أن يتم إلا بانسحاب اسرائيل الكامل من الأراضى المحتلة. وأدان ديجول السياسة التوسعية لاسرائيل، وأعرب عن اعتقاده أنه منذ حملة السويس فى 1956 ظهرت اسرائيل كدولة عدوانية تهدف الى أن تمتد؛ فقد عملت على مضاعفة عدد سكانها عن طريق الهجرة، ثم نشرت الاعتقاد أن الأرض التى حصلت عليها لا تكفى فى المدى الطويل، ومن ثم أقدمت على الاتساع مستفيدة من كل الفرص المتاحة لتحقيق هذا الغرض. وقدم ديجول حلولا اقترحتها فرنسا لهذا الصراع العربى - الاسرائيلى.. الجلاء عن الأراضى التى تم الاستيلاء عليها بالقوة، ونهاية العدوان والاعتراف المتبادل بكل الدول الأطراف. وبعد ذلك فإنه عن طريق قرارات الأممالمتحدة يصبح من الممكن تحديد الحدود بدقة، وتحسين أحوال المعيشة والأمن على الجانبين، وتحقيق حرية الملاحة للجميع؛ خاصة فى خليج العقبة وقناة السويس. وفى هذا الإطار ترى فرنسا أن القدس يجب أن يكون لها وضع دولى. وأعلن ديجول أن فرنسا مستعدة للتعاون سياسيا وعسكريا واقتصاديا من أجل تحقيق هذا الاتفاق عندما يوافق عليه الأربعة الكبار (الولاياتالمتحدة والاتحاد السوفيتى وفرنساوبريطانيا). كل هذا التغيير فى سياسة فرنسا تجاه الشرق الأوسط، جعل مصر تنظر الى ديجول كرجل مبادئ لا يخضع للضغوط الأمريكية والصهيونية، بل يؤيد حق العرب ويعارض إصرار اسرائيل على فرض الأمر الواقع. وكان قرار ديجول بفرض الحظر على كل الأسلحة وقطع الغيار المتعاقد عليها مع اسرائيل فى يناير 1969 - وليس فقط طائرات الميراج - وذلك بعد العدوان الاسرائيلى على مطار بيروت بطائرات فرنسية، وتدمير مبان مدنية؛ كان خطوة جديدة فى التأكيد على ضرورة انسحاب اسرائيل من الأراضى المحتلة. وفى المقابل شنت اسرائيل والمنظمات الصهيونية حملة عنيفة ضد ديجول؛ وصلت الى حد المطالبة بمقاطعة يهودية عالمية لفرنسا! مما أدى الى مزيد من التقارب المصرى - الفرنسى، بل واتخذت مصر إجراءات اقتصادية لمساعدة فرنسا على تجاوز الأزمة التى أثرت على الفرنك الفرنسى. كل هذا التغيير الجذرى فى السياسة الفرنسية تجاه مصر والعرب، كان بقيادة ديجول، وكانت كلمات عبد الناصر فى عيد العمال فى 1 مايو 1969 بعد استقالة ديجول بثلاثة أيام، خير تعبير عن ذلك: «الجنرال ديجول تفهم قضيتنا، وصمم على أن يقف ضد العدوان، وصمم على أن يقف مع المبادئ، وصمم على أن المعتدى يجب أن ينسحب من جميع الأراضى المحتلة. وكان هذا مكسبا لنا، ونحن على ثقة فى استمرار موقف فرنسا من العرب. والشعب الفرنسى رفع لواء الثورة فى يوم من الأيام، ورفع هذه المبادئ العظيمة فى يوم من الأيام، وحينما كان الجنرال ديجول فعلا يتخذ هذا الموقف، كنا نشعر أنه ينفذ فعلا الأهداف التى نادت بها الثورة الفرنسية». وعقب رحيل والدى فى 28 سبتمبر 1970، تأثرت جدا من رسالة التعزية التى كتبها الجنرال ديجول بخطه ثانى يوم الرحيل، ومما جاء فيها.. «الرئيس عبد الناصر، بذكائه وإرادته وشجاعته غير العادية، قدم لبلده وللعالم العربى كله خدمات لا تقارن. وفى فترة من التاريخ أقسى وأكثر إثارة عن غيرها، لم يتوقف عن الكفاح من أجل الاستقلال العربى وشرفهم وعظمتهم. وقد كنا نحن الاثنين متفاهمين جدا ونقدر بعضنا. وكذلك استطعنا إقامة العلاقات الجيدة جدا بين الجمهورية العربية المتحدةوفرنسا؛ التى تحكمها الصداقة بينهما والرغبة المشتركة فى العدالة والكرامة والسلام». لمزيد من مقالات د. هدى عبد الناصر ;