معظم مشكلات العالم المعاصر هي «صناعة بريطانية» بدءاً من «القضية الفلسطينية» مروراً ب»مسألة كشمير» وتقسيم «السودان» وصولاً إلي معظم البؤر الساخنة في مناطق العالم المختلفة يمثل «شارل ديجول» ظاهرة استثنائية بين العسكريين الذين تولوا سلطة الحكم في القرن العشرين، فالجنرال الفرنسي العظيم لم يكن ضابطاً عادياً ولكنه كان مناضلاً له رؤية بعيدة وفكر مستنير وثقافة رفيعة، قاد نضال بلاده ضد «النازي» وحافظ علي «فرنسا» الحضارة والفنون والآداب والمتاحف والجامعات وظل يجول بين العواصم داعياً إلي حشد «الشعب الفرنسي» في صفوف المقاومة ضد جحافل «هتلر» وجيوشه الطامعة في الأرض الفرنسية حيث توجد خلفية تاريخية طويلة من الصراع بين الجارتين الأوروبيتين «ألمانيا»و»فرنسا»(حرب السبعين في القرن التاسع عشر) وذلك في مواجهة حكومة فرنسية انهزامية استسلمت للعدو وآثرت السلامة، ولكن القائد الفرنسي الباسل الجنرال «ديجول» اختار ينحاز للشرف الفرنسي والكبرياء الوطني والعناد القومي ليحقق ل»فرنسا» طبيعتها التاريخية باعتبارها «دولة التنوير» والوريثة للثقافة اللاتينية وآدابها وعلومها وفنونها، ولقد كانت «القاهرة» واحدة من المحطات التي مر عليها «شارل ديجول» داعياً للمقاومة ومبشراً بالنصر، ونحن لا نكتب هنا السيرة الذاتية لذلك العملاق - شكلاً وموضوعاً - بل نحاول أن نضع العلامات المميزة لتلك الشخصية شبه الأسطورية في التاريخ الأوروبي كله، وأنا ممن يزعمون أن ما قدمه «شارل ديجول» لبلاده يفوق ما قدمه «نابليون بونابرت» ل «فرنسا» إذ أن «شارل ديجول» هو المنقذ لأرض الحضارة و»عاصمة النور» مرتين في القرن الماضي، الأولي بقيادته للمقاومة ضد «النازي» والثانية بإخراج «فرنسا» من الوحل وهي متورطة حتي النخاع في مستنقع «الحرب الجزائرية»، وعندما استدعت «فرنسا» ابنها البار «شارل ديجول» عام 1958 ليؤسس جمهوريته «الديجولية» ويقود البلاد للخروج من أزمتها والانتصار علي محنتها ظهر لدينا بوضوح «شارل ديجول» المفكر الذي يتساءل أمام من يعرضون عليه إدارة البلاد قائلاً لهم: كيف حال «القضاء» لدينا؟ فقالوا له: بخير، فرد: إذاً «فرنسا» بخير، وفي رواية أخري أن السؤال لم يكن عن «القضاء» وحده ولكن عن «الجامعات الفرنسية» أيضاً، فلقد أدرك الرجل ببصيرته وعميق رؤيته أن الدولة ترتكز علي القضاء وتتقدم بالعلم ولا عجب فقد كان «شارل ديجول» مثقفاً رفيع الشأن ويكفي أنه قد اختار الأديب الفرنسي الكبير «أندريه موروا» وزيراً للثقافة في حكومته وقرب إليه أفضل العناصر الفرنسية وأعمقها فكراً وأكثرها رؤية، ولأن لكل عظيم مأساة دفينة في حياته فإن ل»شارل ديجول» هو الآخر محنته الشخصية التي تمثلت في ابنته التي كانت «متخلفة عقلياً» والتي عاش مأساتها في صمت وكبرياء لا يعرفه إلا أقرب الناس إليه، إنه «شارل ديجول» أكثر الزعماء الأوروبيين في التاريخ الحديث إنصافاً ل»العرب» ووقوفاً مع الحق فهو الذي أعلن أثناء وجود الحشود علي الحدود «المصرية الإسرائيلية» أنه سوف يقف ضد من يبدأ الضربة الأولي وتمسك بموقفه في عناد عاقل ورؤية ناضجة، وعندما بدأت «إسرائيل» بالعدوان في 5 يونيو 1967 تمسك الزعيم الفرنسي الكبير بموقفه وأوفي بوعده ومنع السلاح عن «الدولة العبرية» المعتدية ولم يضعف ولم يلن أمام الحملات الإعلامية «الصهيونية» ولا الضغوط «الأمريكية» فقد كان الرجل مستقل الإرادة قوي الشكيمة، وهو الذي أورث «فرنسا» حتي الآن مسحة من الاستقلال خارج النفوذ الأمريكي وهيمنة «واشنطن»، وهو أيضاً «شارل ديجول» الذي لم يتعلق بالحكم لذات الحكم وألقي بكرسي السلطة لمن يريد مشترطاً نصاباً معيناً لبقائه واستمراره في الاستفتاء الشهير بعد مظاهرات الطلبة في نهاية ستينيات القرن الماضي التي كانت إيذاناً بتحولات جذرية لا في «فرنسا» وحدها ولكن في العالم كله فهم يؤرخون بها باعتبارها نقطة البداية في «حركة الشباب الجديدة» بين مختلف دول العالم، وعندما لم يحصل «شارل ديجول» علي النسبة التحكمية التي فرضها علي الرأي العام الفرنسي انسحب من موقعه في شموخ وكبرياء يجسدهما «أنفه» الطويل و»قامته» العالية، ولقد لعبت «الكيمياء الطيبة» دوراً معقولاً في علاقته بالرئيس الراحل «عبد الناصر» الذي كان خصماً عنيداً ل»الغرب» وعدواً لدوداً ل»الولاياتالمتحدةالأمريكية» ولم يخرج عن هذه القاعدة إلا استثناءان هما الرئيس الأمريكي «جون كندي» والزعيم الفرنسي «شارل ديجول»، ولازلت أتذكر تصريح «شارل ديجول» غداة وفاة «عبد الناصر» وتعبيرات العزاء لرحيله، ويبدو أن الزعماء يتساقطون تباعاً فقد رحل «ديجول» بعد ذلك بأسابيع قليلة وامتدت سياساته يحملها «الديجوليون» أحزاباً وأفراداً في «فرنسا الحديثة» وكرمته بلاده بتسمية «مطار» عاصمتها باسمه العظيم، ولازلت أتذكر أن الضابط المتميز والدبلوماسي المتمرس «محمد حافظ إسماعيل» عندما ذهب إلي «فرنسا» سفيراً لمصر لم يكن يعرف جملة كاملة ب»اللغة الفرنسية» ولكنه استطاع بعد شهور قليلة أن يحاور «شارل ديجول» - في لقاء جمعهما - ب»اللغة الفرنسية» طوال الجلسة، فلقد كان «حافظ إسماعيل» عملاقاً مصرياً - شكلاً وموضوعاً - يقدر العملاق الفرنسي الدولي والشخصية المتفردة «شارل ديجول» الذي احترمه خصومه وأحبه حلفاؤه وارتبط اسمه بالقيم الأخلاقية في عالم السياسة بكل ما فيها من تلوث وفتن ومؤامرات.. سوف يبقي «شارل ديجول» اسماً مدوياً في تاريخ الإنسانية يحتل مكانة في سجل الخالدين لا في التاريخ الفرنسي وحده ولا الأوروبي فقط ولكن في التاريخ الإنساني كله باعتباره واحداً من عظماء القرن العشرين. «كوف دي مورفيل» كنت أستمع إلي «الإذاعة البريطانية» منذ عقدين من الزمان عندما كان المذياع لا يزال مصدراً للتثقيف والتسلية معاً قبل أن تؤدي الصور المرئية الحديثة إلي انقلاب حقيقي أطاح بخصوبة الخيال والقدرة علي وضع البدائل للفكرة المسموعة، وبينما كنت ذات مساء أنصت إلي «إذاعة لندن» وجدت المذيع يستضيف شخصية فرنسية تثير الانتباه وتستدعي الاحترام إنه «كوف دي مورفيل» رئيس وزراء «فرنسا» الذي تمتع برصيد كبير من القدرة علي فهم العلاقات الدولية ومسار السياسة الخارجية الفرنسية وبدأ الرجل يومها يحكي ذكرياته ولكن الذي شد انتباهي هو حديثه عن فترة عمله سفيراً ل»فرنسا» في «القاهرة» في مطلع خمسينيات القرن الماضي ومعاصرته لثورة يوليو 1952 ووجوده في «مصر» في تلك الفترة وكيف كان الغربيون ينظرون إلي «عبد الناصر» ورفاقه شباب الثورة علي أنهم «الأولاد» تدليلاً لشرائح العمر المبكرة التي احتوت تلك المجموعة من «الضباط الأحرار»، وتذكرت أيضاً أن المندوب السامي البريطاني اللورد «كيلرن» كان يشير إلي «الملك فاروق» في مكاتباته الرسمية للخارجية البريطانية باسم «الولد» ولكن التعبير في تلك الحالة كان يعني استهانة الجانب البريطاني ب»ملك مصر الشاب» والتعبير عن الاستخفاف به فقد ارتبط ذلك التعبير لديهم بموقف الملك أثناء «الحرب العالمية الثانية» وحماسه لبعض انتصارات «جيوش المحور» في ذلك الوقت فضلاً عن تداعيات حادث 4 فبراير 1942، نعود إلي «كوف دي مورفيل» وحديثه الشائق في «الإذاعة البريطانية» والذي جعلني أعيش أجواء بداية الخمسينيات في «مصر» وكيف كان تأثير الثورة المصرية وموقف السفارات الغربية منها وتعليقهم عليها وعلي العواصم في وقت كانت «الولاياتالمتحدةالأمريكية» قد بدأت تنظر إلي المنطقة وتسعي لوراثة الاستعمارين «البريطاني» و»الفرنسي» في المنطقة، ويبدو واضحاً أن العلاقات بين الثورة المصرية والدولة الفرنسية قد تدهورت بعد عام 1954 عندما بدأت «مصر» في دعم «الثورة الجزائرية» حتي أن مشاركة «فرنسا» في مؤامرة «العدوان الثلاثي» كانت رد فعل للموقف المصري من «الثورة الجزائرية» ومحاولة لتأديب «عبد الناصر» ورفاقه علي سياستهم التحررية وتوجهاتهم المعادية ل»الغرب» في تلك الفترة لذلك انطلقت «فرنسا» في دعم «إسرائيل» وتبنت مشروع «مفاعل ديمونة» الذري حيث كان «شيمون بيريز» هو «العراب الإسرائيلي» والأب الروحي للتعاون النووي بين «إسرائيل» و»فرنسا»، وقد وصل العداء بين «العرب» و»فرنسا» ذروته إلي أن بدأت «جمهورية ديجول» التي اتسمت بالوعي والرغبة في تحسين العلاقات بين «فرنسا» و»الدول العربية» فمضت في خطوات جادة نحو الوصول إلي تسوية للمسألة «الجزائرية» ووقعت اتفاقية «استقلال الجزائر» ثم بدأت «فرنسا ديجول» تأخذ مساراً مستقلاً في إطار السياسة الغربية حيث بدأت تعبر عن مواقف تتميز بالحرص علي علاقات طيبة مع دول «الجنوب» في «إفريقيا» و»آسيا» و»أمريكا اللاتينية»، إنها السياسة التي تتحول وفقاً لظروف كل عصر ومعطيات كل أوان، إن طراز «كوف دي مورفيل» يثير في ذهني قضية مصرية وهي أن رئيس الوزراء شخص يتميز بخبرة كبيرة وسابقة أعمال مشهودة متمتعاً بتربية سياسية مبكرة وكان يمكن أن يكون لدينا طابور ممن يصلحون لهذا المنصب دائماً، أما منصب رئيس الدولة فهو قد يحتاج إلي ملامح الزعامة ومظاهر القيادة ووضوح الرؤية لذلك فإنني أتمني لبلادي أن تعكف علي التربية السياسية والتأهيل بالخبرة والتجربة لمن نؤهلهم لمنصب رئيس الوزراء أو حتي لمنصب الوزير لأننا نلاحظ في السنوات الأخيرة أننا نختار شخصيات للمناصب معتمدين علي الجانب الفني وحده أو للثقة فيهم من جانب آخر ولكننا لا نراعي أهمية الوزير المسيس الذي يري الأمور بمنظور أوسع ويتابع الأحداث بعين خبيرة، إن السير «دوجلاس هيوم» البريطاني و»كوف دي مورفيل» الفرنسي هما نماذج لشخصيات رصينة وواعية تولت منصب رئيس الوزراء في كل من «لندن»و»باريس» نتيجة تراكم الخبرة وعمق النظرة ووضوح الرؤية.. إننا نتطلع إلي يوم تتمكن فيه «مصر» من توظيف مواردها البشرية بوضع الشخص المؤهل فنياً وسياسياً في الموقع الأنسب الذي يعظم عطاءه لوطنه وشعبه وأمته. 2 نوفمبر قال «جمال عبد الناصر» في رسالته للرئيس الأمريكي «جون كندي» (إنه وعد ممن لا يملك لمن لا يستحق)، ذلك هو «وعد بلفور» وزير خارجية «بريطانيا» الذي توجه به إلي «يهود العالم» واعداً بدعم «الإمبراطورية البريطانية» ل»اليهود» بإقامة وطن قومي لهم في «فلسطين» في وقت كانت «بريطانيا» هي صاحبة الولاية علي «الأرض الفلسطينية» ولذلك فإننا نقول دائماً أن معظم مشكلات العالم المعاصر هي «صناعة بريطانية» بدءاً من «القضية الفلسطينية» مروراً ب»مسألة كشمير» وتقسيم «السودان» وصولاً إلي معظم البؤر الساخنة في مناطق العالم المختلفة وسوف يظل 2 نوفمبر تاريخاً مؤلماً في العلاقات بين «العرب» و»لندن»، وهناك محطات حزينة في مسار تلك العلاقات منها «حادثة دنشواي» و»وعد بلفور» ومؤامرة «العدوان الثلاثي» علي «مصر» في مثل هذه الأيام منذ 59 عاماً، ولقد دعيت ذات يوم من عام 2006 لإلقاء كلمة في الذكري الخمسين ل»حرب السويس» نظمتها كلية الدراسات الشرقية في جامعة «لندن» ويومها طالبت «بريطانيا» بإعلان اعتذارها عن هذه الخطايا الثلاث مع وعد بالسعي لإصلاح الآثار السلبية لها، ولعلنا نتذكر أن الاعتذار السياسي هو تقليد أرست قواعده بعض شعوب «شرق آسيا» وفي مقدمتها «اليابان» و»الكوريتان»، كما أن «إيطاليا» قد استجابت في سخرية لضغوط «القذافي» للاعتذار عن جرائم فترة «الاحتلال الإيطالي» ل»ليبيا» والنهاية المأساوية للزعيم «عمر المختار»، إن ثقافة الاعتذار في العلاقات الدولية ذات مدلول أدبي ولكنها تسجل إدانة عن جرم حدث أو تجاوز تم، ف»الأتراك» يرفضون حتي الآن في إصرار الاعتذار عن «مذابح الأرمن» عام 1915 فضلاً عن إنكارهم لها، ولقد رأينا كيف تورطت «ألمانيا» في قضية تعويضات جرائم «النازي» التي حصدت منها «إسرائيل» قدراً كبيراً في العقود الأخيرة.