القانون علم فخم ذو هيبة، وهيبته نابعة من دوره الذى قدمه ويقدمه وسيقدمه منذ نمو وعى البشرية، وحتى اليوم المشهود. كانت فى البدء هيبة القانون مستمدة من السلطة، وبعد تطور الفكر البشرى أضحى الأمر معاكسًا تمامًا، وهيبة القانون تكمن فى مدى القوة التى يمنحها للسلطتين التنفيذية والقضائية.. القانون القوى هو أقرب ما يكون لصانع الألعاب الماهر فى مباراة مع خصم ليس بالبسيط، أما الهداف فهو الجهات التى تتولى تطبيق القانون، أو بلغة أخرى التى تلتقط الكرة من صانع الألعاب وتحرز الهدف المطلوب وهو أثر القانون على الدولة بكامل عناصرها.
وافق مجلس النواب نهائيًا على قانون لتنظيم المسئولية الطبية، وهذا الأمر تحديدًا شائك ومسكوت عنه منذ عقود، فبين حساسية المهنة التى تقارب السلطة النفسية على المريض، وبين الجهل بأنواع الخطأ التى تستوجب العقاب، تتوه الحقوق وتحيد القليل من الأسماء والشخصيات عن قسم المهنة، ولكن يظل الرهان على الطبيعة الملائكية النورانية التى تحف كل من يعمل بهذا المجال، والعين لن تترك نصاعة الثوب الأبيض وتنظر لنقاط بسيطة غامقة قليلة القدر. التشريع الجديد للمسئولية الطبية عالج مسألة غاية فى الأهمية، حيث أعاد تعريف العلاقة التعاقدية بين المريض والطبيب على نحو سليم ومغاير لما كانت عليه. القانون لم ينص صراحة على تلك العلاقة -وكان من المفترض أن يتم ذلك- لكنه أشار من بعيد نحوها. فكرة تحديد نوع العلاقة التعاقدية تكمن فى الحقوق والواجبات المترتبة عليها والمتوقعة منها، وكذلك والأهم فى تحديد نوع الخطأ والضرر الناجم عنه والمسئولية المترتبة عليه. وفى السطور القادمة سأجيب عن سؤال تلقيته حول هذا القانون، وهو «لماذا يحاسب أصحاب المهن المختلفة فى حالة إخفاقهم ولا يحاسب الطبيب؟!». وهذه المقارنة لم تظهر بسبب القانون الحالى بل ظهرت بسبب إخفاق تشريعى سابق فى معالجة نوع المسئولية التى تقع على الطبيب. نعود إلى الوراء بعدد سنوات ليس بالقليل فى حكم محكمة النقض الصادر بجلسة 24/1/1993: جاء نصه «التزام الطبيب فى عقد العلاج أو الجراحة هو التزام ببذل عناية، وليس تحقيق نتيجة، إلا إذا تعلق الأمر بجراحات تجميلية أو اتفاق صراحةً على تحقيق نتيجة محددة. معيار تقصير الطبيب هو معيار الرجل العادى من ذات التخصص». فى أحيان كثيرة قد تتزيد أحكام القضاء على القانون وذلك فى حالة غيابه أو قصوره عن معالجة أمر، وفى أحيان كثيرة أيضًا قد تستمد قوانين من أحكام قضائية وليس العكس كما المعتاد، وهذا كله يثرى العملية التشريعية فى إطار مساحة التداخل بين السلطات بالنسبة للدول التى تطبق الفصل النسبى بين السلطات ونحن منهم. لتفسير حكم محكمة النقض يجب أن نضع فى الاعتبار التفرقة بين نوعين من الالتزامات بناءً عليهما يتم تحديد الطبيعة التعاقدية ثم المسئولية، وهما الالتزام ببذل عناية والالتزام بتحقيق نتيجة، وهناك العديد من الالتزامات الأخرى لكن لن نحتاج فى هذه الحالة غير هذين الالتزامين، فبالالتزام الأول تسقط المسئولية بمجرد إثبات القيام ببذل العناية والاهتمام والأمانة والشرف وحب الغيرية من جانب الطرف المتهم بالإخفاق تجاه الطرف الذى يوجه له الاتهام، وذلك بغض النظر عن النتيجة المحققة والتى بالتأكيد تضرر منها الطرف المدعى، بمعنى أنه فى حالة عدم تحقق النتيجة فإثبات بذل العناية يكفى لمحو الإدانة ليس القانونية فقط بل والمجتمعية أيضًا، يتمثل هذا الالتزام فى عقد الوكالة. الالتزام الثانى وهو تحقيق النتيجة، وبه تُقام المسئولية بوجود النتيجة وفقًا لشريعة واتفاق الطرفين وهو العقد المبرم بينهما، يتمثل هذا الالتزام فى عقد المقاولة والعديد من العقود والاتفاقيات كالالتزام بتسليم المبيع فى عقد البيع. وهنا عزيزى القارئ علينا أن نبنى صورة ذهنية تخيلية، ستحل ببساطة شديدة عقدة متى يصبح العقد عقد عناية ومتى يصبح عقد نتيجة. فلنتخيل أنا وأنت عزيزى القارئ لوحة مكتوبًا على أقصى يمينها عبارة «بذل عناية»، وعلى أقصى يسارها عبارة «تحقيق نتيجة»، وبينهما مؤشر سنطلق عليه «الظرف الطارئ»، ومن لفظه هو يعنى أى ظرف أجنبى يحدث خارجًا عن إرادة طرفى العقد ويكون له تأثير على سريان العقد أو آثاره، كلما زادت نسبة حدوث الظرف الطارئ فى طبيعة المهمة محل العقد اتجه المؤشر نحو الالتزام ببذل عناية، وكلما قلت نسبة حدوث الظرف الطارئ اتجه المؤشر نحو الالتزام بتحقيق نتيجة، والسؤال هنا كيف حدد الفقه هذه الطبيعة قبل إبرام العقد من الأساس؟ وهنا عزيزى القارئ سنلجأ لما يسمى بالظرف المحتمل وعناية الرجل المعتاد، بمعنى بسيط للغاية وهو دراسة الطبيعة المحتملة للظروف الوارد حدوثها والخارجة عن إرادة طرفى العقد، فى حالة بذل العناية المعتادة لرجل فى مثل حالة طرفى العقد، فمثلًا الظرف الطارئ فى عقود البيع وتسليم البضائع مختلف تمامًا عنه فى جراحة دقيقة بالمخ لحالة حرجة. بالعودة عزيزى القارئ للموضوع الأصلى وهو المسئولية عن خطأ الطبيب فى إطار العلاقة التعاقدية سنجد بداهةً أن مؤشرها يتجه نحو الالتزام ببذل عناية، لأن مهما بلغت الفحوصات الطبية من تقدم فهى فى أحيان كثيرة تقف عاجزة أمام الأمراض واستجابة الجسد لبروتوكولات العلاج من عدمه، وفى الحقيقة عزيزى القارئ هى تقف عاجزة أمام قدرة الله جل جلاله. تنص المادة 2 من قانون المسئولية الطبية وحماية المريض على «يجب على كل من يزاول إحدى المهن الطبية داخل الدولة تأدية واجبات عمله بما تقتضيه المهنة من أمانة وصدق ودقة، وبذل عناية الشخص الحريص التى تقتضيها الحالة الصحية لمتلقى الخدمة للحفاظ على سلامته وحمايته، وفقًا للأصول والمعايير الوطنية والدولية للممارسة الطبية الآمنة». تأتى هذه المادة متسقة ومعبرة عن الطبيعة التعاقدية فى العقد الطبى والتى تراعى حساسية المسئولية الطبية والتى تختلف عن كثير من المهن، كما ساهمت أيضًا هذه المادة فى تقريب مساحة التشابه بين العقد الطبى وعقد الوكالة، وهنا مكمن الأهمية. عقد الوكالة هو عقد من عقود الأمانة يكمن استلهام الكثير من الفقه الخاص به وقياسه على العقد الطبى، وسنبدأ بأكثر المواطن التى أثارت خلافًا وهو تحديد مفهوم الخطأ الجسيم، وسوف ندرسها من منظور عقد الوكالة لأنها أشمل للواقع العملى حتى فى حالة تطبيقها على العقد الطبى ستناسبه لأنها نظرت للخطأ الجسيم من منظور نظرية «تدرج الخطأ» وهى نظرية قديمة للغاية من كلاسيكيات الفقه القانونى تعود للحضارة الرومانية لكنها أثبتت جدارتها فى إحكام العدالة القانونية. يشترط القانون المدنى لصحة الاتفاقات التى تخفف من المسئولية أو تعفى منها ألا يكون خطأ المدين عمديًا أو خطأً جسيمًا، وأقر جانب كبير من الفقه بضرورة توافر شرطين، الأول هو الركن المعنوى للخطأ ويقوم على الإدراك والتمييز بمعنى أنه يجب على مرتكب الضرر أن يعلم أو كان بوسعه أن يعلم أن فعله يعد انحرافًا عن السلوك الواجب عليه وكان بإمكانه تجنب هذا السلوك إلا أنه أقدم مستبصرًا على إتيان هذا السلوك الذى يستحق اللوم الأخلاقى والاجتماعى، والشرط الثانى هو الركن المادى أى التصرف غير المشروع الذى يعد انحرافًا عن سلوك الرجل المعتاد فى صورة مخالفة للواجب القانونى تستحق العقاب. هذا الوصف منح مجالًا متسعًا لسلطة القاضى التقديرية فهو فقط منحه الأدوات وتركه يستخدمها، عملية التقاضى عزيزى القارئ هى محاولة لإقرار الحقوق وتطبيقها وبالتالى عند اعتبار الخطأ جسيمًا فتكون توافرت عناصر الوعى العقلى والرغبة النفسية فى تحققه وهذا أمر نادر حدوثه فى مهنة الطب إلا فى حالات الإهمال الشديد كأن يمتنع الطبيب عن منح المريض الرعاية المطلوبة فى وقتها وهو يعلم جيدًا أن هذه الرعاية ستمنح المريض فرصة أفضل للحياة ومع ذلك يتقاعس أو يتجاهل بإرادته المطلقة، أو أن يدير منشأته العلاجية لأعمال منافية للقانون مستغلًا ثقة الجمهور فى مهنة الطب وتسليمهم التام لها، أو أن يجرى أبحاثًا علمية عليهم بغير علمهم ورضاهم مستغلًا أيضًا ثقتهم وتسليمهم، كل هذه أمثال وليست حصرًا ومن خلال سلطة القاضى يمكن له أن يتحقق من توافر الخطأ الجسيم من خلال النظر فى عناصر الجريمة وهذا الأمر يخدم الأطباء بدرجة عالية، لأن الخطأ الطبى فى غالبيته ليس جسيمًا على الإطلاق، أما تعريف الخطأ الجسيم وفق ما ورد فى قانون المسئولية الطبية ففى نظرى هو لم يخدم الطبيب ولا المريض لأنه نص صراحة على حالات بعينها اعتبرها خطأً جسيمًا غافلًا فكرة أن القانون يضع قاعدة عامة قابلة للتطبيق لسنوات وعقود قد يظهر خلالها سلوكيات لم ترها عين المشرع وقت كتابة القانون لكنها وضعت القاعدة التى تضبطها، حيث نص التعريف على أن الخطأ الجسيم هو «الخطأ الطبى الذى يبلغ حدًا من الجسامة، بحيث يكون الضرر الناتج عنه محققًا، ويشمل ذلك، على وجه الخصوص، ارتكاب الخطأ الطبى تحت تأثير مسكر أو مخدر أو غيرها من المؤثرات العقلية، أو الامتناع عن مساعدة من وقع عليه الخطأ الطبى أو عن طلب المساعدة له، على الرغم من القدرة على ذلك وقت وقوع الحادثة، أو تعمد ممارسة المهنة خارج نطاق التخصص وفى غير حالات الطوارئ»، كما نرى فقد غفل التعريف تمامًا السلطة التقديرية للقاضى وحاول تقييده فى حالات بعينها، فكما ذكرنا فى المقدمة عزيزى القارئ القانون هو صانع ألعاب ماهر والهداف هو القضاء، وهنا يتبادر سؤال، هل يعد تعليق المؤسسة العلاجية رعاية المريض وعلاجه إلا بعد دفع مستحقات مالية معينة خطأً جسيمًا أم لا؟! لا تحاول التفكير عزيزى القارئ، فمن المفترض أن تكون الإجابة لدى قاضى الموضوع فى ضوء معاونة القانون له. من ضمن الأمور الحسنة التى وضعها القانون هو وجود لجنة على مستوى رفيع متخصصة فى نظر الحالات المشكو فى شأنها والفصل فنيًا فيها وهذا من شأنه أن يرفع جزئيًا عبء تكبد الإثبات من جانب المدعى والدفاع من جانب المدعى عليه، وكذلك هو أمر يتوافق مع الطبيعة الفنية شديدة الدقة والخصوصية لمهنة الطب، فأعود وأذكر ليس كل خطأ طبى هو خطأ عمدى جسيم مهما كانت نتائجه. أمر آخر جيد هو أن القانون أخد بروح نظرية تدرج الخطأ وذلك حماية لحقوق المريض وفرض عقوبات تناسب الخطأ البسيط وبمجرد اعترافه بذلك يحق للمريض المتضرر بضرر بسيط رفع دعوى تعويض. القانون فى مجمله خطوة جيدة على كسر حاجز قديم حول هذه المحنة الحيوية ورتب حقوق الطرفين بقدر كبير من العدالة، وكما هو معروف القانون منتج بشرى وتغييره أو تجديده سنة محمودة كلما اقتضى الواقع العملى، وأهم ما فى قانون المسئولية الطبية أنه أقر صراحة بأن الالتزام الطبى هو التزام ببذل عناية وبذلك هو وضع قاعدة عامة لحفظ وحماية الطبيب أثناء عمله. 2