«ميادة فين؟؟ ميادة سابت الدار أصلها تمت 18 سنة!!» أحد المشاهد المهمة التى استعرضها مسلسل أولاد الشمس خلال شهر رمضان الماضى، ليسلط الضوء على قضية مهمة: «أين يذهب الأطفال الذين لم يتم تبنيهم بعد مرور الوقت؟». يتضح -بحسب ما ورد فى المشهد السابق ذكره- أن هناك عمرًا محددًا للشباب والفتيات للإقامة فى دور الأيتام، وعليهم الرحيل بعد ذلك ومواجهة الحياة بمفردهم، وهو ما قد يعرضهم لمخاطر كبيرة إذا لم يتم احتواؤهم بالشكل الأمثل.
وبمناسبة «يوم اليتيم»، الذى يوافق أول جمعة من شهر أبريل، تعمقت روزاليوسف فى هذه القضية وقامت بزيارة لأول نموذج للبيوت الصغيرة بمعايير محددة، وهو التابع لمشروع «يلا كفالة»، الذى يقوم على فكرة توفير بيوت دائمة للأطفال الأيتام الذين لم يتم تبنيهم. وخلال السطور التالية، نستعرض معكم جولة داخل أول بيت صغير بمعايير محددة، يقع فى المعادى بشارع اللاسلكى، حيث تقيم فيه ست فتيات، أكبرهن عمرًا لم تبلغ العامين بعد، وتعيش معهن ثلاث أمهات إقامة دائمة، يشرفن على الفتيات ويرعينهن ويوفرن لهن كامل الرعاية والحماية، لكى ينشأن كما لو كنّ فى بيوت حقيقية مع أسرة. كما يكون فى إمكان الفتيات اختيار العيش فيه بشكل دائم أو الخروج للعمل، بالإضافة إلى بناء شجرة عائلة متماسكة تتكون من إخوة وأخوات وأمهات. وخلال جولتنا داخل البيت الصغير، حاورنا عددًا من الأمهات المقيمات فى الدار، وسنعرض عليكم تفاصيل ذلك فى السطور التالية. الشيف مروة محمود: الطهى بروح الأمومة فى «البيت الصغير» بدأت جولتنا داخل البيت الصغير بالحديث مع الشيف مروة محمود، البالغة من العمر 37 عامًا، والمسؤولة عن إعداد الوجبات للأطفال، والتى أكدت أن تجربتها فى العمل بالمكان لم تقتصر على الطهى فقط، بل تحولت إلى علاقة إنسانية عميقة مع الفتيات، حيث أصبحن يحتللن مكانة خاصة فى قلبها. وأوضحت الشيف مروة قائلة: «أنا أم لثلاثة أطفال، وأحب الطهى للأطفال. كنت أدير مشروعى الخاص فى الطهى المنزلى، ثم جاءتنى الفرصة للعمل هنا مع افتتاح البيت الصغير، فوجدت الفكرة رائعة نظرًا لحبى للأطفال. منذ البداية، شعرت بروح الأسرة داخل المكان، وأحببت عملى وأخواتى فى المكان». وأضافت أنها مسؤولة عن إعداد وجبات الفتيات وفقًا لمعايير دقيقة تشمل الوزن، والحالة الصحية، واحتياجات كل طفلة، مشيرةً إلى أنها تعمل على تقديم وجبات صحية ومتوازنة تسهم فى تطور الأطفال بشكل ملحوظ. وعن علاقتها بالفتيات، قالت مروة: «لم أكن أتوقع أن دورى سيتجاوز حدود الطهى، لكن بمجرد وصولى وتعاملى مع الفتيات، وجدت أنهن يدخلن القلب بسرعة، وأصبح بيننا رابط قوى. حتى فى أيام إجازتى، أحرص على الاطمئنان عليهن عبر مكالمات الفيديو، لأنهن تعلّقن بى وأصبحن يناديننى ماما، وهذا شعور لا يُقدّر بثمن». وأشارت الشيف مروة إلى أن حبها للمكان وللأطفال يجعلها تتردد فى العودة إلى عملها الخاص، رغم الظروف الحياتية الصعبة، قائلة: «أحيانًا أفكر فى العودة إلى مشروعى الخاص، لكننى لا أستطيع التخلى عنهن. حتى الأمهات المقيمات يصررن على بقائى، لأن الفتيات متعلقات بى». واختتمت حديثها قائلة: «أنا فخورة برؤية الأطفال يكبرون ويتطورون أمام عينى، وأحرص دائمًا على تقديم أكلات يحبونها، مثل الملوخية والدجاج والأرز، كما أساعدهم على تنمية ذائقتهم الغذائية». رحاب الجندى: الأمومة فى «البيت الصغير» ليست مجرد وظيفة وخلال جولتنا داخل البيت الصغير، وبعد حديثنا مع الشيف مروة محمود عن تجربتها، انتقلنا للحديث مع الأمهات عن تجربتهن كأمهات فى البيوت الصغيرة. وفى هذا السياق، أعربت رحاب الجندى، البالغة من العمر 30 عامًا، خريجة كلية الآداب قسم علم النفس بجامعة المنوفية، وإحدى الأمهات داخل البيت الصغير، عن سعادتها بتجربتها كأم، مؤكدة أن عملها هنا ليس مجرد وظيفة، بل هو بيتها الحقيقى. وقالت رحاب: «أنا أصغر أم هنا فى البيت، وأعمل منذ حوالى خمسة أشهر. قبل ذلك، عملت فى عدة بيوت صغيرة، لكننى اضطررت لتركها لظروف عائلية. كما عملت كأخصائية نفسية، لكننى لم أشعر بالانتماء لهذا الدور كما شعرت به هنا كأم». وأشارت إلى أن حبها لهذا المجال بدأ منذ سنوات، عندما عاشت فى السعودية لمدة 26 عامًا، قائلة: «أول مرة تعاملت مع الأيتام كان خلال عملى فى تنظيم الفعاليات، وعندما زرت دار أيتام هناك، شعرت بأن من يهتم بهؤلاء الأطفال يقوم بعمل عظيم، لم أعمل فى المجال مباشرة وقتها، لكن الفكرة بقيت داخلى حتى جاءتنى الفرصة». وأضافت أنها تعرّفت على المكان من خلال صديقة شاهدت إعلانًا عن وظيفة «أم» شاغرة، وحين تقدّمت للعمل، وجدت أن الاختيار فى البيت الصغير يعتمد على ملاءمة الشخصية لقيم المكان، قائلة: «لا أعلم تحديدًا ما الذى رأوه فىّ، لكننى لاحظت أن كل من يعمل هنا يشبهنى، فجميعنا لدينا نفس الحب والاهتمام بالفتيات». وتحدثت رحاب عن بداية عملها فى المكان، قائلة: «عندما جئت لأول مرة، كانت الفتيات نائمات ولم يتفاعلن معى على الفور، لكن مع الوقت وبمساعدة زميلتى عزة، تم كسر الحاجز، وأصبحن قريبات منى. أنا مسؤولة عن يارا ومروة، وأتشارك فى رعاية ونس مع صفاء، بينما تهتم عزة بمليكة ومكة وسارة». وأكدت أن ارتباطها بالفتيات يتجاوز حدود العمل، موضحة: «يارا الأقرب إلى قلبى، ربما لأنها أول من خضت التجربة معها. عندما تمرض، أشعر كأننى أمها الحقيقية وأحزن عليها كثيرًا». أما عن مستقبلها الشخصى وإمكانية الزواج، علّقت قائلة: «أحيانًا أفكر فيما إذا كنت سأغادر يومًا ما، لكن ماذا عن المشاعر التى تولدت بينى وبين الفتيات؟ أقول لنفسى: لماذا يتزوج الناس؟ لتكوين أسرة، وأنا بالفعل لدى ابنتى هنا. لا توجد أم تترك ابنتها، وأدعو الله دائمًا أن يثبتنى فى هذا الطريق». وأضافت: إن عائلتها تدعمها تمامًا فى قرارها، قائلة: «أنا من المحلة الكبرى، وأهلى يرون أن ما أفعله أمر عظيم. رغم أن جميع إخوتى متزوجون، لم يضغطوا علىّ أبدًا، بل على العكس، والدتى عندما تحدثنى تسألنى عن «بنتى» فى البيت الصغير». واختتمت رحاب حديثها بالتأكيد على أن البيت الصغير أكثر من مجرد مكان عمل بالنسبة لها، قائلة: «لا أحد يترك بيته. نحن هنا نغرس فى الفتيات مفهوم الأخوة، ونحرص على معاملتهن جميعًا بعدالة، لأن الهدف هو أن يكبرن كأخوات حقيقيات»، وأكدت أن رعاية الأطفال ليست مجرد وظيفة، بل هى رسالة إنسانية عظيمة، مضيفة: «أشعر بالامتنان لأن الله كتب لى أن أكون جزءًا من هذا المكان». عزة عيد: رحلة أم بديلة صنعت الفرق فى حياة الأطفال فى رحلة مشابهة لرحلة رحاب الجندى مع «يلا كفالة»، تجسد عزة عيد محمد على نموذج آخر للأمهات البديلات اللاتى اخترن أن يكنّ الحنان والسند للأطفال الذين لم يجدوا حضنًا دافئًا. عزة، البالغة من العمر 45 عامًا، لم يكن طريقها نحو هذه المهمة سهلًا، بل كان مزيجًا من الصدفة والشغف الذى تحول إلى رسالة حياة. تتذكر عزة بداياتها قائلة: «بعد تخرجى من قسم إعداد فنيين «تبريد وتكييف» أخبرونى أن هذا المجال غير متاح للفتيات، فبحثت عن طريق آخر للعمل. اقترحت علىّ صديقتى أن أنضم لحضانة كمساعدة مدرسة، ورغم ترددى فى البداية، إلا أننى أحببت التجربة ووجدت نفسى فى عالم الأطفال». لم يكن الأمر مجرد وظيفة، بل تحول إلى شغف حقيقى، مما دفعها للانخراط فى العديد من الأنشطة والجمعيات الخيرية، كان أبرزها العمل مع جمعية رسالة ضمن برنامج أطفال بلا مأوى، حيث اكتشفت موهبتها فى التعامل مع الأطفال وتقديم الدعم لهم. ومع مرور السنوات، أدركت عزة أن الخبرة وحدها لا تكفى، فقررت فى عام 2013 الالتحاق بكلية تربية الطفولة وذوى الاحتياجات الخاصة بنظام التعليم المفتوح. لم تتوقف عند ذلك، بل حصلت على تمهيدى ماجستير فى إعداد برامج الطفل بتقدير امتياز. لكن وفاة والدها منعتها من استكمال الدراسة الأكاديمية، ومع ذلك، لم تتوقف عن تطوير نفسها، فواصلت التعلم من خلال ورش محلية ودولية ساعدتها على فهم سلوكيات الأطفال والتعامل معها بطريقة أكثر احترافية. تتحدث عزة عن نقطة التحول الكبرى فى حياتها قائلة: «كنت أبحث عن مكان أستطيع فيه تقديم رعاية حقيقية للأطفال، وحين أرسلت لى صديقتى إعلانًا عن الحاجة لأمهات بديلات فى مديرية الصحة، حيث كانوا يرعون الأطفال المفقودين. فذهبت وهناك أدركت المديرة أن إمكانياتى أكبر من مجرد تقديم الرعاية الأساسية للأطفال، فتم ترشيحى للانضمام إلى يلا كفالة، حيث وجدت المكان الذى يتناسب مع خبراتى ورغبتى فى تقديم حياة كريمة للأطفال». توضح عزة أن يلا كفالة أثرت بشكل جيد فى الفتيات قائلة: «فى البداية، لم تكن الفتيات يتحدثن، فلم يكن هناك من يستمع إليهن أصلًا. لكن بمجرد انتقالنا إلى يلا كفالة، تغيرت حياتهن، وبدأنا فى بناء أسرة حقيقية». لم يكن اختيار عزة لهذا الطريق مجرد مصادفة، بل كان امتدادًا لحلم طفولتها، إذ تروى: «عندما كنت صغيرة، كان والدى يشترى لى ولإخوتى البالونات، وكان هناك أطفال مشردون يتمنون واحدة، لكنه لم يكن قادرًا على توفيرها لهم. منذ ذلك الحين، كنت أحلم ببيت كبير يضم كل الأطفال المشردين ويحتويهم مثلما كان يفعل أبى معنا، واليوم تحقق هذا الحلم مع يلا كفالة». لكن رحلتها لم تكن خالية من التحديات، فقد واجهت رفض والدتها لفكرة تكريس حياتها لرعاية الأطفال، إذ كانت تردد عليها المثل الشهير: «يا بانى فى غير ملكك، يا مربى فى غير ولدك»، إلا أن عزة كانت ترى الأمر بمنظور مختلف، قائلة: «كنت أشعر أن هؤلاء الأطفال هم السند الحقيقى لى. وعندما مرضت، لم أجد بجانبى سوى بناتى اللواتى ربيتهن، هنّ من وقفن معى حتى تعافيت، وأدركت حينها أن كل التعب الذى بذلته معهن لم يذهب هباءً». تختم عزة حديثها قائلة: «أى جهد تبذله مع هؤلاء الأطفال ستجده. أنا أستثمر مع الله، وأؤمن أن كل لحظة قضيتها فى تربيتهم ستعود لى بالخير، سواء فى الدنيا أو الآخرة». «مصطفى» تجربة كفالة ألهمت الكثيرين وفى سياق الحديث عن أهمية الكفالة وتجارب الأمهات داخل البيت الصغير، لا يمكن إغفال قصص الأطفال الذين عاشوا هذه التجربة وتأثروا بها. ومن بين هؤلاء الأطفال، يبرز مصطفى، الطفل ذو العشر سنوات، الذى ألهمت رحلته مع والدته الكفيلة العديد من الأسر لخوض هذه التجربة الإنسانية العظيمة. يقول مصطفى، وهو طالب فى الصف الرابع: «أخبرتنى أمى أننى طفل مكفول عندما كنت فى الثالثة من عمرى، ولم أشعر بشىء حينها. لكن عندما كبرت قليلًا، بدأت أتساءل: من أنا؟ وأردت أن أعرف من هم أهلى البيولوجيون، خاصة والدتى، لأرى إن كنت أشبهها، وما الأشياء التى تحبها، لأشاركها ما أحب». وعن علاقته بوالدته الكفيلة، يضيف مصطفى: «أحب ضحكة ماما رشا كثيرًا. وعندما كنا نعيش فى سان فرانسيسكو، كنت أستمتع بالذهاب معها إلى صديقتها طنط رباب، التى كانت تدعونا إلى الطعام. كنت أحب التواجد مع الأولاد هناك، رغم أنهم أكبر منى، لكننى كنت أشعر بالسعادة برفقتهم». أما عن التحديات التى واجهها خلال رحلته، فقد أوضح مصطفى أنه تعرض لمضايقات كثيرة بسبب كونه طفلًا مكفولًا، لكنه أشار إلى أن هذه المضايقات حدثت فى الولاياتالمتحدة، وليس فى مصر، قائلًا: «تعرضت كثيرًا للمضايقات فى أمريكا بسبب أننى مكفول، وكنت أذهب يوميًا تقريبًا إلى المديرة بسبب ذلك. هذا لم يحدث لى أبدًا هنا فى مصر، لكن فى أمريكا كنت أواجه هذا الأمر باستمرار، وكانت أمى تشعر بضيق شديد بسبب تصرفات زملائى فى المدرسة». وعند الحديث عن المستقبل، عبّر مصطفى عن طموحه، قائلًا: «عندما أكبر، أريد أن أصبح عالمًا، وإذا لم أحقق هذا الحلم، سأكون شيفًا لأننى أحب الطعام. لكن فى حالة عدم تمكنى من تحقيق أى من هذين الحلمين، فسأكمل ما بدأته والدتى فى مبادرة يلا كفالة، لأن هناك الكثير من الأطفال الأيتام الذين هُجِروا من دور الرعاية وأصبحوا مشردين فى الشوارع، وأريد مساعدتهم». تجربة مصطفى ليست مجرد قصة كفالة، بل هى رسالة ملهمة لكل من يفكر فى احتضان طفل ومنحه حياة كريمة مليئة بالحب والفرص. 2 4 5 6