«مواني البحر الأحمر»: تصدير 27 ألف طن فوسفات من ميناء سفاجا ووصول 742 سيارة لميناء بورتوفيق    شكري يتوجه إلى طهران للمشاركة في مراسم العزاء الرسمي للرئيس الإيراني    جراحة ناجحة ل مرموش في اليد    بإجمالي 37.3 مليار جنيه.. هيئة قناة السويس تكشف ل«خطة النواب» تفاصيل موازنتها الجديدة    بدء انتخابات «غرفة المطاعم السياحية» بعد اكتمال النصاب القانوني    وزير المالية القطري يثمن دور مصر في دعم القضايا العربية    رفع 1090 حالة إشغال طريق مخالف بالبحيرة    توريد 208 ألف طن قمح لشون وصوامع البحيرة    وزير العمل: لدينا عمالة ماهرة جاهزة لتصديرها للسوق الخارجية    الأزهر يطلق صفحة مستقلة بفيس بوك لوحدة بيان لمواجهة الإلحاد والفكر اللادينى    للمرة الأولى منذ "طوفان الأقصى".. بن جفير يقتحم المسجد الأقصى    إقامة صلاة الجنازة على رئيسي وعبداللهيان في طهران    هيئة شئون الأسرى: قوات الاحتلال تعتقل 12 فلسطينيا بالضفة الغربية    رئيس حزب الجيل: فخور بموقف مصر الحاسم تجاه العدوان الإسرائيلي على غزة    الأكبر سنا والمربع السكني.. قرارات هامة من «التعليم» قبل التقديم للصف الأول الابتدائي 2024    مهاب ياسر: لا يهمنا اسم منافسنا في السوبر الإفريقي.. وسنلعب من أجل الفوز فقط    راح ضحيتها 11 فتاة.. تفاصيل جديدة في كارثة «معدية أبو غالب»    ضبط 23 ألف مخالفة مرورية متنوعة خلال 24 ساعة على الطرق والمحاور    عاجل.. رفض طعن سفاح الإسماعيلية وتأييد إعدامه    انتقال النيابة لمعاينة مسرح العثور على جثة عامل بمغسلة عين شمس    لمواليد برج القوس.. اعرف حظك في الأسبوع الأخير من شهر مايو 2024    ختام فعاليات ملتقى «التمكين بالفن» بالمتحف القومي للحضارة.. اليوم    اليوم.. «تاني تاني وبنقدر ظروفك» وجهًا لوجه في السينمات    فدوى مواهب تخرج عن صمتها وترد على حملات المهاجمين    لمدة يومين.. انطلاق قافلة طبية إلى منطقة أبوغليلة بمطروح    الصحة: برنامج تدريبي لأعضاء إدارات الحوكمة في مديريات الشئون الصحية ب6 محافظات    التكييف في الصيف.. كيف يمكن أن يكون وسيلة لإصابتك بأمراض الرئة والتنفس؟    سعر الذهب اليوم الأربعاء 22 مايو 2024 وأخبار السوق العالمي    رئيس مياه القناة: استخراج جذور الأشجار من مواسير قرية الأبطال وتطهير الشبكات    طلاب جامعة الإسكندرية في أول ماراثون رياضي صيفي    قمة عربية فى ظروف استثنائية    تعرف على مواقيت الصلاة اليوم الأربعاء 22-5-2024 في المنيا    لأول مرة .. انعقاد مجلس الحديث بمسجد الفتح بالزقازيق    تعديلات جديدة على قانون الفصل بسبب تعاطي المخدرات    هربا من الحر للموت.. دفن جثتى شابين ماتا غرقا بنهر النيل في الصف    «الصحة»: ورشة عمل حول تأثير تغير المناخ على الأمراض المعدية بشرم الشيخ .. صور    دار الإفتاء توضح أفضل دعاء للحر.. اللَّهُمَّ أَجِرْنِى مِنْ حَرِّ جَهَنَّمَ    سيدة «المغربلين»    طلاب جامعة القاهرة يحصدون المركزين المتميز والأول فى مسابقة جسر اللغة الصينية    هكذا تظهر دنيا سمير غانم في فيلم "روكي الغلابة"    استطلاع رأى 82% من المواطنين:استكمال التعليم الجامعى للفتيات أهم من زواجهن    جامعة عين شمس تحصد 3 جوائز لأفضل رسائل ماجستير ودكتوراه    طلاب الشهادة الإعدادية في الإسكندرية يؤدون امتحان الهندسة والحاسب الآلي    دبلوماسي سابق: الإدارة الأمريكية تواطأت مع إسرائيل وتخطت قواعد العمل الدبلوماسي    51 مباراة دون هزيمة.. ليفركوزن يسعى لمواصلة كتابة التاريخ في موسم استثنائي    قرار جديد من الاتحاد الإفريقي بشأن نهائي أبطال إفريقيا    رئيس نادي إنبي يكشف حقيقة انتقال محمد حمدي للأهلي    طريقة صنع السينابون بالقرفة.. نكهة المحلَّات ولذَّة الطعم    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    شاهد.. حمادة هلال ل إسلام سعد: «بطلت البدل وبقيت حلاق»    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    «نادٍ صعب».. جوميز يكشف ماذا قال له فيريرا بعد توليه تدريب الزمالك    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    مدرب الزمالك: لا نستطيع المنافسة على الدوري.. وأمتلك أفضل اللاعبين في العالم    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    حدث بالفن | فنانة مشهورة تتعرض لحادث سير وتعليق فدوى مواهب على أزمة "الهوت شورت"    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفتاح الحياة ..رواية ابراهيم فرغلي ..الجزء الثالث .
نشر في الأهالي يوم 20 - 11 - 2021


رواية
إبراهيم فرغلي
الجزء الثالث
يوستينا
ميلادٌ ثانٍ
قلنَ عنّي إني أرى الأشباح. وصفنَني بصفاتٍ عديدة؛ المُقدّسة، بنت المَحبّة، خادمة الرّبّ، وغيرها.
وُلدتُ مرَّتَيْن، ومتُّ عشرات المرّات. ولادتي الأولى وما أعقبها ظلّت سرًّا. لم تُسعفْني ذاكرتي بشيءٍ عنها. حاولتُ. حاولتُ. ثمّ أخفقتُ، وأخفقتُ.
ميلادي الثاني بدأ بعد غيبوبةٍ طويلة. عدتُ منها ذاهلة. كَمَنْ يُولَد لأوّل مرّة. ذاكرة بيضاء.
بُعثتُ من جديد. كُتبت لي حياةٌ جديدة كما أخبروني، وبدأتُ حياتي كما أرادوها لي. تبيّنوا أنني قادرة على مواصلة الحياة. أخبروني أنهم سيعودون بي إلى مكاني. المكان الوحيد الذي يليق بي. الذي اختاره لي الرّبّ. هززتُ رأسي تفهّمًا وتأييدًا لما يقولون، وأخفيتُ ارتيابي وشكوكي.
فطنتُ إلى مولدي الأوّل بفضل جسدي. منحني إشارات وعلامات، أثارت أسئلتي. جسدي أكّد لي أنني عشتُ حياة أولى. سألتُهُ أكان فيها مخيّرًا أم مُجبَرًا، كما شأنه الآن؟ لم يجبْ. ناديتُهُ: يا جسدي، يا جسدي الجميل الرائع الذي لا يُتاحُ لي حتّى رؤيته في مرايا. سألتُهُ: هل كنتُ حُرًّا في حياتي الأولى؟
كيف أُبعث للحياة بجسد كهذا؟ حين بُعثتُ للحياة لم يكن جسد طفلة، بل جسدًا فتيًا، قويًا وشابًا. جسد أنثى خبرت حياة لا تعرفها. جسدٌ له ذاكرة، لكني لا أملك خارطة الطريق إليها.
قَمَعُوا صوتي. في حياتي الأولى والثانية، على السواء. عشتُ صامتة، أُنصِتُ لما يقولون، وأستجيب. لا بدائل. أسئلتي يلتقطونها من نظرات عيني إليهم. من شكوكي التي تطلّ من عينيّ. يختتمون كلماتهم ب "مشيئة الرّبّ". حاولوا بكلمات كثيرة يطمئنوني لمصيري الذي اختاروه لي. شعرتُ بنبرة التهديد التي تحملها كلماتهم المطمئنة.
بعد شهور، وبالتدريج، سوف أستوعب أن ما أرادوه لي ليس سوى مشيئتهم.
ورغم نسياني كلّ شيء في حياتي الماضية، رأيتُ بعض الوجوه الضبابية تلاحقني في نومي.
عقلي الذي أصبح مثل شاشة بيضاء جائع للمعرفة. كلّما عرفتُ شيئًا جديدًا بات بإمكاني أن أفهم شيئًا عن حياتي.
أنتظر الليل بفارغ الصبر. أؤدّي مهامّي اليومية، أشارك في تنظيف الدَّيْر، أستمع إلى الموعظة، أتعلّم الحياكة، أتدرّب على صناعة الأيقونات، أشترك في إعداد طعام الراهبات. أتعلّم الصلوات، وأحفظها عن ظهر قلب. وأُصلّي. أُصلّي طويلًا. ثمّ يأتي الليل، بالأحرى ساعات الصمت التي تُفرَض علينا يوميًا. أطلبُ الخلوة في القلّاية، لكني لا أختلي إلا بكتاب في غالب الأحيان. "الكتاب المقدّس" في البداية، وأجد في قراءته لذّة كبيرة. متعة عقلية، وراحة لروحي. بعض الكلمات لا أفهمها، أُعيد قراءتها، لأحفَظَها عن ظهر قلب، أجد الفرصة لسؤال ما يدلّني إلى جوهر المعاني.
بالقراءة امتلكتُ صوتي، بدأتُ أفكّر وأتأمّل. لم يكن الأمر سهلًا، لكن شيئًا في رأسي كثيرًا ما يلتقط ما أقرأ كأنما قرأتُهُ في السابق. هل كانت ذاكرتي المفقودة تحاول استعادة عافيتها؟ لا أدري. لا يقين. لم أتذكّر شيئًا عن حياتي السابقة.
هذا الدَّرْس علّمني ما هو أهمّ: حياتي الراهنة يجب أن تُعاش بأقصى ما أملك من قدرة على الحياة، علّمني الجدّيّة، وكلّ ما ينبغي عليَّ فعله: التّعرّف على تاريخ المكان الذي زُرعتُ فيه، وقيل لي إنه مكاني الأخير. فهم خبرتي التي تتشكَّل في المكان، ثمّ مقارنتها بحيوات الآخرين. لكني لم أرغبْ في مقارنتها مع الراهبات الأخريات، لأن غالبيّتهنّ يعتقدنَ أنه لا معنى لحياة سابقة لهنّ، عشنَها خارج الدَّيْر. كنّ يردّدنَ أنهنّ مثلي تمامًا لا يمتلكنَ ذاكرة لحياتهنّ التي سبقتْ وجودهنّ داخل الدَّيْر. وصفنَني بالمحظوظة بفقداني للذاكرة، فبهذا سأتمكّن من التّفرّغ التّامّ للعبادة والصلاة من دون منغصّات أشباح الماضي، وشياطين الحياة الدنيوية.
وابتسمتْ لي الأمّ أنطونيا وهي تقول إننا هنا لن نجدَ الوقت، لنستعيدَ حتّى ماضينا. فلا وقتَ لدينا هنا سوى للعمل والصلاة.
همسُ الشياطين
لأجل الميلاد الجديد تحتّم عليهم قَصّ شَعْر رأسي. ولم أهتمّ. خضعتُ للطقوس كلّها في استسلامٍ تامٍّ. فقد كانت الوجوه تشعّ بالرصانة، وتمنحني الإحساس بأنها تؤدّي مهمّة مقدّسة.
أتأمّل ثوبي الأبيض، وأتحسّس رأسي بلا شَعْر تقريبًا، وأجفل من مَلمَسها، لكني لا أهتمّ. أكّدوا ضرورة الانسلاخ عن كلّ ما يربطني بحياتي سابقًا. جرّدوني من أُنُوثتي أيضًا. الآن ليس لديَّ شَعْر أعلى رأسي، وعليَّ تناسي شهوتي، وموضعها أيضًا.
أُنصِتُ إليهم وكأنهم يتحدّثون عن شخصية أخرى. ليكن، طالما هذا ميلادي الجديد.
وبمرور الوقت، وباستيعاب أنني في بيت الرّبّ، بدأتُ أستريح للفكرة، وأتعلّم جديدًا كلّ يوم. قلتُ لنفسي إذا كانت الأخوات كلّهنّ هنا قد أودعنَ ذاكرتهنّ عناية الرّبّ، وبدأنَ حياة جديدة، فلستُ بأفضل منهنّ، بل لعلّي أكون بهذا النقصُ القَدَريّ الذي أُصيبتْ به ذاكرتي الضائعة حظيتْ بمكافأة، مُنحَتْ لي بكرمِ الرّبّ العظيم.
قالوا إني محظوظة بميلادي الجديد الذي به قد تطهّرتُ من خطاياي. ولم أكن أرغب في معرفة شيء عن ماضيّ الذي نسيتُهُ، فما الجدوى من ذلك؟ ما تركتُهُ خلفي أيًّا كان، انتهى للأبد. بالذاكرة المفقودة والنسيان.
لكن الأمر الوحيد الذي تمنّيتُ حقًا معرفته هو الخطيئة. أقصد خطيئتي أو خطاياي، فإن لم أعرفْها، وأُدركُ مدى سوئي وانصياعي للشيطان، فكيف لي تجنُّبها هنا في بيت الرّبّ؟
نقلتُ هذه الهمسات لأذن "الأمّ أنطونيا"، فأوضحَتْ لي أنها همسات الشيطان. وحذّرتْني منها، وطالبتْني بالصلاة. وبين نفسي ونفسي تعجّبتُ من إمكانية وجود الشيطان هنا في بيت الرّبّ. ولكني لم أُخبرها بما فكّرتُ فيه.
وفي اليوم المعلوم ذهبتُ إلى المذبح معلنة تكريسي حياتي للرّبّ مع راهبَتَيْن أخرَيَيْن، وتلوتُ ما حفظتُهُ طَوَال الليل: "لقد صمّمتُ، أن أكرّس نفسي لله بكامل كياني، لمجده تعالى، وأن أتبع سيّدي يسوع المسيح حياتي كلّها، في خضوع بنوي لمريم العذراء، سلطانة الوردية، وإني أمام أخواتي الحاضرات هنا، وبين يَدَيْكِ، أيَتها الأمّ الرئيسة العامّة، أنذر لله، نذر العفّة والفقر والطاعة، في رهبانية الوردية. وإني لأَعِد أن أكون أمينة في المحافظة على قوانين هذه الرهبانية، التي وهبتُ لها ذاتي، عن حُرّيّة وتصميم، على رجاء البلوغ إلى كمال المحبّة، وبالثبات في خدمة الله والكنيسة، بنعمة الروح القُدُس، ومعونة مريم العذراء، أمّي".
أعلنوا لي اسمي بعد الميلاد الجديد: الأخت "يوستينا"، فرحتُ أردّده لنفسي حتّى لا أنساه، فهذا ما يهمّني الآن. أن يكون لي اسمٌ أعرفه، فلن يُخبروني، حتّى، باسمي في حياتي الأولى. فحتّى أوراقي الرسمية في الدولة الآن أيضًا مُدوَّنة باسمي الجديد. كأنهم يريدون قَطْعَ كلّ صلة لي بهذا الماضي، الذي يبدو لي كلّه من عمل الشيطان.
اليوم أصبحتُ أعي أنني فقدتُ ذاكرتي، وبدأتُ أُصدِّق في كون هذه التجربة التي مَنَّ بها عليَّ الرّبّ هي الأفضل للجميع، نعم، فلعلّها هبة ربّانية، مكافأة إضافية من الرّبّ.
جسدي في الأحلام
ناجيتُ يسوع، سيّدي وحبيبي، وقدّمتُ صلواتي للعذراء البتول، لهما ابتهلتُ، وأعلنتُ أنّي وهبتُ روحي للرّبّ، فلا حاجة بي للذاكرة، إن كانت خطيئتي أكبر من الغفران، فها أنا قد مُنحتُ رحمة الرّبّ بالنسيان. وإن كان في استعادتي لذاكرتي يومًا خير، فلتكن مشيئة الرّبّ.
وهكذا وَهبتُ روحي للرّبّ، لكن جسدي كان يلحّ عليّ بالمعرفة. كنتُ أدرك أن الشيطان المتربّص يزيُّن لي البحث عن كلّ ما هو ممنوع. ولهذا انشغلتُ عن جسدي بالعمل، بطَهْي الطعام للأخوات، وأعمال النظافة المُوكَلة إليّ، وبالصلاة.
لكنه تسلّل إلى أحلامي. رأيتُ جسدي في الحُلم، فتعرّفتُ عليه كإنسانة خطّاءة، وفي الحُلم، ساورني إحساس بأن هذا الجسد كان له عُشّاق، أو ربّما عشيق ما. حاولتُ تخيُّل شكله. وفي الأحلام أيضًا أدركتُ أن جسدي ليس بريئًا تمامًا، لأنه استوعب روحًا أخرى. ثمّة قلب آخر خَفَقَ في أعماقي، أسفل قلبي مباشرة. هل كان طفلًا أم طفلة؟ لا أعرف؟
استدعيتُ الحُلم الذي منحني العلامة رغم غموضه. لكني لم أحتجْ إلى تدوينه، لأنه تكرّر أكثر من مرّة. كان الحُلم بالنسبة لي مُجرّد إثبات لذاكرة الجسد.
ألقيتُ نظرة سريعة على جسدي في مرآة الحمّام الموضوعة على الجدار أعلى الجانب الخلفي للبانيو، الذي لا أذكر أني رأيتُهُ في الدَّيْر أبدًا. استدرتُ بشكل عابر، لأتأمّل التّرهّلات عند الخصر. مرّتْ على روحي لحظة من الإحساس بالشفقة على نفسي. خرجتُ من البانيو، وقبل أن أمدّ يدي لأتناول البشكير الأحمر الطويل، انتبهت لصوت رفرفة عابرة عند النافذة، تزامنتْ معها اختلالات هيّنة للإضاءة النهارية الساطعة القادمة عبر النافذة. التفتُّ باتّجاهها فلمحتُ شبحًا غائمًا لطائرٍ يتهادى على حدّ النافذة، وسرعان ما التقطتْ أذني صوت هديله الحزين.
جفّفتُ جسدي سريعًا، وخرجتُ من الحمّام. لم أجفّف شَعْري جيّدًا. خرجتُ من الباب الخشبيّ الذي يفصل بين شقّتي وهذا السطوح الذي يقع أعلى برج سَكَني. في الحُلم، موعد للقهوة. أخرج بها، أضعها على منضدتي الصغيرة المجاورة لكرسيّ هزّاز وثير.
روّعني هدير طائرةٍ مرّتْ من فوق المبنى. ظلّ الصوت الراعد يتوعّد العالم لوهلة قبل أن يتلاشى مخلِّفًا في قلبي شعورًا بالوَجَل. تجمّدتُ في مكاني، أتابع الطائرة التي اختفتْ عن نظري في ثوانٍ. استعدتُ هدوئي. تابعتُ المشي بخطوات وئيدة، أتأمّل أصص الشجيرات. أتنشّق عبير الورود. ممرّ مُبلَّط يصطفّ على جانبَيْه مجموعة من أصص فخارية ملوّنة، يحتوي كلّ منها نباتاتي الملوّنة بالألوان كلّها، التي منحتُ لكلّ منها اسمًا، أتأمّلها جميعًا يوميًا، أتحدّث إليها، أناجيها، وأُنصتُ لما تهمس به. أسقي تربتها، وأتحسّس وريقاتها وأزهارها، وأنثر من زجاجة خاصّة لها بخّاخة رذاذ المياه عليها. كانت روح هذه الكائنات هي ما يُؤنِس وحدتي، ويصنع عالمي الروحي هنا.
استيقظتُ من النوم مذعورة ممّا رأيتُ، ولَمْلَمْتُ ذاتي. كان ريقي جافًا. استعدتُ صورة جسدي كما رأيتُها في الحُلم. شعرتُ أنها لجسدٍ عجوز. ليستْ لي. ارتعبتُ من عالم الأحلام الذي يعصف في خيالي بصور، لم تخطر ببالي أبدًا. قاومتُ رغبة طارئة في مقارنتها مع صورته الحقيقية. همستُ باسم الصليب. وصلّيتُ للرّبّ باسم عظمة رحمته، لكي يُنقذني من الشيطان.
حاولتُ استعادة أسماء النباتات كما كنتُ أردّدها في الحُلم، ولم أنجح. طردتُ من رأسي ما سمعتُهُ من قصص عن الخطيئة، التي لاحقتْ فتيات كثيرات، بعضهنّ جئنَ إلى هُنا هربًا من الفضيحة، واستلاذوا بنا.
طلبتُ أصصًا فخارية في صباح اليوم التالي من حارس الدَّيْر، وزرعتُ في كلّ منها نبتة، وأسميتُها واحدة بعد أخرى. "حياة"، و"ردة"،" ليلة"، "ملاك"، "حنين". حاولتُ استدعاء أسماء النباتات التي رأيتُ في الحُلم. لم أذكر شيئًا، لكني أذكر أنني تعلّقتُ باسم وردة كان اسمها في الحلم "حنين"، نعم، تعلّقتُ بحنين. كانت أصغر من غيرها. شتلة صغيرة لونها الأخضر يافع وجميل.
ذاكرة المشاعر
أتخيّل أن اسمي الحقيقي الذي عُرفت به في حياتي الأولى قد يكون واحدًا من تلك الأسماء التي منحتُها لنباتات الرّبّ التي تولّيتُ رعايتها.
مع الوقت، والصلوات الجماعية والقُدّاس، وصلوات الخلوة وقراءة الإنجيل، وأعمال الورشة. أنسى ما هو مَنسي أصلًا، لكي أعمل لنفسي أكياسًا لا تفنى، وكنزًا لا ينفد في السماوات.
أيها الرّبّ يسوع؛ إن حَمَلكَ يصرخ إليكَ بصوتٍ عظيم. أحبُّكَ، يا عريسي، والآن أجاهد في طلبكَ. وها أنا مصلوبة ومدفونة في معموديّتكَ. أتألّم من أجلكَ، لكي أملكَ معكَ. من أجلكَ أموت، لكي أحيا فيكَ، اقبلْني كذبيحة بلا عيب، مقدّمة اشتياقًا لكَ. يا ربّ، خلِّصْ نفوسنا بصلواتها، لأنّكَ عظيم الرحمة.
ثمّ يأتي الحُلم مرّة أخرى. هل ما رأيتُهُ في الحلم هو الذاكرة؟ هل كنتُ أعيش في حياتي الأولى في ذلك البرج الشاهق؟ أهي رؤيا؟ ولماذا كنتُ في حُلمي وحيدة؟
وحيدة هنا أيضًا. وأحبّ وحدتي، أعرف فيها ذاتي، أعرفني في حياتي الثانية، على الأقلّ، ليس لديّ ما لا أعرفه عن حياتي الثانية، راهبة في الدَّيْر، لا حياة لي خارجه، اسمي المختار لي هنا "يوستينا"، ولا أعرف اسمي الذي عُرفتُ به في حياتي الأولى.
أنتظر الفتاة الصغيرة التي تخدم الدَّيْر أحيانًا، بفرح، مريم الفتاة الرقيقة الجميلة التي تولّيتُ رعايتها منذ رأيتُها في دار رعاية للأيتام قبل سنوات. كلّ يوم تتوثّق علاقتنا أكثر. تعدّني أمًا، وأعدّها صديقة وابنة. تعلّقتُ بها منذ رأيتُها ترمقني لأوّل مرّة بابتسامة ذكية. أحببتُها، وأقبلتُ عليها. احتضنتْني كأنها تعرفني من سنوات. وربّتتْ على ظهري بيَدَيْن خفيفَتَيْن كأنها أمّ، وليستْ طفلة في السادسة. عمرها الآن 12 عامًا.
أسئلتها الآن قليلة. لم تعد تسألني تلك الأسئلة الصعبة التي كانت تسألني إيّاها من قبل. الآن تبدو مشغولة أكثر. قلقة من انتظار الطمث. أخبرتْني أن فتيات كثيرات من زميلاتها جاءتهنّ "الدورة". وهي تترقّب الأمر. ولا تعرف إلى متى سيستمرّ انتظارها. أخبرتُها بما أعرف، وطمأنتُها. أنا أيضًا لم أعد أسألها الكثير ممّا كنتُ أسأله إيّاها من قبل. كنتُ أعدّها عينَيَّ على العالم في الخارج. العالم الذي لا أعرف عنه شيئًا، لأنني فقدتُ ذاكرتي عنه.
زياراتها للدَّيْر قَلَّتْ. لكنْ، لم تقلّ الدعوات التي أتلقّاها إلى بيت الخلوة، حيث تجتمع الراهبات مع ضيفات الدَّيْر من الفتيات اللائي يواجهنّ مشكلات أو يردنَ استشارة أو نصيحة أو تعلُّم شأن كنسي.
عُرفتُ بإتقاني اللغة الفرنسية حين وقعتْ عيناي على كتاب في مكتبة الدَّيْر يومًا. ذُهلت. كانت ذاكرتي فقط هي التي أصابها العَطَب. أمّا مهاراتي، فالواضح أنني لازلتُ أحتفظ بها. عندما أخبرتُ مريم بذلك، طلبتْ منّي أن أُعلّمها "الفرنسية". وحيّرني الأمر. فلم تكن لديّ خبرة تعليم لغة أخرى. لكني وعدتُها خيرًا، وبحثتُ في المكتبة عمّا يساعدني في المهمّة.
لكنْ، صدقًا أقول: لم أشعر برغبة حقيقية لمعرفة ماضيي. الطريقة التي جئتُ بها إلى هنا جعلتْني أشعر أنه يتضمّن شيئًا مخزيًا. ولهذا فضّلتُ ألا أعرفه. قلتُ ربّما الخير الذي يريده لي ربّي الآن هو النسيان التّامّ والتّفرّغ لأجل الصلاة ومحبّة الرّبّ.
لو كانت إرادة الرّبّ في عودتي إلى الطريق كما قالتْ لي الأمّ كلوديا، فها أنا عدتُ.
أيّامي التي تلتْ مولدي الثاني، قضيتُ منها أربع سنوات تحت الاختبار. قرأتُ عن سير الكثير من الأساقفة والمطارنة والرهبان، عن الإيمان والحبّ، عن يسوع ومريم البتول، عن الصلوات والخشوع. قلتُ إنني أريد الرهبنة باختياري، وكنتُ صادقة، فكيف أعود لحياة، لن أتمكّن من تذكّرها.
أنا هنا، مع الرّبّ، فلتكنْ مشيئته واختياري، ولتكن له صلواتي وخشوعي. قرأتُ ولم أفهم، ثمّ قرأتُ وتأمّلتُ، وفهمتُ القليل. وحين قرأتُ بعقلي وقلبي، فطنتُ، فأدركتُ.
حين جاءت مريم لي بعينَيْن باسمَتَيْن، وقالتْ لي إن ملاكًا ظهر لها، وأملاها موعظة، صدّقتُها. لكني لم أخبر الراهبات شيئًا. خفتُ. سوف يباركونها، وربّما يقدّسونها. لا تزال صغيرة على ذلك كلّه. تحتاج إلى الحياة التي أعرفها من خلال ما تحكيه لي عنها. كنتُ أُسجّل الموعظة، أحفظها، وأصلّي من أجلها. ربّما كانت الموعظة من أجلي. لأجل أن يقوى إيماني.
قالتْ لي إنها تعرّفتْ على صديقة جديدة تحبّها. قالتْ إنها تقرأ كُتُبًا علمانية، وتشاهد صورًا. وصَمَتَتْ، واحمرّتْ وجنتاها. شجّعتُها بابتسامة. كنتُ أودّ أن أعرف ما ترغب في قوله لي.
قالتْ إنها تشعر بشيء غريب يرتجف له جسمها كلّه عندما حَكَتْ لها الفتاة عن طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة. ابتسمتُ لها، وقلتُ: هذا أمر طبيعي. اندهشتُ ممّا نطقتُ به، لأنه خرج بوعي من خبرتي، وليس من ذاكرتي. كأنني أعرف هذا الأمر، لأنني مارستُهُ. لكني لا أذكر كيف أو متى أو مع مَنْ.
بعد الكثير من القراءة، أدركتُ محبّتي لفكرة الإيمان، بِعَدِّه اختيارًا، وليس فرضًا. قرأتُ عمّا تعرّض له قدّيسون كُثُرٌ من اضطهاد وشرّ. أحسستُ بمشاعرهم. وبقوّة إيمانهم، وبتمثُّلهم بيسوع الحبيب، بآلامه التي لا تُطاق، والتي احتملها جميعًا من أجلنا. قلتُ إنه لم يكن مضطرًّا لولا إيمانه. كرهتُ القسوة في كلّ شيء. القسوة التي جاءت بي إلى هنا، والقسوة التي تعرّضتْ لها القدّيسات والمُضطَهَدُون. قلتُ لنفسي لو أُجبرتُ على شيء هنا، فسوف أترك الدَّيْر.
ردّدتُ الجملة لنفسي، وشعرتُ أنني أستدعيها من مكان باطني خَفي في ذاتي. هل هذه هي ذاكرتي؟ هل كانت هذه هي خطيئتي؟
قالتْ لي مريم إنها تشعر بوجيب قلبها كلّما رأتْ فتى يكبرها بعامَيْن، وينظر إليها بإعجاب في الكنيسة أيّام الآحاد. قلتُ لها ألا تتسرّع، لأنها صغيرة. لكني طلبتُ منها أن تتبع قلبها. كنتُ أثق في براءة قلبها الذي يتلقّى موعظة الملاك. وأنها ستُحِبُّ، من دون أن تُعرِّض نفسها للأذى.
من أين جاءني هذا الحسّ الأمومي؟ ليستْ أمومتي تجاه مريم أمومة راهبة، تُعوِّض أمومتها المقموعة برعاية الفتيات الصغيرات. بل أشعر بمشاعر، يرتجف لها قلبي. كأني شعرتُ بها قبلًا في حياتي السابقة. كان جسدي له ذاكرة تعمل بعيدًا عن ذاكرة عقلي المفقودة.
في انتظار المعجزات
هل أصلّي لكي أستعيد ذاكرتي؟ أم أستجدي القدّيسين؟ وأزور قبور الشهداء؟ أشعر أنني أعيش فاقدة للتوازن. كَمَنْ أصابه العرج. مهما ادّعيتُ عدم رغبتي في استعادة ذاكرتي.
مشاعري لها ذاكرة أخرى، لم أفقدْها. لهذا، مثلًا، أستدعي مشاعر الأمومة حين أرى مريم. مشاعر غريبة تنتابني كلّما حَكَتْ لي عن حبيبها الشّابّ. أفهم ما تشعر به، حتّى النشوة التي اعترتْني حين ذكرتْ لي معرفتها لتفاصيل العلاقة بين الرجل والمرأة. جسدي يستدعي نشوة مشابهة من ذاكرته الحيّة.
لكنْ، إذا استجاب القدّيسون لدعائي هل سيمكنني العودة لحياتي الأولى؟ أم يكفيني معرفتها، وكفى؟ ولكنْ، إن كان لي طفل أو طفلة، فلماذا لم يسألوا عنّي؟ كيف تركوني هنا لمصيري؟
الأسئلة أحيانًا لا تُسبّب إلا الغضب، وليس لي إلا الصلاة والانخراط في العمل. كلّ يوم هنا يمثّل جديدًا في حياتي. كانت ذاكرتي البيضاء ناصعة. ولهذا أستقبل كلّ شيء كأنني أعرفه لأوّل مرّة. كلّ كلمة أقرؤها وأُردّدها عدّة مرّات أحفظها. ساعدني ذلك في اكتساب ثقة الأمّ كلوديا بسرعة، أبهرتْها قدرتي على حفظ مواعظها، وحفظ ما تحكيه من سِيَر القدّيسات والقدّيسين، صلّتْ لأجلي، وعَدَّتْ هذه الهبة الرّبّانية لها دلالتها في رضا الرّبّ.
بعد عدّة أشهر، بدأتُ أخشى الشعور برتابة الحياة في الدَّيْر. كنتُ أردّد لنفسي أن كلّ راهبة هنا مهما تمنّعتْ عن ذِكْر ما يخصّ حياتها قبل الرهبنة كان لها حياة. ذكريات ومواقف. أب وأمّ وإخوة، وتفاصيل مع عالم مختلف عمّا نعيشه هنا. ربّما يكون في استدعائها ما يُبدّد رتابة الأيّام.
لكن الرّبّ لم يبخلْ عليَّ بما يُبدّد إحساسي بالرتابة. كانت المعجزات التي أسمع عنها عن القدّيسات هي أكثر ما يُخلِّصني من هذا الإحساس. كانت المعجزة دليلًا على المنزلة العالية التي وصلَتْ إليها القدّيسة من إيمان وبركة. كنتُ أسأل وأُنصِتُ للمعجزات التي ترد إلينا من الأديرة الأخرى أيضًا.
هل كنتُ أنتظر معجزة؟ رفرفة الطيور ترتبط عندي بأنها تسبق حدوث معجزة! انتبهتُ لهذا الإحساس تقريبًا منذ حلمتُ بجسدي والطيور والنباتات. ولكنْ، ماذا سأفعل بالمعجزة؟ يحتاج الناس المعجزات ربّما ليزدادوا إيمانًا، أو ليُدركوا أن مَنْ يقترب من الرّبّ أكثر يمنحه من فيض كرمه معجزة وكرامة، ولكنْ، ما حاجتي أنا لهذا كلّه؟ ونحن هنا في الدَّيْر نخفي أمر الأمّهات أصحاب الكرامات حتّى لا تتعرّضنَ لحسد الشيطان.
فالشيطان لا ينام. وعلينا أن نستيقظ أيضًا. وربّما لهذا نومنا قليل. نسعى للصمت، والتّأمّل، ففي هذا كلّه انشغال للحديث مع الله بدلًا من الحديث مع النفس. وتذكير النفس بالانضباط، النظام، اكتساب القوّة الروحية اللازمة للحياة في طريق الرهبنة، اليقظة المستمرّة. كيف نعيش في جوٍّ متّزن لحياتنا الروحية. كلّ عمل بلا ثبات لا تجني منه ثمرة. حُرّيّة الروح القُدُس ليستْ في عدم الانضباط، بل الوصول إلى مستوى الحبّ الإلهي، حيث لا تصبح الوصايا قيودًا.
أُذكّر نفسي كلّ يوم، بالوصايا والتعاليم، التي نُنصِتُ إليها.
حين أدخل إلى الغرفة في الليل، وأجلس إلى فراشي، مُرهقة ومتعبة، فأتمدّد فقط للراحة قليلًا، تباغتني الذاكرة بأنها تتذكّر الأشياء التي حدثتْ خلال اليوم. أصبحتْ لي ذاكرة، تبدأ من حياتي في الدَّيْر. وأشعر بهاجس الغضب في داخلي، لأن الشيطان ربّما يدفعني للتساؤل عن سرّ اختيار الرّبّ لي، لكي أمرّ بهذه التجربة، وسرعان ما أسأل الحنّان غفرانه. لو استسلمتُ لمثل هذه الأفكار، لتعرّضتُ لما تعرّضتْ له "الأخت جورجينا".
أُبلِغَتِ الأمُّ المسؤولةُ أنها تذمَّرتْ من تنظيف الحمّامات، وعلى الفور، قرّرت "الأمّ كلاوديا" أن تعزلها في إحدى القلايات لمدّة يومَيْن، وطلبتْ منّي تقليل وجبات الطعام الذي سيدخل إليها أمس واليوم.
أمرٌ مُذلٍّ أن تأتي راهبة، لتخدم الرّبّ وتتذمّر. يبدو أن البعض ليس مؤهّلًا لحياة الراهبات القاسية هنا.
أغتنم كوني معروفة بفقدان الذاكرة، لأسأل كثيرًا. سألتُ "الأمّ أنطونيا" أمس عن أسباب التّذمّر. قالتْ لي:
– الدَّيْر لم يكن أبدًا مجمعًا للتعيسات أو القبيحات أو سيّئات الحظّ في الحياة. بالعكس تمامًا، نحن لا نقبل برهبنة مَنْ يتصوّرنَ حضورهنّ هنا هربًا من الحياة ومشكلاتها. هؤلاء لا مكان لهنّ بيننا. لكنْ، أيضًا، وحتّى هنا، تظهر بعض المشكلات حين يفقد المرء رقابته لنفسه، وحين تلين النفس، من الرهبان أو الراهبات، لكنْ، بقليل من الشّدّة يستعيد الراهب أو الراهبة صوابه. فلا تُقلقي نفسكِ بهذه الأمور. فقط كوني متأكّدة أن مَنْ يمنح نفسَهُ للرّبّ، لا يكون له هدف آخر.
وُلدتُ مسيحيًّا
وكلّما مرّ أحد منّا هنا بمحنة، وما أكثرهم، فسرعان ما أستعيد سيرة القدّيسة دميانة، التي أسّست للرهبنة في مصر، ففي سيرتها أشدُّ عزمي، وأُقوّي نفسي، وأتمسّك باليقين وبالقوّة اللازمة ليوم جديد في عبادة الرّبّ وخدمته:
لأن "القدّيسة دميانة" فعلتْ كلّ ما يمكنها، واحتملتِ الأذى، لتُرسل إلينا عبر الزمن رسالتها، وأردّد لنفسي سيرتها كما أحفظها عن ظهر قلب:
أوّل من أنشأت فكرة الرهبنة حتّى قبل الأنبا أنطونيوس، والمعروف بأنه أوّل راهب في التاريخ المسيحي، لكنها استشهدتْ في زمن "الأنبا أنطونيوس".
كانت ابنة والي وحاكم البرلس، الذي تولّى رعايتها بنفسه، لأنها كانت يتيمة الأمّ. وعندما وصلتْ لسنّ البلوغ، وبدأ الأمراء في طلب الزواج منها، رفضتْ، وقالتْ لوالدها:
– قرّرتُ مَنْحَ حياتي لخدمة الرّبّ، وسوف أعيش حياة البتولية.
فأنشأ لها منزلًا كبيرًا، الذي أصبح "دَيْر القدّيسة دميانة" المعروف الآن، وكانت برفقة صديقاتها الأربعين، وفيه كنّ يُقدّمنَ الخدمات للفقراء والمحتاجين. وكانت وصديقاتها يرتدينَ الملابس نفسها، ويأكلنَ الأكل نفسه، ويقضينَ يومهنّ في تسبيح الرّبّ والصلاة له.
كان والدها من المسيحيّيْن المؤمنين، الذين عاصروا فترة حكم الدولة الرومانية. وصادف أن الرومان كانوا قد حقّقوا النصر في واحدة من معاركهم الحربية، واحتفالًا بالنصر، قرّر الإمبراطور الروماني أن يدعو الولاة كلّهم التابعين للإمبراطورية لقصره، لكي يُقدّموا القرابين.
وأشار المقرّبون على والد دميانة بالذهاب إلى الإمبراطور، وتلبية الدعوة، لكي يتفادى غضبه، وقالوا له إن الجميع يعرف أنكَ تدين بالمسيحية، وفي رفضكَ الدعوة ما قد يؤدّي لخسارتكَ للإمبراطور. وهكذا قرّر الوالي تقديم القرابين للآلهة الوثنية في مقرّ الإمبراطور، فلمّا عرفت الابنة بالأمر، أصابها الحزن، وقالتْ لأبيها:
"كنتُ أفضّل سماع خبر موتكَ عن أن أسمع إنكاركَ لربّنا".
فتأثّر والدها جدًّا بحديثها، فذهب للملك، وقال له:
"لقد وُلدتُ مسيحيًا، وسأموت مسيحيًا. وإنّي كُنتُ مُخطئًا عندما قدَّمتُ القرابين للأوثان".
فحاول الإمبراطور استقطابه باللِّين في البداية، فلمّا لم يستجب، حاول ترهيبه بالعنف والتعذيب، ولكنْ، أمام إصرار الوالي على موقفه، قام الإمبراطور بقَتْله.
ولكنه شعر بالحزن عليه بعد قَتْله. وهنا نقل إليه نفر من حاشيته أن ابنة الوالي كانت السبب في قَتْله، لإيعازها إليه برَفْض تقديم القرابين. فأرسل إليها الإمبراطور بعثة بقيادة أمير من ولاته ومجموعة من الجنود، حاصروها في القصر. ولكنها حسب وصيّة المسيح قدّمتْ للأمير كرم الضيافة، ففرح ظنًّا منه أنّها خافتْ، ولكنها لم تستجبْ لمحاولاته المستميتة للتّخلّي عن الديانة المسيحية، بالإغراء مرّة وعروض الزواج والسلطة، أو بالشّدّة والتعذيب مرّة.
وتركَتْ دميانة للأربعين عذراء حُرّيّة الاختيار في العودة إلى منازلهنّ، ولكنهنّ رفضنَ، وقرّرنَ البقاء معها؛ مؤمناتٍ بتوحّد مصيرهنّ معها.
إزاء الإصرار العنيد، قرّر الملك تعذيبها بأقصى وسائل التعذيب حتّى ترضخ لما يطلب. وهنا حدثتْ معجزة كبيرة، إذ كان الأمير والجنود يتركونها بعد حفل التعذيب وهي على وشك الموت، لكنهم حين يعودون لرؤيتها في اليوم التالي يفاجئهم اختفاء آثار التعذيب كلّها، لتكون آية لله في الأرض. وليزداد عدد المؤمنين الذين بدؤوا في المجيء من القرى المجاورة لرؤية هذه المعجزة. وبسبب القوّة التي أظهرتْها في التّحمّل وخشية انتشار المسيحية، أمر الإمبراطور بقَتْلها هي والأربعين عذراء، وتمّ دفنهنّ في مكانهنّ بالدَّيْر حاليًا".
سيرة السّتّ دميانة كانت أفضل وسيلة لي لاحتمال أيّ شيء يمكن أن يتعرّض له شخص. وكنتُ أرى أن حياتي هنا مُرفّهة قياسًا بما تحمّلتْه هذه الشهيدة القدّيسة. ولهذا لم أكن أَمَلّ من إعادة قراءة سيرتها واستعادتها وتمثّلها بكلّ ما أملك من قوّة التخييل. مَن التي لا تتمنَى أن تكون واحدة من الأربعين عذراء اللواتي يرافقنَ قدّيسة بهذا اليقين في الحقّ؟
كانت سيرة هذه القدّيسة تُوفّر لي العزاء، والأمل، وتمنعني عن الاستمرار في محاولة رسم تخيّلات لحياتي قبل الدَّيْر. وتمنحني القوّة، لكي أتزوّد بالمعرفة والقراءة. فقوّتها هذه كلّها كانت قوّة المعرفة بالحقّ.
نَجِّنا من الشّرّير!
كم سنة مرّت عليّ هنا في الدَّيْر؟ بصراحة لم أعد أعرف. لكن أعيادًا كثيرة مرّتْ علينا، وصلوات كثيرة. تذكّرتُ بأسفٍ أننا ودّعنا أمّهات ثلاث في العامَيْن الماضيَيْن، بعد أن تنيّحنَ، وتذكّرتُ كيف أن السنوات قد مرّتْ بنا بالفعل، ولم نشعرْ بها.
وفي الصباح، قرّرت "الأمّ كلاوديا" خروجي مع "الأخت أنطونيا" والراهبة المتدرّبة لاستقبال ضيفات "بيت الخلوة". ارتديتُ ثوبي الأسود، وأحكمتُ من غطاء الرأس، وعلَّقتُ الصليب الجلدي الكبير على صدري، وتأهّبتُ للقاء الزوّار.
وجدنا سيّدةً كبيرة في العمر، فهمتُ أنها أمّ الراهبة المتدرّبة، ارتدت الأسود، وجاءتْ لزيارة ابنتها. ورأينا أربع شابّات أخريات، جئنَ فقط لزيارة الدَّيْر، وجاءتْ امرأة وبنت صغيرة في العمر، استقبلتهنّ "الأمّ كلاوديا" بابتسامة وقورة، وقبّلنَ يدها. واقتربت أمّ الفتاة المتدرّبة منها، واحتضنتْها، وهي تبكي. قالتْ إنها لم تَرَها منذ ستّة أشهر. وبدت المتدرّبة وهي تحاول أن تتحكّم في عواطفها.
سألتِ الأمُّ ابنَتَها إذا ما كانت مصرّة على الاستمرار في الرهبنة. وتغيّرت ملامح الفتاة قليلًا، وأحسّتْ بالحرج. لكن "الأمّ أنطونيا" التفتتْ إليها، كأنها تراقب ردّ فعلها، فاقتربت الفتاة من الأمّ، واحتضنتْها في حنان، ثمّ قالتْ لها:
– "اهدئي، يا أمّي، أنا جيت هِنا باختياري، ومبسوطة ببركة يسوع وستنا العدرا".
حاولت الأمّ أن تثنيها عن قرارها، وتقول لها إنها تتمنّى أن تفرح بها عروسًا وأمًا، لكن الفتاة كانت تزداد تماسكًا، وهي تُطمئِنُ أمّها قائلة إن عليها أن تفرح لسعادتها بوجودها داخل الدَّيْر. وأنها ستكون عروس الرّبّ.
وبعد قليل، اقتربت منّي السّيّدة الكبيرة في العمر وابنتها، وقدّمتْ لي نفسها، وعرّفتْني بابنتها. بدت السّيّدة متردّدة قليلًا في الكلام، فشجّعتُها، فأخبرتْني بما يشبه الهمس أن ابنتها تعاني من مشكلات نفسية، وتشعر بأن الفتاة "معمول لها عمل"، وتحتاج مساعدتي، لكي أفكّ هذا السِّحْر.
ابتسمتُ لها، وطلبتُ منها أن تذكر اسم ابنتها، وحين ذكرتْهُ، وعدتُها أن أصلّي من أجلها، ثمّ أضفتُ، بل سنصلّي لها جميعًا. حاولت السّيّدة أن تُقنعني بخطورة السِّحْر، وأنه يحتاج لفعل مبارك، يُوقِف عمل السِّحْر. لكني لم أسمح لها باستكمال الكلمة، ومنحتُ وجهي مسحة من الصرامة، وقلتُ لها إننا في الدَّيْر لا نمارس إلا الصلاة .. فصمتتْ.
اقتربت الفتيات الأخريات في وَجَل من الأمّ أنطونيا، وقلنَ إنهنّ لديهنّ بعض الأسئلة عن الصلوات، وعن تفاصيل كنسية، أردنَ التّأكّد منها، فطلبتْ منهنّ الانتظار للتأكّد إذا ما كانت هناك زائرات أخريات، لكي تُلقي عليهنّ بعظة ودرس عمّا يودّون معرفته.
اقتربتْ منّي امرأة عجوز بمفردها، وكانت قد وصلتْ لتوّها. ساعدتُها على الجلوس، وجلستُ بجوارها. قالتْ لي إنها فَقَدَتْ ابنتها الكبرى، وأن ابنَتَيْها الأصغر أيضًا هاجرتا خارج مصر، ولا تعرف ما الذي يمكن أن تفعله في هذا العمر؟ سألتُها إن كانت قد توجّهتْ للكنيسة التي تتبعها، أو أيّ كنيسة من الكنائس؟ فقالتْ إنها لم تطلب المساعدة من أحد، وإنها فقط جاءت لكي تشكوَ همّها، لا أن تطلب المساعدة. وقالتْ إن يسوع العظيم لا بدّ عالم بحالها، وأن أمّنا العدرا ستُدبّر أمرها، ولن تنساها. قالتْ كنتُ أحتاج فقط إلى أن أطلب الصلوات من المؤمنات القريبات من الرّبّ.
قلتُ لها إنه لا بدّ من وجود دُور رعاية لها تابعة للكنيسة، وإنها إن لم تتمكّن من ذلك، فسوف نساعدها، لكنها عادت في إصرار تؤكّد أنها تعيش سعيدة بمحبّة الرّبّ، وأنها لم تُقصّر في أداءِ ما عليها. وودّعتْني شاكرة وهي تُوصيني ألا أنساها في صلواتي.
سنوات طويلة قضيتُها هنا في الدَّيْر، كنتُ أشعر أنني بعيدة تمامًا عمّا يجري في العالم، قرأتُ كثيرًا في اللاهوت وشؤون الدِّين، حتّى كدتُ أنسى أن هناك عالمًا خارجيًّا، يعيش به بشر. ولكن زيارات اليوم ذكّرتْني بالعالم، وبالبشر، وعرّفتْني بأشياءٍ ممقوتة مثل الكراهية والعنف.
تحدّثتْ فتاتان معنا اليوم عن أحداث عنف، تعرّض لها الشعب في أكثر من كنيسة. واختطاف لبنات مسيحيات، يقال إنهنّ أسلمنَ.
شعرتُ بالغضب وأنا أحكي للأمّ كلاوديا ما سمعتُ، وقلتُ لها متسائلة:
– لماذا هم أشرار هكذا؟
– مَنْ هم، يا ابنتي؟
– المسلمون.
– لا تقولي هذا الكلام. نحن لا نصف أصحاب الديانات بالشّرّ. الشّرّ موجود في قلوب الجميع، أيًّا كانت دياناتهم، وعلينا أن نصفح عن الجميع، ليحلّ السلام في قلوبنا، ولأننا في بيت الرّبّ، سنصلّي لأجل ضحايا الشّرّ، وسوف ندعو الرّبّ أن يخلّصنا من الشّرّير. نحن لا يمكن أن نتكلّم بلسان الشعب، وإن كنّا منه، هل فهمتِني؟
هززتُ رأسي بينما تطفو كلمات الأمّ كلاوديا في عقلي. لكني لم أهدأ، ولم تحلّ السكينة في روحي كما تمنّيتُ. فمنذ سمعتُ تلك الأخبار وأنا أشعر بالتّوتّر. وبالخوف. لا أعرف ممّا أخاف بالضبط؟ ربّما تكون مشاعر الفتيات الصغيرات وهنّ يحكينَ عن تلك الأحداث قد نقلتْ لي مخاوفهنّ بشكل ما؟
ثمّ قرّرتُ أن أصلّي اليوم كثيرًا، لأجل الشهداء، الذين ذهبوا لأحضان المسيح. انتظرتُ فترة الصمت، لكي أغالب دموعي، وأصلّي طويلًا.
وعندما انتهيتُ، بدّلتُ بثوبي رداء النوم الأسود الخفيف، ووضعتُ رأسي على الوسادة، وأنا أرجو الرّبّ أن يساعدني على النوم، حتّى أتمكّن من النهوض مبكّرًا لأداء الصلاة، ومتابعة ما سوف تكلّفني به. وظهرتْ لي صورة مريم الطفلة، وتمنّيتُ أن تأتي للزيارة، فمنها يمكنني أن أفهم أشياء كثيرة عمّا يحدث خارج الدَّيْر، ولن تصلني منه هنا إلا الشذرات.
في حراسة الجنود
بعد أن أنهيتُ صلاة التسابيح، وأنهينا القدّاس في كنيسة الدَّيْر، بدأت الأمّ كلاوديا بتوزيع المهامّ، وكان عليَّ أن أذهب إلى المطبخ اليوم. قالتْ لي إن الأكل اليوم لن يكون للراهبات فقط مثلما تجري الأمور، وقبل أن نسأل أوضحتْ أن الحكومة خصّصتْ للدَّيْر حراسة خاصّة، بسبب الأحداث، وأن الطعام الإضافي للجنود الذين سيتولّون الحراسة.
أخرجْنا الأواني والأوعية، وحدَّدْنا ما سوف نقوم بطَهْيه، وقرّرنا أن نزيد من مقدار حساء العدس، وكذلك الأرز، وحتّى مقدار الخبز المتعارَف عليه.
قلتُ للراهبة الصغيرة بجواري إن حظّ الجنود جيّد أننا لسنا في أيّام الصيام.
ابتسمتْ وقالتْ: صحيح، ولو إن مافيش لحم الأسبوع ده.
هززتُ رأسي، وبدأنا نضع الأوعية على النار بعد أن تأكّدنا من نظافتها. وطلبتُ منها أن تأتيني بالدقيق والخميرة، لكي نشرع في خَبْز الخبز.
كنتُ أشعر بالتّوتّر. أزعجَني أن الدَّيْر الذي أعدّه أكثر الأماكن في العالم أمانًا، قد يصبح هدفًا للخطر، "نجِّنا من الشّرّير، يا يسوع". وطالبتُ نفسي بأن تصمتَ، صمتًا يماثل فترة الصمت ليلًا التي نلتزم بها في الدَّيْر.
ألهيتُ عقلي بالعجن، وبدتْ يداي قاسيَتَيْن وهما تضربان العجينة بدأب، حتّى التفتتْ إليَّ "الأخت جورجينا"، وسألتْني إن كان بي شيء، أو أحتاج لمساعدة. انتبهتُ من وسواس عقلي، وطلبتُ منها أن تبدأ في إعداد نار الفرن.
قلتُ لنفسي: يبدو أن الشّرّ في العالم كبير وخطير. والحمد للرّبّ واجب لمحبّته وحنانه، لأن يد رحمته جاءت بي إلى هنا. تذكّرتُ أن الصيام الكبير اقترب. قالتْ لي الأخت جورجينا إن الأمّ كلاوديا تمتنع عن الطعام في هذه الفترة تمامًا، يوم ونصف صيام، ولا تفطر فيه إلا على الماء والملح. قالتْ إنها لا تسمح لأحد بأن يفطر مثلها على الماء والملح، لأننا لسنا مدرّبات على ذلك، وأجسادنا لن تحتمل.
لكني أحسستُ في هذه اللحظة، بينما أشعر بقوام العجين وقد أصبح متجانسا تمامًا، وجاهزًا للخبيز، بضرورة الصوم عن الطعام تمامًا مثل الأمّ كلاوديا، شكرًا ليسوع على منحته لي بالإقامة في الدَّيْر، وتجنيبي شرور العالم في الخارج، وأيضا سأصوم، لأبتهل للرّبّ والعدرا، لكي تخفّ هموم الشعب، ويتجاوز محنته.
جاءت الأختان، الأمّ فيرونيكا، والأمّ بارباره، والتحقتا بنا، ومن دون أن تسألانا، توجّهنَ لإعداد العدس الذي كنّا تركناه متبلًا من الصباح الباكر، لإعداد الحساء، وقالتْ الأمّ فيرونيكا:
– لو لدينا أيّ لحوم من أجل الحرّاس، سيكون هذا جيّدًا، حتّى لو كان على حساب وجباتنا.
وأضافتْ: إحنا في كلّ الأحوال داخلين على صيام.
أشّرتْ للثلاجة، فاتّجهتْ إليها، وأخرجتْ منها دجاجة ممّا كنّا نظّفناه وأعددناه قبل أيّام. وأخذتْها لتغسلها وتُعدّها للطهي.
قلتُ: لكنْ، لماذا يحرسون الدَّيْر؟ أليس الدَّيْر في حماية الرّبّ؟ ومَنْ يمكن له أن يفكّر في إيذاء مجموعة من الراهبات، لا علاقة لهنّ بما يدور في العالم؟
أفسحت لي الأمّ بارباره المكان حين رأتْني أحمل قدر العجين، لكي أخبزه، وقالتْ:
– هذه إجراءات ضرورية، دور العبادة كلّها في مصر لا بدّ أن تتوافر لها حماية من الأمن. إجراء روتيني.
فكّرتُ أن أقول لها إن الأجدى أن تتوافر هذه الحماية للبسطاء الذين لا يجدون مَنْ يحميهم. لكني تجنّبتُ التّورّط بكلام دنيوي، قد يعرّضني للتوبيخ، إذا انتقل للأمّ كلاوديا، فآثرتُ الصمت، بينما أقطع من العجين كرات صغيرة، وأفردها بشكل دائري، وأنثر عليها الدقيق.
سمعتُ الأم فيرونيكا تقول "سلامي أعطيه لكم، ولا يوجد أحد غيري يعطيه لكم".
أخرجْنا الطعام للحرّاس، وذهبْنا لنتناول طعامنا. قالتْ لي الأمّ كلاوديا إنني نحفتُ كثيرًا، قلتُ لها: مش أحسن؟ فقالتْ، إن أيّام الصيام الكبير قادمة، وإن عليَّ الاستعداد لها حتّى لا يؤثّر ذلك على صحّتي، وعلى قيامي بالمهامّ.
وطمأنتُ نفسي: لو لم أتمكّن من الإفطار على الماء والملح، فربّما أمكنني أن أُضيف إليها لقيمات من "القربانة" مع قليل من العدس.
قالتْ الأمّ كلاوديا إن الدَّيْر سيُغلق أبوابه لفترة من أجل الاحتياطات الأمنية، وبالتالي لن نستقبل زوّارًا لمدّة أسبوعَيْن.
وهززْنا رأسنا جميعًا بتفهّم، وراحتْ كلّ منّا تدعو الرّبّ أن يزيح عن أهلنا هذه الغمّة.
طفلةُ الأحلام
في فترة الصيام الكبير، كنتُ أشعر بإعياء غير معتاد. كنّا نبدأ الصيام عن الطعام والمياه مع انتصاف الليل، ولا نفطر إلا في الساعة السادسة من مساء اليوم التالي. كانت الأيّام الأولى للصيام تُصيبني بالسعادة، وتزيدني من الإصرار على المزيد من تأكيد ذاتي قدرتها على احتمال كلّ ما تتطلّبه الحياة من أجل الرّبّ، فتضحياتنا كلّها ليستْ شيئًا تجاه ما واجهه يسوع، وما واجهه القدّيسون والشهداء.
كانت الأمّ كلاوديا تصرّ على عرضنا على الأطبّاء قبل أيّام الصيام حتّى تتأكّد من قدرتنا على احتماله. وكنّا ندعو الرّبّ أن يُمتِّعنا بالصّحّة حتّى نستمرّ في الصيام. وكنتُ أرفض تذكير الأخت بارباره بأننا كبرنا في العمر، ولم تعد صحّتنا كما كانت قبل سنوات.
"أيّها الرّبّ الإله، نريد أن نحيا زمن الصوم هذا في صدقِ كلامكَ، فأعطنا، يا ربّ، أن نكون شفّافين لروح المسيح، وأن نتمكّن من مشاركة إخوتنا، والتّفتّح على سعادتهم بالمسيح يسوع الذي بعد أن جعل نفسه خادم الجميع، يقاسمكَ المجد إلى دهر الدهرين. أيّها الإله العظيم، يا مَنْ بموت مسيحه المُحيي نقلنا من الموت إلى الحياة، أعتقْ، يا ربّ، جميع حواسّنا في هذا الصوم الخمسيني المبارك، مُنقّيًا لها ومقيمًا لها الوعي الداخلي مرشدًا ومعلّمًا: أمّا بصرنا، فلينتقِ من كلّ منظر غير لائقٍ بأبناء الله المُخلّص، وأمّا لساننا، فليتنزّه عن الكلام غير اللائق. طهِّر، يا ربّ، شفاهنا وأيادينا من دَنَس الخطية، لنُسبّحكَ، ونقدّم تقادُمنا بكلّ خشوع، ولنستقبل قربانكَ المقدّس في قلوبنا المستعدّة". آمين.
كنتُ قد لذتُ بالقلاية في هذا اليوم لأجل المزيد من الصلاة والتّدبّر. لكن الأمّ كلاوديا أعلنتْ ضرورة أن أقطع خلوتي، وجاءتْ بنفسها، وطلبتْ منّي أن أستعدّ، لأن لديّ يومًا عصيبًا. وقبل أن أفهم شيئًا، طالبتْني بأن أتبعها.
في بهو الدَّيْر في الأسفل، وجدتُ الأخوات جميعًا يقفنَ في أرديتهنّ السوداء، وبعضهنّ يبكينَ. وأخبرتْني الأمّ كلاوديا أن بعض الراهبات اللائي كنّ قادمات للدِّيْر من أحد أديرة مصر القديمة في صحبة ثلاث فتيات يتامى، قرّرنَ أن يصبحنَ مساعدات في الدَّيْر، تعرّضنَ لطلقٍ ناري، وقد استُشهدتْ واحدة من الأمّهات بعد إصابتها بعيار ناريّ في رأسها.
أخبرتْنا أنها ستذهب للمشاركة في مراسم صلوات التجنيز، وأصرّتْ أن نبقى جميعًا في الدَّيْر، والصلاة على روحها هنا، لكي ننتظر الفتيات المساعدات، لأنهنّ في الطريق مع حراسة مشدّدة.
عقلي يرفض ما سمعه، فلم يكن في إمكاني أن أفهم السبب الذي يمكن لأجله أن تتعرّض أمّهات مؤمنات ومقدّسات لا علاقة لهنّ بشرور العالم كلّه، لحوادث بشعة كهذه. فأيّ شرّ يفكّر في إثم كهذا؟
"يا أمّ مُخلِّصنا المباركة، والتي اشتركتِ في آلام ابنكِ الحبيب عندما أهرق دمه المقدّس، وأخذ من أجلنا اسم يسوع، احصلي لنا بواسطة هذا الاسم العجيب على الطلبات التي نقدّمها في هذه الساعة، ونرجوكِ، يا أمّنا أن تطبعي فينا حبّ هذا الاسم العجيب "يسوع" في قلوبنا حتّى يملأ دائمًا عقولنا، وتنطق به شفاهنا، ويكون دفاعًا لنا في التجارب، وملجأ لنا في الخطر في أثناء حياتنا، ومعزّيًا لنا وناصرًا لنا في ساعة الموت .. آمين".
غالبَني الشعور بالبكاء، وأحسستُ في لحظة بأن شيئًا غريبًا لا أعرفه يدور هناك في ذلك العالم الذي جئتُ منه، ولا أعرف عنه شيئًا. أهو شرّ يريده بنا المسلمون؟ أم هو شرّ مطلق، لا ينجو منه الضعفاء أيًّا كانت دياناتهم.
وتداعت لمخيّلتي فجأة صورة فتاة صغيرة، حلمتُ بها أكثر من مرَّتَيْن خلال الأيّام السابقة. هل تكون إحدى اليتيمات القادمات إلينا؟ ولكنْ، لماذا أحلم بها وأنا لا أعرفها؟
انتبهتُ على صوت "الأمّ بارباره" وهي تدعونا للذهاب إلى الكنيسة بسرعة لإقامة قدّاس على روح الشهيدة التي كانت ستكون بيننا هنا، لولا الحدث الرهيب الذي تعرّضتْ له.
وبينما كنّا في الطريق إلى القُدّاس سمعنا جلبة على الباب، وارتجف قلبي رعبًا، ولا أعرف لماذا. لكن الأصوات ظهرتْ تدريجيًا، فقد كان أحد الكَهَنَة الذين رافقوا المساعدات إلينا قد جاء ليُوصلَهم بنفسه، ويتأكّد من إجراءات حراسة الدَّيْر.
وشدّد على الحرّاس ألا يفتحوا الباب تحت أيّ ظرف، حتّى تأتيهم تعليمات جديدة من الضبّاط المسؤولين. وطلب من الأمّ كلاوديا أن ترافقه إلى القاهرة، لكي تؤدّي مراسم الصلاة على روح الشهيدة الراحلة.
رأينا الفتيات الثلاث، فاستقبلنهنّ بالأحضان. بكينَ بينما ظلّت وجوههنّ شاحبة وصفراء. وكان علينا أن نؤخّر موعد القُدّاس قليلًا حتّى نتمكّن من طمأنة الفتيات، وقد تولّت "الأمّ بارباره" الأمر، وجلستْ معهنّ، لتقدّم لهنّ موعظة.
ولا أعرف كيف مرّت ساعات هذا اليوم الحزين علينا جميعًا، لولا الصلوات التي لم نتوقّف عنها جميعًا طَوَال اليوم.
مفتاحُ الحياة
الحياة التي كانت تهرب منّي جاءت إليَّ اليوم على قَدَمَي فتاة شابّة، جميلة، قابلتُها في بيت الخلوة. كانت تتأمّلني بفضولٍ، لا يخلو من العاطفة. باركتُها وسألتُها عن حاجتها، فقالتْ لي إنها جاءت من طرف فتاة، اسمها "ماريان"، وإن تلك الفتاة هي ابنة خالي، وإنها قد عرفت التفاصيل كلّها التي جعلتْني أفقد الذاكرة، والتي أيضًا جاءت بي هنا إلى الدَّيْر.
خَفَقَ قلبي، وساورني إحساس بالتّوتّر. لم يكن لديّ أيّ سبب يجعلني أشكّ في هذه الفتاة. ولكني تلفَّتُّ حولي بخوف. لم أعرف ما الذي ينبغي عليّ أن أفعل. هل من حقّي أن أعرف شيئًا عن ماضيّ الذي نسيتُهُ ببركة الرّبّ؟ وحتّى لو أُتيح لي، فما جدواه وقد كرّستُ حياتي في خدمة الرّبّ للأبد؟
تذكّرتُ الطفلة التي حلمتُ بها مرّة أخرى، أتكون هذه الفتاة هي تفسير الحُلم؟ أيريد الرّبّ أن أعرف ماضيَّ حقًّا؟
سألتُ الفتاة لماذا لم تأتِ ماريان بنفسها؟ فقالتْ إنهم في الدَّيْر لو عرفوا أنها من الأقارب، فسوف يمنعون الزيارة، ولأسباب أخرى لا ترغب في أن تقولها الآن. ولكنها سلّمتْني ظرفًا، أخرجتْهُ من حقيبتها بعناية، وقالتْ إن كلّ ما تودّ ماريان أن تُخبركِ به قد كتبتْهُ لكِ.
وقبل أن تنصرف سألتْني أن أصلّي لأجلها ولأجل ماريان. تمنّيتُ لها السلامة، ووعدتُها بذلك.
أخفيتُ الخطاب، وذهبتُ إلى الغرفة أوّلًا، ووضعتُهُ بين أغراضي، ولكني أحسستُ بفقدان الفضول في معرفة الأمر. ماذا سيجدي لو عرفتُ شيئًا عن حياتي؟ هل سأترك الدَّيْر من أجل شيء أو أحد ما؟ لا أظنّ. ثمّ إني بعد هذا العمر الطويل كلّه الذي عرفتُ فيه نفسي عروسًا للرّبّ، ومكرّسة لخدمته، هل لا يزال لديّ وقت، لكي أفكّر في تفاصيل حياة انفصلتُ عنها تمامًا، بالقدر وبوجودي في بيت الرّبّ؟
في النهاية، إذا كنتُ قد جئت هنا بمعرفة مَنْ جاؤوا بي إلى هنا قبل 25 عامًا، فما الذي يُذكّرهم بي الآن؟!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.