تداولت عدة جهات سواء عربية أو أجنبية وكذا منظمات وهيئات إعلامية فلسطينية عديدة أنباء عن سعى إسرائيل إلى إبرام صفقات مع شركات كبرى للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل غزة، فيما تواصل حربها على حركة حماس فى القطاع الفلسطينى المحاصر. وقال مركز الميزان لحقوق الإنسان ومقره غزة إن وزارة الطاقة الإسرائيلية منحت تراخيص لست منشآت إسرائيلية وشركات عالمية للتنقيب الاستكشافى عن الغاز الطبيعى فى المناطق التى تعتبر بموجب القانون الدولى مناطق بحرية فلسطينية. ولفت بيان هذه المنظمة غير الحكومية، التى تتمتع بصفة استشارية خاصة للمجلس الاقتصادى والاجتماعى للأمم المتحدة، إن من بين تلك الشركات: إينى الإيطالية (Eni S.p.A)، دانا بتروليوم البريطانية (Petroleum Dana)، وراسيو بتروليوم الإسرائيلية (RatioPetroleum)، مشيرة أيضًا إلى أن منح تلك التراخيص تم بموجب «جولة المناقصات البحرية الرابعة (OBR4)، التى أطلقتها وزارة الطاقة والبنى التحتية الإسرائيلية فى ديسمبر/كانون الأول 2022». وعلى عمق أكثر من 600 متر تحت سطح البحر، مقابل ساحل غزة، يرقد أحد أسرار الحرب المستمرة فى القطاع منذ أشهر: «مارين غزة» حقل الغاز الذى يبدو الوصول إليه واستثماره، واحدًا من أبرز أسباب الحرب المستمرة فى القطاع منذ أشهر، وهى حرب تجاوزت فى أعداد ضحاياها، ومستوى الدمار والقتل العشوائى فيها، كل حدود الحروب السابقة؛ ما دفع إلى الاعتقاد أن ما تريده إسرائيل فى الواقع هو إفراغ القطاع من سكانه. كان واضحًا منذ الأيام الأولى للحرب أنها تتجه لتكون مغايرة عما سبقها من حروب، من حيث مدتها، وعدد الضحايا الذين تجاوزوا 30 ألفًا، وبعد بدء القصف على غزة بدا لكثيرين أن إسرائيل ماضية فى إعادة احتلال القطاع، وأن الأهداف المعلنة كانت تخفى أهدافًا أبعد. كلمة السر قبل أقل من شهر على بداية الهجوم الذى شنَّته حماس، أعلنت السلطة الفلسطينية أنها ستوقع اتفاقية بشأن حقل «غزة مارين» البحرى مع شركة مصرية، وخلال 5 أيام على الأكثر، إلا أن الاتفاق، وكما كان يجرى خلال أكثر من عقدين، لم ير النور حتى الآن، بل إن الجانبين المصرى والفلسطينى أعلنا فى ال10 من أكتوبر الماضى، وبعد ثلاثة أيام على هجوم حماس تأجيل توقيع الاتفاق حتى أجل غير مسمى. كان واضحًا أن الحرب ماضية لتحييد كل اتفاق، لتبدو إعادة احتلال القطاع مع «تهجير» سكانه، الاحتمال الأكبر، حسب تحذيرات بضع دول عربية ودولية. ما الذى يدفع إسرائيل كى تتحمل كل تلك الخسارة فى أعداد قتلاها من الجنود؟ إضافة إلى عدم الالتفات إلى حياة الرهائن لدى حماس، رغم كل الضغط الداخلى، وإضافة أيضًا إلى الخسائر المادية التى قدر «بنك إسرائيل» أن تصل إلى نحو 60 مليار دولار، فى نهاية العام الحالي؟ يكرر المسئولون الإسرائيليون أن تصفية حماس، هى الهدف، لكن صرخات التحذير من «تهجير الفلسطينيين»، و«إفراغ القطاع من سكانه» و«الإبادة الجماعية» كانت تشير إلى ما هو أبعد، وهناك من يقول إن الوصول إلى شواطئ غزة، وما تحويه سواحلها يعد واحدًا من أبرز أسباب الحرب. الحقل الهدف عام 1999 أظهرت دراسة لشركة «بريتش غاز» البريطانية أن سواحل غزة غنية بالغاز، وأبرمت عقدًا مع السلطة الفلسطينية للاستثمار فيها، ومضى الاتفاق فى أولى خطواته، رغم اعتراض تمثل وقتها فى التماس قدمته شركتان إسرائيليتان إلى المحكمة العليا فى إسرائيل، لمنع السلطة الفلسطينية من ذلك الاستثمار، بدعوى أنها لا تمثل دولة ذات سيادة، إلا أن المحكمة رفضت الالتماس. بعد أشهر على الاتفاق، وفى عام 2000، أظهر مسح الشركة البريطانية وجود حقل «مارين غزة1»، ثم «مارين2»، وباحتياطيات من الغاز عالى النقاوة، تفوق حاجة الفلسطينيين، بل يمكنهم تصدير فائض منها، وتحقيق عوائد كبيرة. بقيت «بريتش غاز» تدرس الجدوى الاقتصادية، وأبرز ما فيها تأمين مشتر للغاز، حسب المعلن من المفاوضات آنذاك، ودخلت إسرائيل فى مفاوضات مع بريطانيا عبر الشركة، إذ إنها كانت المشترى الأقرب، وكان ذلك الخيار الأقل تكلفة. لكن إسرائيل التى كانت فى حاجة كبيرة إلى الغاز، قبل اكتشاف حقول أخرى فى المتوسط، وأهمها حقل «لوثيان» الأكبر والأغنى، كانت أيضًا لا تريد للفلسطينيين أن يحصلوا على مصدر دخل يضمن لهم مزيدًا من القوة والاستقلالية، وبين الخيارين كانت مصلحة إسرائيل تتأرجح. فى سبتمبر من ذلك العام اندلعت «انتفاضة الأقصى»، ولحقتها الانتفاضة الثانية عام 2002، وتعطل مشروع بدء الاستثمار، وقررت الحكومة الإسرائيلية برئاسة أرئيل شارون وقف العمل فى الحقل، واتهمت الرئاسة الفلسطينية آنذاك ممثلة بالرئيس ياسر عرفات بأنها ستحول عائدات الحقل إلى «دعم الإرهاب»، وهو موقف تعزز بعد الانسحاب الإسرائيلى من القطاع عام 2005. رغم ذلك، فلم تنقطع المفاوضات، وسط حاجة إسرائيل ومصلحتها فى شراء غاز بأسعار زهيدة، يقابلها تخوف من زيادة قوة الفلسطينيين، لكن سيطرة حركة حماس على القطاع عام 2007، أدت إلى رسم مسار سياسى جديد، كان من نتائجه تعطيل المفاوضات بشأن استثمار الحقل، وقررت الشركة البريطانية الانسحاب. عام 2010 اكتشف حقل لوثيان، وباحتياطات تزيد على «حقل مارين بنحو 17 ضعفًا، إذ قدرت بنحو 18 تريليون قدم مكعبة، وهو ما جعل ضغط الحاجة إلى الغاز أقل، ومنح إسرائيل إمكانية أكبر فى التفاوض بشأن «غاز غزة» وفى تأخير استثماره. حرب واستثمار سنوات كان فيها استثمار غاز غزة، يقبع فى ثلاجة مفاوضات لم تثمر، حتى أعلنت إسرائيل أنها وافقت مجددًا على استثمار الحقل وأعطت الضوء الأخضر لتطويره، فى يونيو عام 2023، وقبل أشهر على الحرب المدمرة فى القطاع، إلا أنها اشترطت «تنسيقًا أمنيًّا» يحافظ على احتياجاتها فى المستويين الأمنى والدبلوماسى، وعلى أن يبقى بيد السلطة الفلسطينية، لا حماس. وفى ال13 من سبتمبر، أى قبل نحو شهر على الحرب، عاد حقل مارين إلى الضوء بالإعلان عن اتفاق مصرى فلسطينى لاستثماره، وهو اتفاق سرعان ما تم الإعلان عن تأجيله «حتى أجل غير مسمى» بعد أيام على بدء الحرب. دخان القصف، الذى لم ينج منه مكان فى غزة، حتى مؤسسات الأممالمتحدة، كان يحجب أيضًا الأهداف الحقيقية لتلك الحرب، ومن أبرزها إعادة السيطرة على غزة، لاستكمال السيطرة على سواحل البحر المتوسط التى أكدت المسوحات أنها تحوى كميات هائلة من الغاز ومنه ما لم يكتشف بعد. وهكذا وفى خضم الحرب، ومشاهد القتل التى هزت العالم، كانت إسرائيل تمضى فى استثمار غاز المتوسط، ومنحت فى ال29 من أكتوبر الماضى 12 رخصة عن الغاز لست شركات، بينها شركة «إينى» الإيطالية، التى ادعت عليها منظمات حقوقية فلسطينية وأنذرتها بعدم الدخول فى استثمار الغاز فى سواحل غزة، لأن ذلك يعد انتهاكًا للقانون الدولى، إذ إن تلك الحقول تعد مُلكًا للفلسطينيين. وردت الشركة (التى تستحوذ الحكومة الإيطالية على نسبة تزيد على 30 % منها) أنها حصلت على الترخيص فى أكتوبر الماضى، إلا أنها لم توقع أى اتفاق بشأن الاستثمار بعد. ورغم أن ما جرى شكَّل نوعًا من الإحراج للحكومة الإيطالية، فإنه ما كان ليظهر إلى الضوء لولا لجوء المنظمات الفلسطينية إلى الادعاء القانونى، وإثارة الأمر، على أنه انتهاك للقانون، خاصة أن اتفاقات أوسلو بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية، تمنح الأخيرة حق استثمار الموارد الطبيعية، رغم الوضع الذى تأزم فى القطاع منذ سيطرة حماس عليه. وسط كل ذلك، تثار المخاوف من أن ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه منذ بدء ردها على هجوم حماس، الذى تجاوز كلّ حدّ، هو قلب كل تلك المعادلات رأسًا على عقب، وإعادة القطاع ليس فقط إلى السيطرة الإسرائيلية بل إلى أن يكون خاليًا، ومدمرًا، بما يكفى ليكون تحت وصاية إسرائيلية تحدد مصيره وتستحوذ على كل ما فيه.