يُعَد الأزهر الشريف كيانًا عالميًا ذا صبعة دينية ووطنية، ولم تكن عالميته التى اشتهر بها فى نقل وسطية الدين ونشر تعاليم الإسلام الصحيحة حائلاً دون أداء دوره الوطنى فى مصر عبر فترات التاريخ الحديث.. فلم يغب الأزهر يومًا عن المشهد الوطنى فى دعم إرادة الشعب المصرى نحو التحرُّر الوطنى، فرُغْمَ أنه كان ولا يزال كعبة العِلْم فى العالم الإسلامى؛ فإن مصريته جعلت له دورًا وطنيًا فى دعم تحركات التحرُّر الوطنى منذ أواخر القرن السابع عشر عند قدوم الحملة الفرنسية على مصر؛ حيث استطاع أن يجمع تحت سماء جامعه العريق جميع طوائف الشعب الراغبة فى تحقيق التحرُّر للوطن، وعبر مختلف الأزمنة التاريخية كان للأزهر دورٌ بارزٌ فى جميع الأحداث والثورات السياسية التى تعاقبت على مصر والأمّة الإسلامية. دَورُ الأزهر فى التحرُّر الوطنى كان ملموسًا وبوضوح فى منهجه، وهو ما عبّر عنه الراحل الدكتور محمود عزب، مستشار شيخ الأزهر للحوار؛ حيث أعلن فى أكثر من لقاء «إن الأزهر يقوم بعمل وطنى كبير عُرف به فى اللحظات الفارقة فى تاريخ مصر، وعادة ما تكون له مواقف عندما تشهد مصرُ تغيرات ويأخذ دَورَ الانحياز للوطن»، وأكد «إن الأزهر هو الجامعة الأكاديمية للإسلام الوَسَطى المعتدل وله 3 دوائر: مصر الوطن، العالم العربى، والعالم». أضاف: إن الأزهر هو بيت الأمّة المصرية كلها بصرف النظر عن الدين أو المذهبية أو التوجه الفكرى. ويظهر فى اللحظات الفارقة. وقد ظهر فى الحملة الفرنسية وفى ثورة 1919 والثورة المصرية ثم ظهر فى حرب السويس ثم ظهر فى 25 يناير ولا يزال مستمرًا وهو مصمم على هذا الدور. بداية الدعم الأزهرى للتحرُّر ووفقًا لرصد العديد من الدراسات والوثائق التاريخية بدأ دَورُ الأزهر فى دعم التحرُّر الوطنى فى مصر عندما قاد المصريين ضد الحملة الفرنسية فى ثورة القاهرة الأولى عام 1798 ثم فى ثورة القاهرة الثانية عام 1800؛ فقد كان أهم ما تميز به دَور الأزهر الوطنى هو زعامته الشعبية أمام الاحتلال الفرنسى للقاهرة فى (8 صَفَر سنة 1213ه= 21 يوليو 1798م)، بعد هزيمة قوَّات مراد بك فى معركة إمبابة، وفى رحابه خطَّط علماؤه لثورة القاهرة الأولى. وفى أعقاب ثورة القاهرة الثانية، ووفق ما جاء بموقع «ذاكرة الأزهر»، تعرَّض كبارُ علماء الأزهر لأقسَى أنواع التعذيب والألم، وفرضت عليهم الغرامات الفادحة، وبيعت ممتلكاتهم وحُلىّ زوجاتهم الذهبيَّة استيفاءً لها؛ حيث علماء الأزهر وطلابه أبشع وسائل الانتقام؛ حيث فرض كليبر غرامة وصلت إلى 12 مليون فرنك، كما طالب علماء الأزهر بأداء نصيب موفور منها. كما اعتقل الشيخ السادات وزوجته، وصودرت أملاكه ومرتباته وأوقاف أسلافه وبقى معتقلًا حتى أفرج عنه فى عهد الجنرال مينو فى 25 صَفر 1215ه/19 يوليو1800م. وعقب مقتل كليبر فجع الأزهر فى بعض طلبته وفى مقدمتهم سليمان الحلبى، وبينما كان الاحتلال الفرنسى يلفظ أنفاسه الأخيرة حتى صدرت الأوامر باعتقال شيخ الأزهر الشيخ عبدالله الشرقاوى، وبعد خروج الفرنسيين قاد الأزهر وعلماؤه رغبة الشعب فى حُكم أنفسهم بأنفسهم.. وتزعَّم الأزهرُ الحركة الوطنيَّة إبَّان الاضطرابات السياسيَّة التى أعقبت خروج الحملة الفرنسيَّة.. ثم أعقب ذلك تحرُّك الأزهر فى ثورة 1805 والذى يعدها البعضُ من أهم الثورات الأزهرية التاريخية حين اختار علماء الأزهر محمد على واليًا على مصر. التحرُّر من الاحتلال الإنجليزى وفى ثورة 1919 كان الأزهر وعلماؤه داعمين للحركة الوطنية المصرية ضد الاحتلال الإنجليزى، وكان طلبة الأزهر فى مقدمة الطلاب المصريين بل إن قائد الثورة نفسه سعد زغلول كان من رجال الأزهر الذين تعلموا وتخرجوا فيه. فقد قاد الأزهريون ثورة أحمد عرابى التى انتهت بالاحتلال الإنجليزى لمصر بعد إخفاقها. وأصدر شيخ الأزهر محمد الإنبابى الشافعى وعدد من العلماء أصدروا فتوى بأنّ «الخديوى [توفيق] مرق من الدين مروق السهم من الرّمية؛ لخيانته فى دينه ووطنه وانحيازه إلى الجيش المحارب لبلاده»- كما جاء فى كتاب «هيئة كبار العلماء 1911-1961» للباحثة زوات عرفان المغربى. وأفتَى الشيخ حسن العدوى المالكى (1303ه/1885م) بعدم طاعة الخديوى فقال: «إنه بأمر الله ورسوله لن تطاع أوامر الخديوى، وأن الوقت قد حان لنشوب حرب مقدسة». وبعد هزيمة الثورة العُرابية نُفى الشيخ محمد عبده، وعُزل الشيخ الإنبابى، وألغِيت امتيازات كل الأزهريين الذين شاركوا فى الثورة أو تعاطفوا مع الخديوى. ووفْق فيلم وثائقى للأزهر بعنوان (عمائم لله والوطن والحرية)، تم إنتاجه من مشيخة الأزهر عام 2019؛ فإن الأزهر بعد اعتقال الاحتلال الإنجليزى للزعيم الوطنى سعد زغلول ورفاقه أصبح الأزهر معقلاً للحركة الوطنية، وفتح أبوابه للثوار من مختلف أطياف المجتمع المصرى؛ حيث اتخذوه مقرًا لاجتماعاتهم، ومنطلقًا لمظاهراتهم ضد الاحتلال الإنجليزى، وتحت سقفه كانوا يبيتون جميعًا طوال أيام الثورة والكفاح، وعلى أبوابه سقط أول شهيد منهم، وكان من أبناء الأزهر. ويلفت الفيلم إلى أن منبر الأزهر أضحَى منبرًا للثورة، فمن فوقه خطب الشيخ والقسيس، وفى ساحته علا صوت المرأة بالخُطب والشعارات التى كانت تلهب حماس الشباب وتستنفر هممهم. موضحا أن التاريخ لن ينسى القمص مرقص سرجيوس، الذى عاش ثلاثة أشهُر داخل الأزهر، يخطب يوميًا فى الثوار، وكان يتناوب الخطابة مع الشيخ القاياتى حتى ضاق بهما الإنجليز ذرعًا فنفوهما معًا إلى رفح. كما يشير الفيلم إلى أبرز علماء الأزهر الذين قادوا هذه الثورة، مثل الشيخ على سرور الزنكلونى، والشيخ عبدالباقى سرور، والشيخ أبوالعيون، والإمام الأكبر الشيخ محمد أبوالفضل الجيزاوى، الذى حاول الإنجليز الضغط عليه لإجباره على إغلاق الأزهر أمام الجماهير فرفض رفضا قاطعًا. وظل الأزهر يقود مقاومة مصر للاحتلال حتى ثورة يوليو 1952؛ حيث حدث تطور عظيم فى الأزهر الشريف، ففى عام 1961 قام الرئيس جمال عبدالناصر بقرار تطوير الأزهر وتحويله إلى جامعة تدرس العلوم المدنية مع العلوم الشرعية مثل الهندسة والطب والعلوم واعتقد بعض المشايخ أن هذا يخرج الأزهر عن رسالته الشرعية فى الحفاظ على علوم الدين، فيما كان «عبدالناصر» له هدفٌ آخر من وراء هذا التطوير، وهو مواجهة النشاط الثقافى والتعليمى والدينى؛ حيث كانت فكرة عبدالناصر تدور حول أن يذهب الطبيب الأزهرى والمهندس الأزهرى والمدرس الأزهرى وهكذا ليقوموا بالدورَيْن، أى الدعوة من خلال الخدمة وتلبية احتياجات الناس. ثورة يوليو والأزهر وعلى عكس ما يروج له من أن ثورة 23 يوليو لم يتفق معها علماء أزهريون يؤكد الأزهر الشريف فى كثير من بياناته أن ثورة 23 يوليو المجيدة هيأت الطريق للمصريين فى استرداد ممتلكاتهم ومقدراتهم، وانتصرت للفقراء والمهمشين، وضربت أروع الأمثلة فى تلاحم الشعب مع قواته المسلحة من أجل تحقيق تطلعات وآمال المصريين، مشيدًا بالدور الذى يقوم به الجيش المصرى فى مواجهة ما يحدق بالوطن من تهديدات وأخطار. كما أن شيخ الأزهر د. أحمد الطيب أكد فى العديد من بياناته الخاصة بذكرى ثورة 23 يوليو على الدور الكبير الذى قام به جيش مصر فى الحفاظ على أمن واستقرار الوطن على مدى سنوات طويلة؛ حيث جاءت مواقفه دائمًا لإرادة الشعب المصرى فى مواجهة كل ما أحدق بالوطن من مخاطر، مشددًا على ضرورة تلاحم الشعب المصرى واصطفافه خلف قواته المسلحة فى معركتها ضد قوَى التطرف والإرهاب حتى تحقيق النصر واجتثاث هذا الإرهاب الأسْوَد من جذوره والقضاء عليه. فيما يرى د. شوقى علام مفتى الجمهورية، أن السنين التى مضت على ثورة يوليو أظهرت الحقيقة الثابتة لانحياز الجيش المصرى لمصلحة شعبه، وأكدت فى المقابل ثقة الشعب المصرى بقواته المسلحة قادة وضباطا وأفرادًا، بما يمثل الحقيقة التى تدعمها الأيام وتزيدها العقود الزمنية ثباتًا فى أعماق الأرض المصرية كالشجرة الطيبة التى تؤتى أكُلها كل حين بإذن ربِّها. 2 3 4 5