يُخطئ من يتصور أن منتدى شباب العالم مجرد مناسبة يلتقى فيها آلاف الشباب على أرض مصر بهدف الترويج السياحى، أو استعراض الإنجازات التى تتحقق فى بلادنا، أو حتى مجرد محاولة لتغيير الصورة الذهنية عن دولة كبيرة عاشت سنوات عجافًا، نالت – من ضمن ما نالت – من صورتها الذهنية ورؤية العالم لها، سواء كان ذلك بفعل التداعى الطبيعى للأحداث، أو بفعل فاعل فى كثير من الأحيان. منتدى شباب يمكنه أن يحقق كل تلك الأهداف مجتمعة، لكنها ليست - فى تقديرى - سوى أهداف ثانوية أو فى مرتبة تالية إذا ما وضعنا المنتدى فى سياقه الصحيح كأداة مبتكرة وغير تقليدية لبناء أدوات قوة الدولة الشاملة، وبخاصة على الصعيد الدبلوماسى، وبناء القوة الناعمة للدولة. وقد صار هذا النوع من القوة الناعمة يحتل مكانة بارزة فى أنشطة الدول الراغبة فى شغل مكانة لائقة عالميًا، فى عالم تتحكم فى بنائه الأفكار أكثر من الثروات، وتُقاس قيمة الدول برأس مال الموهبة والفكر Talentism، بعدما كان رأسمال الثروة Capitalism هو معيار تقييم القدرة على القيادة. نجاحات متوالية والحقيقة أن النجاحات المتوالية التى تحققها النسخ المتعاقبة من منتدى شباب العالم، انطلاقًا من نسخته الأولى عام 2017، وصولًا إلى نسخته الرابعة خلال الشهر الحالى، تقطع، بما لا يدع مجالًا للشك، أن الرؤية الصائبة التى كانت وراء إطلاق هذا المنتدى استطاعت أن تحقق أهدافها، وأن تجعل من المنتدى – باعتراف الأممالمتحدة- أهم منصة شبابية فى العالم حاليًا، خاصة مع عودة إطلاقه بعد توقف دام عامين بسبب تداعيات أزمة فيروس كورونا. فمن يتأمل التزايد المطرد لأعداد المشاركين، من النسخة الأولى (3 آلاف مشارك)، ثم الثانية (5 آلاف)، والثالثة (10 آلاف)، وصولا إلى تجاوز عدد المسجلين من راغبى المشاركة حاجز النصف مليون مواطن من 196 دولة حول العالم، يتأكد أن رسالة المنتدى استطاعت بالفعل الوصول إلى كل أصقاع الدنيا، وبات اسم المنتدى وسمعته تجوب كل قارات العالم، وهذا إنجاز كبير يستحق فى حد ذاته الإشادة والتقدير. ولا تقتصر الأدلة على رسوخ مكانة المنتدى كأبرز المنصات الشبابية العالمية فقط على تلك الزيادة العددية للمشاركين من نسخة إلى أخرى؛ بل يتوازى مع ذلك تنامٍ مطرد للمحتوى المقدم فى المنتدى، سواء ما تتضمنه الأجندة الرسمية للنسخ الثلاث السابقة، والنسخة الرابعة الحالية، وارتباط تلك القضايا والموضوعات بشواغل عالمية حقيقية، تتزايد الرغبة الملحة لتحقيق توافق حولها، وتعزيز قيم الحوار العالمى رسميًا وشعبيًا بشأنها، أو على مستوى الفعاليات المصاحبة للمنتدى، بما يعكس ثوابته الثلاثة التى أعلنها منذ النسخة الأولى، وتم التعبير عنها فى شعار المنتدى: «السلام.. التنمية.. الإبداع». ويضاف إلى ذلك التصاعد الملموس فى مشاركة قادة الرأى والملهمين والمؤثرين من مختلف أنحاء العالم فى المنتدى، واعتبار ما يمتلكونه من مقومات فكرية وتجارب ملهمة لغيرهم، فضلا عن قصص نجاحهم المختلفة فى كل مجالات الحياة، هى جواز المرور للمشاركة فى فعاليات المنتدى، وهو ما أسهم فى تعزيز مكانة المنتدى كمنصة للحوار والتفاعل، وكذلك لتبادل الرؤى والأفكار بين أبرز المؤثرين فى العالم، الأمر الذى بات يمثل دعما مقدرا على المستوى الدولى لفكر ريادة الأعمال، وإرساء النماذج الفكرية المنسجمة مع قيم الانفتاح والتفاعل العالمى،دون التقيد بحدود جغرافية أو مكانية. صوت مصر فى العالم وإذا كانت أجندة القضايا التى تحملها نسخ المنتدى الثلاث، وتؤكدها أجندة النسخة الرابعة تحميل صبغة عالمية واضحة، فإنها وللحقيقة تحمل أيضًا رؤية مصرية صادقة، وتعزز صوت الحكمة المصرية كى يصل إلى آذان وعقول العالم عبر آلاف المشاركين ومئات الجلسات والمتحدثين. فمن ينظر إلى أبرز القضايا التى تضمنتها النسخ السابقة للمنتدى يدرك أن الصوت والرؤية المصرية كانا هما «النول» الذى «غُزلت» عليه قضايا الحوار، فضلا عن أن المنتدى كان بمثابة ظهير سياسى عالمى لثوابت السياسة الخارجية المصرية، وأضرب هنا مثالين واضحين فى هذا الصدد، وهما تعزيز التعاون مع إفريقيا، وحشد الدعم الدولى لمكافحة الإرهاب. وقد عكست أجندة النسخ الثلاث السابقة بوضوح حجم الاستفادة المصرية من أجواء منتدى شباب العالم، فكان لشباب إفريقيا النصيب الأكبر سواء من بين المشاركين أو المتحدثين، أو من المستفيدين من المنح الدراسية والتدريبية التى أوصى المنتدى بتوفيرها للشباب الإفريقى من خلال البرامج الرئاسية لتأهيل الشباب، أو الأكاديمية الوطنية للتدريب، وهو دور يصب باقتدار فى تقوية القوة الناعمة المصرية، وتعزيز الحضور المصرى فى عقل ووجدان إفريقيا عبر أغلى ما تملك وهو ثروتها البشرية. وأسهم الاهتمام الكبير بالحضور الإفريقى فى المنتدى، والدعم الرئاسى غير المسبوق لفعاليات المنتدى وحضور مختلف جلساته، والتجاوب الفورى من مختلف أجهزة الدولة المصرية مع توصيات المنتدى فى استعادة وجه مفتقد للحضور المصرى إفريقيًّا، وهو الحضور على المستوى الشعبى، والتأثير المعنوى العميق فى العقل الإفريقى، وقد تعرض هذا الدور على مدى عقود طويلة، وربما منذ نهاية الحقبة الناصرية لحالة من الضمور والتصحر والتراجع الواضح، الأمر الذى انعكس على تقلص حجم ومساحة الدور المصرى فى القارة السمراء، وبالتالى إفساح المجال أمام دخول قوى إقليمية غير إفريقية لشغل الفراغ الذى خلفه الانسحاب المصرى،أو محاولة قوى إفريقية الإضرار بالمصالح المصرية، وبخاصة فى مناطق مصالحها الأساسية فى جنوب وشرق حوض النيل. نموذج ملهم القضية الثانية التى تمثل إضافة كبيرة للمكاسب المصرية من منتدى شباب العالم، تتجسد فى قضية مكافحة الإرهاب، وهى القضية التى احتلت أولوية واضحة على أجندة السياسة المصرية داخليًا وخارجيًا، واستطاعت مصر أن تحظى بمكانة دولية متقدمة فى قيادة الجهد الدولى لمكافحة الإرهاب؛ ليس فقط استنادًا لما قدمته من تضحيات بشرية فى المجابهة الأمنية والعسكرية ل«طيور الظلام»، ولكن الأهم لما امتلكته من ترسانة فكرية ورصيد روحى يندر أن يتوافر لدولة غيرها فى العالم، فضلا عن جبهة داخلية متماسكة وإرادة رسمية وشعبية حاسمة فى التخلص من تلك الآفة القاتلة، وهو ما مكَّن مصر من أن تكون نموذجًا ملهمًا للكثير من دول المنطقة والعالم فى مكافحة الإرهاب. وكانت نسخ المنتدى الثلاث السابقة ساحة مهمة لحشد ظهير شعبى عالمى للرؤية المصرية فى مجال مكافحة الإرهاب، ومساندة شبابية هائلة للطرح المصرى باعتبار مكافحة الإرهاب حقًا من حقوق الإنسان، وهى العبارة التى ذكرها الرئيس عبدالفتاح السيسى فى إحدى مداخلاته بالمنتدى، وتحولت بعدها لتكون من بين المبادئ المعتمدة من جانب مؤسسات أممية وحقوقية لها قيمتها فى العالم. سن النضج ومن يقرأ بتمعن أجندة النسخة الرابعة لمنتدى شباب العالم، سيدرك كيف استطاع هذا المنتدى، الذى يقوم على تنظيمه وإدارته عقول مصرية شابة، أن يصل سريعًا إلى سن النضج، وقدرته على تحقيق التوازن بين الشواغل المصرية والإقليمية والعالمية، وصياغة مجموعة من الفعاليات وموضوعات الحوار التى تحشد رأيًا عامًا عالميًا فى قضايا ينبغى أن تكون لها الصدارة فى المرحلة المقبلة، وأعنى هنا قضايا مثل تغير المناخ، وحقوق الإنسان، والحماية الاجتماعية، وتأثيرات ما بعد كورونا، فضلا عن الفعاليات الإبداعية التى باتت سمة مميزة للمنتدى، وتقدم رؤية شبابية متحررة ومنطلقة للكثير من قضايا العالم بمختلف أدوات وصور التعبير. وأتصور أن النسخة الرابعة من منتدى شباب العالم ستحظى باهتمام دولى أكبر من مثيلاتها السابقة، ليس فقط لأنها ربما تكون أول وأكبر قمة من نوعها فى مرحلة ما بعد الجائحة الكوفيدية؛ ولكن لأنها ستمهد الطريق أمام مجموعة من القضايا ذات الأولوية لتجد موقعها اللائق فى صدارة أجندة الاهتمام العالمى.. وأشير هنا إلى قضيتى تغير المناخ وحقوق الإنسان، فقضية تغير المناخ وما سيجرى بشأنها من نقاشات ومداولات ستجد - بكل تأكيد- صدى واسعًا على طاولة مداولات قادة العالم، عندما يأتون إلى نفس المدينة التى تحتضن المنتدى، شرم الشيخ، ليبحثوا فى قمتهم العالمية Cop27، بعد أشهر معدودة مستقبل العالم، فى ظل تحولات الطبيعة التى لا يبدو أنها تكن كثيرا من الرضا عما يفعله الإنسان بها. كما أن قضية حقوق الإنسان، التى ستحتل نقاشات واسعة فى أروقة النسخة الرابعة، سواء فى الجلسات، أو من خلال نموذج المحاكاة لآليات عمل المجلس الدولى لحقوق الإنسان، هى بالفعل جديرة بأن تكون فى صدارة اهتمامات العالم فى المرحلة المقبلة؛ ليس فقط بسبب اتساع الهوة بين الرؤيتين الغربية وغير الغربية لتلك الحقوق، بل فى ظل ما كشفته جائحة فيروس كورونا من هشاشة وزيف لكثير من الشعارات الحقوقية، والتركيز غير المتوازن على القضايا السياسية والمدنية، فى مقابل التهوين من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التى باتت هى أكثر ما يحتاجه «إنسان ما بعد كورونا». بل إن ذلك النقاش الشبابى المتعمق لاختلالات منظومة حقوق الإنسان العالمية لا بُد سيتوقف أمام الكثير من الشوائب التى لحقت بالشعارات التاريخية (الحرية، المساواة، الإخاء) التى رفعتها الثورة الفرنسية وصارت فيما بعد أساسا لمنظومة حقوق الإنسان فى العالم، إلا أن تلك الشعارات التاريخية، دُهست تحت أقدام الجائحة، وكانت الأقدام الغربية أول من دهسها وتناساها خلال طوفان الفيروس التاجي!! أثق أن منتدى شباب العالم فى نسخته الرابعة سيكون مناسبة فارقة، وسيحمل الكثير من الرؤى التى أتمنى أن يُحسن العالم الإنصات إليها، فما أحوج العالم اليوم إلى الاستماع لصوت الحكمة، ويبدو أن الحكمة فى عالم اليوم يصنعها الشباب. 1_copy 2 3 4