انتهت الامتحانات بسلام، كنت أحفظ بلا فهم، اللهم إلا بعض الأجزاء فى التاريخ والفلسفة، ولحُسن الحَظ أصابنى الشغف بالإنجليزية منذ صغرى، فأبليت فى امتحانها بلاءً حَسَنًا، إلا أننى جلست على كومة من اللهب حتى ظهرت النتيجة، فلم يتركنى والدى وزوجته لحالى، وسرعان ما تحولت العَلقات الساخنة؛ التى أُعاقبُ بها على رفضى العرسان، إلى ضرب يكاد يفضى للموت، لكننى قاومت حتى النفَس الأخير، بل وجدت نفسى أواجههما بسَوءاتهما، ولا أبالى بصفعاتهما المؤلمة، ولا حديثهما الفج، باتت أذناى من طين وعجين، حتى جاءت اللحظة الفاصلة. ذات صباح، طرَق أحدُهم باب منزلنا بشدة، تسارعت خطواتى تجاهه، فتحت البابَ لأجد المفاجأة، إنه مدير مَدرستى يقابلنى بضحكة واسعة، ويخبرنى بأننى حصلت على المركز الثالث فى ترتيب أوائل الثانوية على مستوى الجمهورية، وأصبحت الأولى على محافظتى، لم تحملنى قدماى وقتها، سقطت وأنا أردد «الحمدُ لله»، وأخذت دموعى تسيل كشلّال لا يهدأ. جاءت صورة أمّى فى عينى، تضحك وتحتضننى بشدة، حتى أفقت على زغرودة؛ خرجت من الحرباء زوجة أبى، بلا طعم، ووجدتها تجذبنى بشدة لأقف من جديد، وفجأة حاصرنا الناسُ من كل حدب وصوب، وتزايدت الزغاريد، والمباركات والقبلات، ونوبة بكائى لا تنتهى.. كم تمنيت أن تكون أمّى بجانبى تلك اللحظة؛ فلا فرحة فى غيابها. لم تَمُر ساعة، حتى وصل صحفيان إلى منزلى، أخذا يباركان تفوُّقى، ويجوبان بأعينهما أركان بيتى المتواضع جدّا، ثم نظرا لى بفخر، وسألا عن الكلية التى أنوى الالتحاق بها، بعد كسرى حاجز ال99%، كانت إجابتى «الإعلام» بالطبع.. وقتها فقط شعرت بأن حلمى يتحقق، ها أنا أُجرى حوارًا صحفيّا، وأصبحتُ حديث الساعة بين ليلة وضحاها، وفى بؤرة الضوء، بعدما عشت نسيًا منسيّا، ووسط هذا الانبهار، أبِى أبَى أن تمُر فرحتى مرور الكرام، لأجده يدخل البيت متسائلًا عمّا يجرى، وما إن علم، حتى فوجئت به ينهرنى، قائلًا: «ادخلى يا بنت الكلب البسى حاجة عليها القيمة». وللحق، لقد نسيت وسط الزوبعة المفاجئة؛ والمفرحة، أننى أرتدى عباءة سوداء يملؤها تراب المنزل، إلا أننى فى تلك اللحظات وجدت التمرّد يشع من أرجائى، لم ألتفت إلى حديث أبى وسبابه أصلًا، وأكملت حديثى مع الصحفيين؛ خصوصًا أننى كنت أتكلم عن دور أمّى فى هذا النجاح، الذى أهديته لروحها الطاهرة، وبلا منازع. تعمدتُ ألا أنطق كلمة عن والدى، الذى لم يكلف نفسه بتهنئتى حتى؛ بالتأكيد هو لا يستحق حرفًا واحدًا، فالفضل كله ل«ست الحبايب»، التى لو كانت على قيد الحياة، لزرعت الأرضَ زغاريد وضحكات، رحمها الله وأسكنَها فسيح جنّاته، بقدر جهدها فى سبيل سعادتى ونجاحى. لم ألتفت إلى ضرورة تغيير ملابسى، إلا بعدما بدأ الصحفيان فى تصويب الكاميرات تجاهى، لأجد نفسى أستأذنهما، وأهرول تجاه غرفتى الصغيرة، قلبتها رأسًا على عقب، حتى أخرجت فستانًا أهدته لى أمّى قبل وفاتها بشهريْن، فى عيد ميلادى السادس عشر، لم أرتدِه أبدًا من قبل، فكلما شرعت فى ذلك، تذكرت كلماتها عندما كنت أنوى لبسه، وهى تطالبنى بأن أتركه لمناسبة مهمة، وكأنها كانت تشعر بأن هذا اليوم سيأتى، وأرادت أن تشاركنى احتفالى بطريقتها، لدرجة أننى فوجئت بالفستان بلا طيّة واحدة، وكأن روحَها اعتنت به، حتى تأتى هذه اللحظة.. الله يا أمّى، آه لو احتضنتك الآن. خرجتُ من غرفتى بعد ارتداء الفستان، لأفاجأ بوالدى يتحدث للصحفيين الذين تضاعف عددُهم، بل أضيفت كاميرا تليفزيونية، رأيتها فى الأفلام فقط، فاقتربت أكثر لأسمع ما يدهشنى، كان الرجُل يتحدث عن دوره الكبير فى نجاحى، ويصف مقدار الراحة التى كان يوفّرها لى؛ كى أذاكر دروسى فى هدوء، ويؤكد أنه أنفق مبالغ ضخمة فى سبيل تفوُّقى.. ألهذه الدرجة أَصَرَّ على استغلالى عندما كنت ذليلة، ويستمر فى الاستغلال وأنا منتصرة أيضًا، اللعنة على السُّفَهَاء، لا أحتمل هذا الرّياء. كظمتُ غيظى بقدر ما استطعت، حتى سمعت الأدهَى، على لسان أبى، إنه ينفى وجود أى دور لأمّى فى نجاحى؛ لأنها ماتت قبل دخول الدراسة لهذا العام.. بهذه البساطة يمحو الرجُل كل شىء، بلا تفكير وبلا تقدير وبلا رحمة.. وسرعان ما توهّج البُركان بداخلى، وجدت نفسى فى لحظة قوة استثنائية، تحمست حد الثورة، اقتربت أكثر من الصحفيين، وانفجرت. قلت إن أبى كاذب، هو وزوجته عذّبانى كثيرًا، لم ينفقا علىّ مليمًا واحدًا منذ رحيل أمّى، ضربانى وأهانانى، وحوَّلانى إلى خادمة دون أجر، وفجأة دخلت فى حالة هستيريّة، صرخت بعلو صوتى: «أخرجونى من هنا لا أطيق العيش معهما، أخرجونى يرحمكم الله، سأموت لو أكملت الحياة فى هذا البيت، لا ترحلوا وتتركونى أرجوكم، أكرههما، أكره حياتى هنا». كانت فضيحة بكل المقاييس، سُجلت صوتًا وصورة؛ حيث وقف الجميعُ فى موقف لا يحسدون عليه، لا أحد يدرى ماذا يقول، حتى جاء الرد القوى، صفعة خاطفة من أبى، كادت تنتزع أسنانى، لأجد الدماء تتساقط من فمى على الفستان، جن جنونى لحد لم أتصوره قَط، أخذت أقفز فى الهواء، وأصرخ بكل ما أوتيت من قوة، وأضرب بيدى على وجهى، وأكرر: «أخرجونى من هنا، هذا الرجل سيقتلنى، أنقذونى، أكرهه». شغف الكاميرات لم يترك تلك اللحظات تمر دون تسجيل، ناهيك عن العَشرات المتواجدين بالمنزل، والذين تضاعفوا بعد وصول الفضوليين من أبناء قريتنا؛ على صوت صراخى، ولم تمُر ثوانٍ حتى وجدت العُمدة؛ يجتاز الباب المفتوح على مصراعيه، ويتجه مهرولًا نحوى، مفزوعًا من مَشهد الدماء التى أغرقت فستانى؛ ليتساءل عمّا حدث، وأنا أكرّر استغاثاتى وصرخاتى، وأخذ الحضور الكثيف يسردون ما وقع، على دوى عويلى؛ وحالتى تنقلب من سيئ إلى أسوَأ. ولأن العُمدة يعشق الكاميرات، ويعلم أيضًا مساوئ أبى المشهورة، وبالطبع وصل لمسامعه إهانات زوجته الحرباء لى فى الشارع.. قرّر التدخل لإنهاء هذه المهزلة، ليطلب من والدى السماح لى بمغادرة المنزل، حتى لا تتضاعف الفضيحة، على أن أنتقل إلى منزل سيدة مُسنة ووحيدة؛ لأمكث معها فترة لحين استقرار الأمور، وهدوء الأوضاع، ورُغْمَ رفض الأب القاطع، لكن العُمدة أصَرَّ بحزم يُحسَد عليه، وتوالى الضغط من الحضور، وتدخّل مدير المَدرسة والصحفيون. وهنا لم يجد أبى مفرّا، واضطر للقبول على مَضض، بينما زوجته تضع يديْها على خصرها، وتتمايل يمينًا ويسارًا ناظرة إلىّ باشمئزاز؛ لأرُدَّ بنظرة انتصار لم أشعر بحلاوتها من قبل، ولسان حالى يقول: الآن فقط أصبحتُ الأقوى، من تلك اللحظة لن يستطيع أحدٌ إهانتى، أو مد يده نحوى، الآن أخذت بعضًا من حقى وحق أمّى، وتبَقّى الكثيرُ. هرولتُ إلى غرفتى، وكأننى محكوم عليه بالإعدام سمع للتو نبأ العفو عنه، خلعت فستانى المملوء بالدماء، وفمى لايزال ينزف، كانت الصفعة كافية لإطلاق سراح أسنانى من فكى، لكن الله لطف.. ارتديت نفس العباءة السوداء المملوءة بالتراب، التى ألقيتها على سريرى منذ قليل، والابتسامة تعلو وجهى الدائرى، ذا الملامح الحادة، والشفاه المكتظة، التى تلوّنت بالأحمر، اقتربتُ من المرآة، لأرى لأول مرّة نظرات الانتصار تملأ عينىّ، لقد فعلتها، نجحت، وتحرّرت ولو مؤقتًا. الآن سأترك غرفتى الكئيبة؛ ذات السرير الحديدى الصغير، المَطلية جدرانها باللون الوردى، رُغْمَ أنه لم يشبه حياتى قط، إلا أن دولابى الأسود الصغير، كان كافيًا للتعبير عن لون معاناتى؛ خصوصًا أننى لم أفرح داخل هذه الغرفة إلا قليلًا، عندما كانت أمّى تحتضننى بشدة، أو تربُت على كتفى، حتى رحلتْ، وضاع معها الحنانُ والأمانُ. كثيرًا ما شعرتُ بقسوة اليُتم، يكفى أننى لم أجد مَن يحتضننى عندما أحتاج لضمة حانية، تنزع منّى آلامَ الأيام.. رحمك الله يا أمّى، نزعتِ الكثير من ألمى، ومحوتِ دموعى ليالى وليالى، جعلتِنى أصبر على قدرى المميت، علمتِنى أن الإنسان لا يختار أقدارَه؛ هى امتحان علينا أن نجتازه بنجاح، شاكرين الله على السّرّاء والضّرّاء، مجتنبين ما نهانا عنه. أعلم يا أمّى أننى قسوتُ على أبى، ونهرته بمائة أُفٍّ، لكنك تعلمين جيدًا، ومن قبلك ربى، أن هذا الرجُل فعل كل شىء لقتلى، وبسَبْق الإصرار والترصّد، فقتل بغلظته الإحساسَ بداخلى، وانتزع رحمتى بقسوته، وجنى بعضًا من جزائه متأخرًا، وعلى يدى. سامحونى جميعًا على ما فعلت، المجنى عليه من البداية، كان أنا، أشفيتُ غليلى قدر ما استطعت، لكن كان لا بُدَّ من ضرب كرسى فى الكلوب، حتى يصير السوادُ الكاحل بداخلى؛ واقعًا يحاصر الجميعَ، لعل أحدَهم يمنحنى شعاعَ أمل، يضىء ظلمة حياتى الموجعة، وهو ما حدث.. فالآن سأخرج إلى النور، بعيدًا عن بيتى الكئيب، القاتل بسكين باردة، سأذهب إلى تلك المُسنة، علّها تكون حانية، وتأخذ بيدى، وتُحيى ما مات بداخلى، لنرَ. يتبع