قبل تسعة عشر عامًا، وتحديدًا عام 2001، قدَّم الفنان الراحل «محمود عبدالعزيز» فيلم (الساحر) أحد إبداعات المخرج الفيلسوف «رضوان الكاشف»، لم يكن (الساحر) من أنجح أفلامه، فقد قدم قبله، وبعده، أفلامًا أكثر أهمية، وتميُّزًا، ولا يزال يذكرها الجمهور، ويذكر له منها جملًا حوارية، ومشاهد، تحولت بمرور الزمن إلى أيقونات محفورة فى الأذهان، وصالحة للاستخدام فى كثير من المواقف الساخرة التى عبَّر عنها فى أفلامه بكل صدق، لكن ما يُميِّز هذا الفيلم تحديدًا الذى قدمه «عبدالعزيز» قبل خمسة عشر عامًا من رحيله. بعد مسيرة فنية طويلة بدأت منذ أوائل السبعينيات هو اسمه الذى تحول بمرور الوقت، إلى لقب للفنان الراحل، ظل ملاصقًا له حتى بعد رحيله، ولعل تنوعه فى الأداء، وقدرته على التلون بلون الشخصيات التى قدَّمها بشكل ساحر، كان دافعًا قويًا للجمهور لكى يمنحه هذا اللقب دون تخطيط منه بعد مسيرة فنية طويلة امتدت أربعة عقود، قدم فيها أكثر من تسعين فيلمًا، وخمسة عشر مسلسلًا معظمها شكَّل علامات فارقة فى مسيرته الفنية. نداهة الفن لكن اللقب ليس هو الأمر الوحيد الذى لم يسع إليه الساحر، وجاءه عن استحقاق، بعد جهد ودأب، فالمتأمل لمسيرة «عبدالعزيز» حتى قبل دخوله إلى عالم الفن، يجد كمًا من المفارقات، والتحولات التى لا تعبر إلا عن كونه (مزاجنجي) يسعى دائمًا إلى أن يقدم ما يحب، مهما كلفه ذلك من وقت، أو مجهود. فقد اختار أن يلتحق بكلية الزراعة جامعة الإسكندرية، وحصل منها على البكالوريوس عام 1966، وأكمل دراسته فيها حتى حصل على درجة الماجستير فى تخصص تربية النحل، لكن هواية التمثيل التى بدأ ممارستها من خلال فريق مسرح الكلية، جعلته يشعر أن سعادته فى هذا الطريق، فحوَّل مسار حياته تمامًا، واختار أن يستجيب إلى نداهة الفن، وأن يغلق الباب تماما على تخصصه الذى أضاع فى دراسته سنوات. لكن الأمر لم يكن بهذه البساطة، فقد عانى كثيرًا من الإحباطات حالت بينه وبين تحقيق حلمه بالوقوف أمام الكاميرا، ودفعته إلى السفر إلى النمسا للبحث عن وظيفة، حتى استقر به الحال بائعًا للصحف على أحد أرصفة فينيا، قبل أن تعيده نداهة الفن إلى أرض الوطن من جديد، ليستقبله أحد أعمدة الدراما المخرج الكبير «نور الدمرداش» ويساهم فى وضعه على الطريق الصحيح. السعى خلف الهدف، والدأب المستمر، ومحاولة التغلُّب على الإحباطات سمات أساسية فى شخصيته، يرافقها قليل من الحظ، ويبرز ذلك مثلا فى احتضان المخرج الكبير «نور الدمرداش» له فى بداية مشواره، حيث أسند له دورًا صغيرًا فى مسلسل (كلاب الحراسة) تبعه بعد ذلك دور فى مسلسل (الدوامة) الذى يعتقد الناس خطأ أنه الدور الأول لمحمود عبدالعزيز فى التليفزيون، لكن الأهم من هذه الأدوار، والفرص هى النصيحة الذهبية التى أسداها إليه «الدمرداش» والتى ظلت تنير له طريقه حتى وصل إلى كل هذه النجومية، وفى حوار قديم له، تحدث «محمود عبدالعزيز» عن فضل «نور الدمرداش» عليه، حيث يقول (تعاملت معه فى أول مسلسل لى (كلاب الحراسة) ووقتها أسند لى دور ضابط مخابرات إسرائيلى فى المسلسل قلت له: (بصراحة يا أستاذ أنا خايف أعمل الدور ده)، فسألني: لماذا؟ فقلت له: (خايف الجمهور يكرهنى من أول دور وخايف أكثر أن يحصرنى المخرجون فى هذا الدور)، فقال لي: التليفزيون عندنا فيه 5700 ممثل مش عايزك تبقى رقم 5701 عايزك تبقى محمود عبدالعزيز.
وظلت هذه الجملة تتردد دائمًا فى أذنى وجعلتنى أقدم الشخصية بشكل مختلف، وحينما بدأ الدمرداش فى الاستعداد لمسلسل (الدوامة) مع محمود ياسين ترك لى الدمرداش حرية اختيار الشخصية التى أقدمها فقدمت شخصية (إبراهيم)، وبعد نجاحى فيها فاجأنى الدمرداش بقوله: (أتمنى لو أن ابنى شريف يكون مثلك) هارب من التنميط الوسامة سلاح ذو حدين، وقد تساهم أحيانًا فى جعل صاحبها محصورًا فى شكل معين من الأدوار لا يستطيع الخروج عنه، لكن «محمود عبدالعزيز» تعامل مع وسامته بذكاء شديد، فعندما انطلق فى السينما عام 1974 بفيلم (الحفيد) أول أدواره على الشاشة، لفت أنظار المخرجين إليه، فجاءته بطولة فيلم (حتى آخر العمر) وقدم بعدها بطولة 25 فيلمًا، كان فيها (الجان) معشوق النساء، وكانت قصصها تدور حول الحب، والمغامرة، لكنه أدرك بذكائه أن استمراره فى تقديم هذه النوعية من الأدوار لن يسمح له سوى بمساحة محدودة جدًا من الأدوار لن يقبل فيها أن يكون بديلا ل«حسين فهمى» الذى ارتفع أجره فى تلك الفترة، وقرر المنتجون أن يبحثوا له عن بديل، فكان القرار بعد ست سنوات من الدخول إلى عالم السينما بالمشاركة فى فيلم (العار) عام 1982، الذى رسخ من خلاله لنجومية مختلفة، تعتمد على الأدوار الصعبة، التى لا يكون الشكل الوسيم أحد عوامل نجاحها. ودارت فى (العار) مباراة تمثيلية رائعة بينه وبين «نور الشريف، وحسين فهمي» خرج الجميع فائزا منها، حيث حقق الفيلم نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، ثم قدم فيلم (العذراء والشعر الأبيض) الذى ظهر فى النصف الثانى منه كرجل كبير، تجاوز مرحلة الشباب، وبعدها قدمه المخرج على عبدالخالق والسيناريست محمود أبوزيد فيلم (الكيف) عام 1985، كشاب مدمن، فشل فى دراسته، وقرر العمل مطربًا فى فرقة شعبية لإحياء الأفراح، لكن إغراءات المال تصبح سببا فى ضياعه، وبخلاف التفرد فى الأداء الممزوج بخفة الدم الذى قدمه «عبد العزيز» فى هذا الفيلم، فقد استطاع من خلال هذا الدور تقديم رسالة تحذير من اعتياد العشوائية فى مجال الفن، أو ما نعانى منه الآن تحت اسم (أغانى المهرجانات الشعبية) فقد ظهر المخرج فى المشهد الأخير من (الكيف) يستقل سيارة أجرة، بينما السائق الفنان «على الشريف» يستمع فى الكاسيت إلى مطرب صوته قبيح، ويدور بينهما حوار حول هذه النوعية من الأغانى الهابطة، ويعلق السائق إنه اعتاد الاستماع إليها. وإذا كانت الثمانينيات مليئة بالمحطات السينمائية المهمة التى يصعب الحديث عنها جميعا، فإن التسعينيات، والألفينيات بهما العديد من الأدوار التى لا يمكن محوها من الذاكرة السينمائية، على رأسها الشيخ حسنى فى (الكيت كات) وعبد الملك زرزور فى (إبراهيم الأبيض) أعمال الجاسوسية..لعبة أتقنها إذا كان من الثابت أن مرحلة الثمانينيات قد شهدت نجومية «محمود عبدالعزيز» فى السينما، فهى أيضًا تعد الفترة الذهبية له فى التليفزيون، حيث بدأ فيها فى تقديم الملحمة المخابراتية الأكثر شعبية بين مسلسلات الجاسوسية والمخابرات (رأفت الهجان) والتى قدَّمها على ثلاثة أجزاء لا يفقد الجمهور شغف مشاهدتها جميعا، ومن الإنصاف أن نذكر أنه كان الفنان الأكثر قدرة على تقديم هذه النوعية من الأعمال سواء فى السينما، أو التليفزيون، فلا أحد ينسى تجربته فى فيلم (إعدام ميت) 1985 والذى قيل أنه بكى بشدة بعد انتهاء تصوير مشهد الإعدام فيه فى لأنه تقمص الشخصية وعاش اللحظة بكل تفاصيلها، ولا سيما أن التصوير كان يتم فى سجن حقيقي، أما أجمل ما قيل عن مسلسل (رأفت الهجان) هو أن شوارع مصر لم تكن تخلو من المارة إلا فى ثلاث حالات فقط الأولى عندما كان جمال عبدالناصر يلقى إحدى خطبه فى الستينيات، والثانية عندما كانت أم كلثوم تشدو فى سهرة الخميس الأول من كل شهر فى الستينيات، وأوائل السبعينيات، وجاء مسلسل «رأفت الهجان» ليكون الحالة الثالثة التى كانت تخلو فيها شوارع مصر من المارة عندما يحين وقت عرض المسلسل، فى الثمانينيات، والتسعينيات.